مؤرخ تركي: الانتخابات المقبلة قد تكون الأخيرة

جنكيز تشاندار في حوار مع "المجلة"

AFP
AFP

مؤرخ تركي: الانتخابات المقبلة قد تكون الأخيرة

طوال خمسة عقود كاملة، احتل الصحافي والمؤرخ جنكيز تشاندار مكانة خاصة في المشهد السياسي والثقافي في تركيا. وكان خلال تلك العقود واحداً من أشهر كُتاب الأعمدة الصحافية؛ المصدر الأساسي لتشكيل الرأي العام في البلاد، كما كان إعلامياً بارزاً وصاحب رأي مسموع على القنوات التلفزيونية التي تضاعف عددها منذ أوائل التسعينات. إلى جانب شبكة واسعة من العلاقات الشخصية والمهنية، جمعته مع مختلف القادة السياسيين الأتراك خلال هذه المراحل، من الرئيس السابق تورغوت أوزال، وكان تشاندار مستشاراً سياسياً له، مروراً برئيسي الوزراء بولانت أجاويد، ومسعود يلماز، اللذين كانا يعتبران تشاندار واحداً من أكثر العارفين بالعلاقات الإقليمية والشؤون الداخلية، وصولاً إلى عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي دعمه تشاندار خلال سنوات حكمه الأولى، لكنه ما لبث أن أصبح واحداً من أبرز منتقديه.

وبعد سبع سنوات من العيش في "منفى اختياري" خارج تركيا، استمر خلالها صوتاً مسموعاً داخل الأوساط السياسية والشعبية في الداخل، عاد تشاندار إلى تركيا منذ عدة أيام، ليقود حملته الانتخابية كمرشح لعضوية البرلمان في الانتخابات المزمع إجراؤها في منتصف شهر مايو/أيار القادم، عن ولاية ديار بكر، وعلى قوائم حزب "اليسار الأخضر" ذي القاعدة الجماهيرية الكردية؛ فالحزب المذكور يضم ضمن لوائحه الانتخابية كثيرا من المفكرين والمثقفين والإعلاميين وقادة الرأي "الأتراك"، رغم الهوية "الكردية" لناخبيه بشكل شبه مطلق.

Getty Images
المؤرخ التركي جنكيز تشاندار في ندوة بمقر المفوضية الأوروبية في بروكسل عن العلاقات التركية-الأوروبية، يوم 26 يناير 2016.

كان تشاندار مستشاراً سياسياً لتورغوت أوزال، مروراً برئيسي الوزراء بولانت أجاويد، ومسعود يلماز، اللذين كانا يعتبران تشاندار واحداً من أكثر العارفين بالعلاقات الإقليمية والشؤون الداخلية، وصولاً إلى عهد الرئيس رجب طيب أردوغان.


حاورت "المجلة" جنكيز تشاندار، وسألته عن أبرز تغيير لاحظه في المشهد السياسي والحياة العامة التركية بعد سنوات غيابه، ومواجهته لمحاكمة جنائية بسبب "تغريدة" نشرها على حسابه الخاص في "تويتر". يرد تشاندار أن "انهيار الخوف من الرئيس أردوغان، بعد تسيده وسيطرته على الفضاء العام طوال السنوات الماضية، هو أوضح معلِم تبدل تماماً في تركيا"، مستدلاً على ذلك بالمؤشرات واستطلاعات الرأي العام الأولية لنتائج الانتخابات المرتقبة، فالقواعد الانتخابية تعلن جهاراً معارضتها للرئيس وحزبه. وجزء واسع منها يستشعر قوة ذاتية مضافة لأول مرة، بعدما صار يرى إمكانية واضحة للإطاحة بأردوغان في المستقبل المنظور.

يرسم تشاندار هرماً من الأسباب المتداخلة التي أوصلت المزاج العام إلى هذه العلاقة المتوترة مع الحكم، بدءا من الأزمة الاقتصادية والمالية "المدمرة" والمُغرقة للدولة والمجتمع خلال السنوات القليلة الماضية، حتى صار التضخم وزيادة أسعار السلع حدثاً يومياً، مروراً بإحساس القواعد الاجتماعية أن حكم أردوغان صار مُتعَباً ومُتعِباً، بعد عشرين عاماً من الحكم، وتالياً باتت مسألة وضع حدٍ له شيئاً مُلحاً. 

