تواصل اجتماعي أم عزلة متفاقمة؟

تواصل اجتماعي أم عزلة متفاقمة؟

في مقدّمة أطروحتي للدكتوراه التي حملت عنوان "لماذا يغنّي الطائر الحبيس"، استخدمت عنوان كتاب السيرة الذاتية الشهيرة للشاعر الأميركية مايا أنجلو، كاستعارة أدبية للهوية الشخصية المرهونة إما بسياق ثقافي أو بسياق الكتروني أو بالاثنين معا، باعتبارهما مُلزِمِين بقوانين الزمان والمكان، وتحدثت فيها كيف بدأت علاقتي بوسائل التواصل الاجتماعي. فأثناء ابتعاثي إلى كندا ومنها إلى بريطانيا، تعاظم احتياجي إلى "التواصل"، وليس إلى مجرد "الاتصال"، بأهلي وأصدقائي وأحبتي في السعودية والعالم العربي، مكاني وانتمائي، وكيف أني وأبناء جيلي حظينا دون غيرنا من مبتعثي الأجيال السابقة بـ"نعمة التكنولوجيا" التي قرّبت المسافات ومنّت علينا بنعمة "التواصل عن بعد". مع تنامي معارفي في هذا العالم وتوسّعي في أبحاث علمية حوله، تنامى لديّ السؤال حول ما إذا كانت تلك الوسائل نعمة أم نقمة على الإنسان. تظل الإجابة القاطعة عن هذا السؤال عالقة، لا سيما كونه سؤالا عريضا تختلف إجابته باختلاف الظروف والعوامل والسياقات. وعلى الرغم من هذا، يمكن الاتفاق على حقيقة هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على الكثير من جوانب الحياة المعاصرة.

تجاوزت التفاعلات عبر الأجهزة الإلكترونية كل أشكال التواصل التقليدية البين شخصية، مما يوقعنا، بوعي منا أو من دون وعي، فريسة ما يسمى بـ"وهم الرفقة"



فلا مناص من حقيقة أن التكنولوجيا أصبحت مهندسة علاقاتنا الحميمة والشخصية وهي التي تدير تفاعلاتنا اليومية، إذ لم يعد مصطلح "العالم الافتراضي" مناسبا لوصف الحال، ليس فقط لأن العالم اليومي بتواصله "التقليدي" امتزج بتفاعلاتنا عبر الإنترنت، بل إن التفاعلات عبر الأجهزة الإلكترونية تجاوزت كل أشكال التواصل التقليدية البين شخصية، مما يوقعنا، بوعي منا أو من دون وعي، فريسة ما يسمّى بـ"وهم الرفقة" باعتباره مكانا متاحا يجمع الآلاف ممن يوصفون بـ"الأصدقاء" عبر التغريدات والمنشورات. فبعدما كانت الجدران القديمة هي ملاذ الشخبطة والتعبير الحر، حلّ جدار "فايسبوك" أو "إنستغرام" أو مساحة التغريدات على "تويتر" محلّ هذا الحيّز السابق.

يبين أحد الأبحاث حول دوافع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في بريطانيا والسعودية، أن الثقافتين والمجتمعين يتشاركان في دافع استخدام وسائل التواصل، إذ بات من الصعب اعتزال تلك البرامج بهدف إثبات وجود الذات والتعبير عنها. هذه الحاجة الملحة لإضفاء معنى على الوجود والتفرّد وإثبات القدرة وترقية الذات التي تمارس عبر وسائل التواصل تسببت بمأزق آخر في العلاقات وفي إدراك معنى الذات، فأوجدت مسمّيات جديدة ومستحدثة للذات، من قبيل "الأنا الجديدة" أو "الوجه الحديث". فأصبحت الفلاتر بمثابة "حارس البوابة" تفلتر الظاهر منا وتتجاهل القيمة الأكبر والأعمق والأشمل والأهم، وهي بناء ذات متماسكة وعلاقات حقيقية، فتحوّل الشخص إلى "مستخدم" والآخر المتلقي إلى "مجهول" يتلقف ما نتفوه به شفهيا أو كتابيا. فنحن نحمل أجهزتنا معنا أينما توجّهنا، لكنها في الواقع هي التي تحركنا. وهذا ما يفسره مصطلح مستحدث للتفاعلات الإنسانية على الإنترنت، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، يسمى "تسطيح السياق" أو "انهيار السياق"، نتيجة تمدّد المعلومات وتناقلها كقطع مفككة غير مترابطة بين جمهور وآخر، مما يثير مشاعر الغضب أو الإحباط أو سوء الفهم. فالتواصل موجود ومستمر لكنه عائم ومضلل وغير موجه.

هذا ما ذهبت إليه شيري توركل، أستاذة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كتابها "مجتمعون ورغم ذلك وحدنا"، فالوجود المستمر والسطحي للآخر سيؤدي في نهاية الأمر إلى عزلة عميقة إن لم يُستوعب، وقد يساهم استخدام التكنولوجيا، بالتالي، في تدهور حياتنا وعلاقاتنا العاطفية باعتباره عالما يغري بالهروب من عالمنا ومن الآخر الذي نريد وجوده فقط "لبعض الوقت".