مع الأمرين، يُشير تشاندار إلى النجاح السياسي الباهر لقوى المعارضة التركية التي التقت ضمن منصة سياسية واحدة هي "الطاولة السداسية"، رغم اختلافاتها الآيديولوجية وخلافاتها السياسية، وقدمت مرشحاً رئاسياً واحداً، استطاع أن يوجد مساراً تواصلياً مع حزب الشعوب الديمقراطية، المؤيد للأكراد، لتقول مختلف استطلاعات الرأي إن المعارضة قادرة- ولأول مرة منذ عقدين- على هزيمة أردوغان في الانتخابات المقبلة.

يرسم تشاندار هرماً من الأسباب المتداخلة التي أوصلت المزاج العام إلى هذه العلاقة المتوترة مع الحكم، بدءا من الأزمة الاقتصادية والمالية "المدمرة" والمُغرقة للدولة والمجتمع خلال السنوات القليلة الماضية.

الزلزال وعجز السلطة

لكن المؤرخ والكاتب التركي يُشير في حواره إلى حدث الزلزال الأخير، ودوره في كشف "عجز السلطة" في تركيا، بكل مؤسساتها وأجهزتها وآليات عملها. فالزلزال دمر منطقة تزيد مساحتها على مساحة دولة بحجم البرتغال. تحطمت خلاله البنية التحتية والعمرانية والخدمية بشكل مريع، وكأنها أحجار الدومينو، بسبب الفساد وتجاوز اللوائح التنظيمية والمحسوبيات في النظام الإداري الذي أسسه أردوغان خلال العقدين الماضيين. فوق ذلك، كانت جهود الإنقاذ فاشلة للغاية، إذ لم تتمكن من انتشال الآلاف من تحت الأنقاض، لذلك "سيكون نظام أردوغان نفسه ضحية لهذا الزلزال، الذي كشفه وحوله إلى أنقاض". 

حول الانقسام السياسي العمودي الراهن في تركيا، بين الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية (الإسلام السياسي) من جهة، وكمال كليشدار أوغلو، مرشح المعارضة وزعيم حزب الشعب الجمهوري "العلماني/الأتاتوركي" على الجهة المقابلة، يضع تشاندار مُحدِّداً واضحاً يميزهما، هو "حُكم الرجل الواحد" كصيغة سياسية وآيديولوجية وسلوكية انتهجها أردوغان خلال سنوات حكمه، وبوتيرة متزايدة كلما تقادم. فيما يقدم المعارضون ما هو العكس، حتى الآن، وحسب إعلان النوايا، على الأقل.

فالتعريف الجوهري لأردوغان، حسب تشاندار، كامنٌ في كونه جهة ساعية للحكم بمفرده، وعبر أدوات قومية "تركية"، معادية للأكراد في الداخل ودول الغرب في الخارج. فيما تسعى قوى المعارضة لتستعيد حكم القانون والديمقراطية البرلمانية، وإعادة الاستقلالية لمؤسسات القضاء والمصرف المركزي، مع سيادة القانون العام على النزعات والرغبات الشخصية. فدون ذلك، يغدو الفصل بين السلطات وتوازنها أمراً غير ذي قيمة، ويفرغ النظام الديمقراطي من محتواه، كما فعل أردوغان بإصرار خلال السنوات القليلة الماضية من حكمه، وستحاول المعارضة استعادته، إذا فازت.

Reuters
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزوجته أمينة أردوغان في جولة انتخابية في إزمير ، يوم 29 أبريل 2023.

في ظل هذا التموضع، يبرز تشاندار مخاوف شديدة من إمكان فوز الرئيس أردوغان في الانتخابات المقبلة، لأنه سيسعى جاهداً لتكون الأخيرة. يشرح تشاندار أسباب مخاوفه قائلاً: "لا يستطيع أردوغان المخاطرة بسلطته من خلال أية انتخابات أخرى، لكنه أيضاً لا يستطيع التعايش مع الأزمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة، حيث كلف الزلزال أعباء مالية إضافية بقيمة 113 مليار دولار أميركي، حسب تقدير البنك الدولي. بذا، يتعين على أردوغان تحويل البلاد إلى دولة حزبية، تُحكم بالقمع، وبالقمع فقط، دون السماح بأية معارضة، وغالباً سيفعل ذلك، ليستطيع التحكم في الحياة العامة".