ما بين متشائم ومتفائل، تأتي الرؤية العلمية لتساعدنا على إزاحة المغالطات وما لا تستطيع ترجمته لغة الخوارزميات محاوِلة الإجابة عن التساؤل الآتي:

لماذا تُتهم وسائل التواصل الاجتماعي بتحويل الناس إلى جزر متباعدة في حين أنها يجب أن تسخّر لدعم مبدأ القرية الواحدة و"المواطنة العالمية"؟

الاجابة المختصرة أن هناك أسبابا مرتبطة بهاجس الخصوصية والرقابة، وأسبابا أخرى مرتبطة بالمستخدم، وأخرى مرتبطة بالسياق الإلكتروني وطبيعته، وكلها تحتاج إلى توقف بحثي وعلمي للافادة من مخرجاتها. وبحسب ما توصلت إليه سلسلة من الأبحاث، فإنّ البشر يريدون هذا الآخر ويحتاجونه، لكنهم يريدون أيضا الحفاظ على مسافة منه كي لا يقتحم حياتهم. فتلك الوسائل المطيعة والتي يمكن تطويعها بتغيير بسيط في إعدادات الخصوصية، تتيح كتابة ما نشاء وفي أي وقت، كما تتيح لنا فرص الرد الموجز عبر رسالة نصية أو عدم الرد أو اختلاق الأعذار لعدم الرد. فنقرةٌ بطرف الإصبع تبني جدارا عاليا بيننا وبين الناس، ومع هذا هم موجودون "وقت الحاجة". ومن الزاوية الأكثر ظلمة للأمر، هذا يسهل خطاب الكراهية والرفض من خلال الرد المتعالي أو اللا إنساني، لأن المرء لم يعد يرى سوى صورة ذاته وساعد "السيلفي" و"الفلاتر"، مما رفع مستوى النرجسية والشعور بالاستحقاق والإنجازات الوهمية والعلاقات الهشة لمن لديهم في الأصل تلك القابلية، وتصديق كلّ ما يصل من معلومات دون تحقق أو تمحيص.

فأحد تفسير التغيرات في العلاقات وتعلّقنا بأشخاص لا نراهم سوى عبر الشاشات، هو "تحيزات المكانة أو الوجاهة"، وهو قانون معرفي اجتماعي يدفع إلى متابعة محمومة وتقليد أعمى للشخصيات المشهورة لمجرد شهرتها لا بسبب قيمة ما تقدمه، لأن الافراد يميلون إلى الاعتقاد بأهمية المشهور فيكونون نماذج جذابة للتقليد ويتعلمون منهم مهارات وعادات، حتى الضار منها مثل السلوك الاستهلاكي وأخطر منه نزعات الانتحار، كما يتورطون أحيانا في علاقات عاطفية من طرف واحد.

تمدّد المعلومات وتناقلها كقطع مفككة غير مترابطة بين جمهور وآخر، يثير مشاعر الغضب أو الإحباط أو سوء الفهم، فالتواصل موجود ومستمر لكنه عائم ومضلل 

التكنولوجيا مغرية ولها بريق يحملنا بعيدا من نقاط ضعفنا الواقعية ويسمح لنا بدخول عالم "وهم الرفقة" دون متطلبات الصداقة. عالم افتراضي يمنح القدرة على بناء صورة رمزية ومنزل وعائلة وحياة اجتماعية. فيبني صورة متخيلة ويرسل إلى الدماغ فكرة: "أخيرا، لديك مكان تحب فيه جسدك، وتحب أصدقاءك، وتحب حياتك". في هذه "الحياة الثانية" أو البديلة، ينشئ الأشخاص صورا رمزية لتمثيل أنفسهم غالبا ما تكون أكثر ثراء وشبابا ونحافة وعصرية من ذواتهم في الحياة الواقعية. فمثل هذه التداعيات الاجتماعية للتكنولوجيا، التي تخلق من الشخص هويات غالبا لا ترتبط بواقعه اليومي ولا تعكس حقيقة شخصيته، إنما تدفعه إلى انشطار في الهوية، وهذا الانشطار أو الغربة عن الذات قد يكونان مساحة لاكتشاف الذات ومعرفة جوانب لم تكن مطروقة في دهاليز الشخصية، لكن الخطورة أن هذا قد يحدث بشكل غير صحي غالبا، خاصة لدى الشباب والمراهقين من الجنسين، وعلى وجه الخصوص في مجتمعات لا تسمح أعرافها وتقاليدها بإقامة علاقات صداقة بين الجنسين، فتتم تلك العلاقات تحت ستار من السرية بلعبة التواصل من خلال ما يسمى الـ Sexting  وتعني تبادل الرسائل ذات المحتوى الجنسي، ولكم تخيل عواقب مثل تلك التفاعلات الإلكترونية.

خلال دراسة أجريت عام 2021، استخدم الباحثون تطبيق "إنستغرام" لمعرفة العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي والرضا عن العلاقات، فوجدوا أن استخدام هذا التطبيق بإفراط أدّى إلى انخفاض مستوى الرضا عن العلاقة بين الشركاء والأزواج وزيادة في الصراع الذي أدى بدوره إلى إدمان استخدام التطبيق، وخلق مشكلة سلوك تواصلي جديد أطلق عليه اسم phubbingأي إشعار الشخص الذي نرافقه بالتهميش والإهانة نتيجة الانشغال المستمر بهواتفنا الذكية. على سبيل المثل، إذا جلس شخصان لإجراء محادثة وجها لوجه واستمر أحدهما في مشاهدة تطبيقات التواصل الاجتماعي والتحقق من الإشعارات، فهذا يعني أن هذا الشخص يقوم بإجراء مكالمة هاتفية مع الآخر ويقلل شأن حضور هذا الذي أمامه، وهذا بالطبع سلوك يتعارض مع الأعراف الاجتماعية ويتولد منه قلق على العلاقة، وانخفاض في التواصل العاطفي، وتهديد للثقة وزيادة الغيرة. فبينما نظن أننا نتواصل ونتشارك، إذا بنا نبني حواجز وقلاعا وحصونا.

font change
مقالات ذات صلة