خلال مسيرته المهنية، عايش تشاندار كثيرا من دورات الحكم في البلاد. كانت الأحزاب السلطوية في كل واحدة منها تفعل عكس ما كانت وعدت به أثناء حملاتها الانتخابية. لأجل ذلك، لا يقدم تشاندار أية ضمانات بشأن حتمية تقديم وتحقيق المعارضة التركية ما هو مغاير لحكم أردوغان. فالحقيقة الوحيدة في المشهد الحالي، ولو فازت المعارضة في الانتخابات، هو زواأردوغان وحكم الرجل الواحد.

يصف تشاندار الأوضاع التي ستواجه تركيا مستقبلاً، في حال خسر أردوغان، بأنها مسار "طويل ومتعرج"، لن تتحول فيه تركيا مباشرة إلى جنة اقتصادية وديمقراطية في ظل حكم كليشدار أوغلو، لكن ارتياحاً عاماً سيسود دون شك، وسيزيد من ثقة المتعبين من أردوغان بأنفسهم وقدرتهم على المبادرة. 

مقابل هذا "التفاؤل الحذر"، فإن تشاندار يرد وينتقد كثيرا من أعضاء النُخبة الثقافية والاجتماعية والفنية والإعلامية التركية، الذين يساوون بين طرفي الاستقطاب السياسي في البلاد، ويُظهرون أنفسهم كحياديين وخارج صراعهما. هؤلاء الذين يجددون راهنا التذكير بأحداث كثيرة شبيهة بهذه في التاريخ التركي المعاصر، منذ صراع السلطان عبد الحميد وأعضاء تيار "الاتحاد والترقي" أوائل القرن المنصرم، الذين شيدوا "شمولية" تفوق شمولية السلطان عبد الحميد التي كانوا يعارضونها بشراسة ويعدون بتقديم حلولٍ ناجزة فيما لو سقط نظام السلطان عبد الحميد. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث! وشهدت تركيا أمثلة كثيرة عن ذلك خلال العقود الماضية، كان أردوغان أقرب وأوضح نماذجها.

لا ينفي تشاندار إمكان أن يتكرر ذلك مرة أخرى، لكن احتمال حدوثه ليس كبيراً للغاية، لأن "الشعب التركي يبحث راهناً عن مستقبل يتسم بالرحابة ومفعم بالأمل، يشغل مكان الاستقطاب الراهن، مستخدماً التسامح والحوار والوحدة الوطنية، من خلال استعادة الديمقراطية ومؤسساتها، والتطلع إلى حياة أفضل، عبر حل المشاكل الاقتصادية جذرياً، وهذا ما لن تستطيع أية سلطة أن تتجاوزه مستقبلاً، ولو في المدى المنظور على الأقل".

طوال سنوات كثيرة، كان جنكيز تشاندار واحداً من الأصوات الفكرية والسياسية التركية النادرة، المؤيدة لإيجاد حل سياسي توافقي للمسألة الكردية في تركيا، حتى إنه شغل خلال أوائل التسعينات موقع الوساطة بين الرئيس التركي السابق تورغوت أوزال وزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، عبر العلاقة الخاصة التي جمعته بالرئيس العراقي السابق جلال طالباني.

AFP
امرأة تركية تلوح بالعلم التركي وصورة للمرشح الرئاسي ورئيس حزب الشعوب الديمقراطي كمال كليتشدار أوغلو في مسيرة انتخابية بمدينة كوجالي، يوم 28 أبريل 2023.

مسترجعاً خبرة سنوات كثيرة أمضاها في "زواريب" المسألة الكردية في البلاد، يخبرنا تشاندار عن الصعوبات التي تواجه فرص حل القضية الكردية عما قريب، التي يراها "التوأم السيامي" للديمقراطية في تركيا، ماضياً وراهناً، إذ لا يمكن تحقيق أي منهما دون تحقيق الأخرى.

يفضل تشاندار "التريث" في تحديد المسارات التي ستأخذها القضية الكردية في تركيا خلال السنوات القادمة، حتى لو فازت المعارضة في الانتخابات المقبلة، مذكراً بعدد من العوامل التي تزيد من تعقيد إيجاد حلول ما للقضية الكردية "أصبح الملف الكردي أثقل، وأكثر تعقيداً، بالذات بسبب ما طرأ عليه خلال العقد الماضي، لاسيما التطورات المتعلقة بشمال سوريا".

التعريف الجوهري لحكم أردوغان، حسب تشاندار، كامنٌ في كونه جهة ساعية للحكم بمفرده، وعبر أدوات قومية "تركية"، معادية للأكراد في الداخل ودول الغرب في الخارج.

كتلة برلمانية مؤيدة للحقوق الكردية

يستدرك تشاندار إجابته موضحاً: "لكن، يجب أن لا ننسى صحة الشعار: ما لم تحل القضية الكردية، لا يمكن لتركيا أن تتحول إلى نظام ودولة ديمقراطيين؛ فالقضية الكردية هي مشكلة تركيا الأساسية"، منوهاً إلى حالة الوفاق النادرة التي تجمع الحزب الأتاتوركي (الشعب الجمهوري) مع نظيره المؤيد لحقوق الأكراد (الشعوب الديمقراطية)، الأمر الذي لم يحدث في أي وقت سابق في تاريخ تركيا الحديث... "هناك إجماع بين كليشدار أوغلو والحزب الموالي للأكراد، الذي سيصبح فاعلاً أساسياً في البرلمان التركي الجديد، والجهة التي ستحمل المسألة الكردية داخل البرلمان، وتطالب بمعالجتها. إذ تذهب التوقعات إلى إمكان حصوله الحزب المؤيد للأكراد على 100 مقعد من أصل 600 مقعد، وهذا سيكون حاسماً في توفير أغلبية لكتلة كليشدار أوغلو الائتلافية لتمرير أي تشريع، بما في ذلك تغيير الدستور. وبالتالي، سيكون البرلمان الجديد بداية واعدة ومبشرة لحل المشكلة الكردية، لكنه يحتاج إلى طريق طويل للوصول إلى حل نهائي. لكن، وما دام أن أردوغان والتحالف الجامع بين حزبه وحزب الحركة القومية لم ينتهِ بعد، فإن حل المشكلة الكردية أمر مستحيل تماماً".

المرشح الرئاسي ورئيس حزب الشعوب الديمقراطي كمال كليتشدار أوغلو يلقي كلمة أمام أنصاره في مدينة تكيرداغ، يوم 27 أبريل 2023.

يقود تشاندار حملته الانتخابية في مختلف أنحاء ولاية/محافظة ديار بكر، في أقصى جنوب شرقي تركيا، حيث الغالبية السكانية الكردية شبه المطلقة، ومركز التأثير المعنوي والثقافي للحركة القومية الكردية منذ قرابة قرن. ويخاطب القرويين وأبناء الأحياء الطرفية من المدينة بالقليل من لغتهم الأم التي يعرفها؛ اللغة الكردية التي ما تزال ممنوعة من التداول في أكثر من مجال في تركيا، بالذات في المحاكم والجيش والمؤسسات التعليمية وكل الوثائق ومراكز الإدارة الرسمية.

يقود تشاندار حملته الانتخابية في مختلف أنحاء ولاية/محافظة ديار بكر، في أقصى جنوب شرقي تركيا، حيث الغالبية السكانية الكردية شبه المطلقة، ومركز التأثير المعنوي والثقافي للحركة القومية الكردية منذ قرابة قرن.


AFP
المعارضة السياسية البارزة ميرال أكشينار وزعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو في تجمع انتخابي في مدينة كوجالي، يوم 28 أبريل 2023.

يرى تشاندار في هذا الأمر تعبيراً واضحاً عن استعصاء الديمقراطية في تركيا، مذكراً بكونه يحمل كثيرا من الاستنتاجات و"النصائح" التي سيوجهها لأي حاكم جديد لتركيا، أياً كان، إذا ما وجد طريقا لملاقاته. وفي مسائل تتعلق بتعميق الديمقراطية والتعامل مع إرث الإسلام السياسي وملف اللاجئين المقيمين في تركيا وحقوق الإنسان والمساواة الجندرية.

فإن تشاندار كان قد رفض الانخراط في العمل السياسي لأكثر من ستة عقود، مع أن مختلف القادة السياسيين الأتراك قد طلبوا منه فعل ذلك خلال هذه العقود. لكنه عاد ووافق راهناً، وفي برهة واحدة ودون تردد، حيث حزم حقائبه وترك المنفى، كما أخبرنا؛ لأنه صار يستشعر أن تركيا تعيش أكثر سنوات تاريخها المعاصر مصيرية. 

font change