روابط أدبية بين قريبين بعيدين

روابط أدبية بين قريبين بعيدين

تجسّدت العلاقة بين الأدبين التركي والعربي في الشعر العثماني الذي نسميه "الأدب الديواني". تعرف الأدباء الأتراك على البحور الشعرية العربية عبر الأدب الفارسي. واللغة التركية، التي كانت لغة محكيّة في الحياة اليومية ولم تكن مستخدمة في مجال الأدب، أصبحت أكثر ثراء بفضل أخْذِها مفردات من اللغتين العربية والفارسية.

لم ينتج الشعراء الذين كتبوا باللغة التركية قصائد فحسب، بل درسوا أيضا القصائد العربية. وتحتلّ "قصيدة البردة" لكعب بن زهير مكانة مهمة من بين هذه الأمثلة، وقد ترجمها إلى اللغة التركية للمرة الأولى الشاعر العثماني شيخ الإسلام يحي في القرن السابع عشر. من ناحية أخرى، كتب كمال باشا زاده شرحا على خمرية الشاعر الصوفي ابن الفارض الذي عاش في القرن الثالث عشر.

وقد أعيدت في الشعر العثماني كتابةِ بعضِ القصص المعروفة في الأدب العربي، على غرار قصة "مجنون ليلى" التي أعاد كتابتَها أدباء أتراك كثيرون، فنجد أزْيَدَ من عشرين نسخة من قصصٍ تحت عنوان "ليلى ومجنون"، أشهرُها لثلاثةِ شعراءَ معروفين، وهُم: الشاعر شاهِدي بالتركية العثمانية، والشاعر علي شير نَوائي بالتركية الجاغاتائية، والشاعر فُضولي بالتركية الآذرية. يتميّز ديوانُ الشاعر شاهِدي بتعمُّقه في الجانب الصوفي للقصّة، وإعطائه تفاصيلَ أكثرَ مقارنة بالنُسَخ السابقة. كما يتميّز ديوانُ علي شير نَوائي بالسرد الحيّ للقصة ولغتها المتينة. أما قصّةُ الشاعر فُضولي فهي تحفة في اللغة التركية بجمال أسلوبها، وحميميتها، ومقاربتها للجانب الصوفي للقصة، حتى تبدو القصة كأنها أُبدعتْ باللغة التركية للمرّة الأولى. هذه القصة المشتركة في الأدب العربي والفارسي والتركي، وُلدتْ في صحراء نَجْد باعتبارها قصّة حقيقية باللغة العربية، لتنتشر منها إلى بغداد وخُراسان ومناطقَ إسلامية أخرى لتتحوّل إلى قصّةٍ صوفيّة بلغاتٍ إسلامية أخرى.

وليس الأمر مختلفا كثيرا إذا نظرنا إلى الأدب التركي الحديث، لكن العلاقة، هذه المرة، تشوبُها هستيريا زمن القوميات. وهنا أشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أديبين عربيين في الأدب التركي، وُلدا وتربيا في الأراضي العربية، وانتقلا فيما بعد إلى إسطنبول عاصمةِ الإمبراطورية العثمانية، لكنهما لم يتمكنا من التغلُّب على مَزاجهما الخجول في البيئة الجديدة التي جاءا إليها من "الريف". لقد استغرق الأمرُ وقتا طويلا حتى يُثبتا أنهما ضمن "المحيط الأدبي" في إسطنبول. هذان الأديبان هما: أحمد هاشم، وبَكر إلهامي تيز.

لم ينتج الشعراء الذين كتبوا باللغة التركية قصائد فحسب، بل درسوا أيضا القصائد العربية. وتحتلّ "قصيدة البردة" لكعب بن زهير مكانة مهمة من بين هذه الأمثلة


يُعتبر أحمد هاشم الذي وُلد في بغداد عام 1887 من رُوّاد الرمزية في الشعر التركي الحديث، ولديه فهمٌ فريدٌ للشعر والنثر. ينتمي نَسَبُه إلى عائلة الآلوسي في بغداد. وكان والدُه قائمقاما لمدينة الحلّة في العراق. يمكن في شعره اقتفاءُ آثارِ رحلاتِ الشاعر على طول ضَفافِ نهرِ دجلة مع والدتِهِ المريضة. عندما كان أحمد هاشم في التاسعة من عمره، جلب إلى إسطنبول للدراسة وتحسين لغته التركية. وكان أصدقاؤه في مدرسة غلاطة سراي السلطانية يدعونه "هاشم العربي" نظرا للغته التركية الركيكة. استُخدم هذا اللقب فيما بعد للمدح أحيانا وللذمّ أحيانا أخرى طَوال حياته. وينتقد أحمد هاشم المتطرّفين من القوميّين الأتراك الذين لا يَرَوْنَهُ من أقحاح الأتراك، قائلا: "إذا ثمَّةَ حربٌ فأنت تركيٌّ، قالوا لك: تعالَ إلى جبهة المعرَكة، لكنْ إذا عمَّ السلام وأنت بحاجة إلى عمل أو وظيفة قالوا لك: ماذا تفعل في تركيا، ارجعْ إلى بغداد!".

أما إلهامي بَكِر تيز فقد وُلد عام 1905 في طرابلس الغرب بليبيا. اسمه الأصلي اَلْحامي بَكِر الطُّوَيْبي. بعد صدور قانون الألقاب في تركيا، لم يُقبَلْ لقبُه "الطويبي" في دائرة الأحوال المدنيّة بحجة أنها كلمةٌ "أجنبية"، فاستخدم كلمة "تيز" بمعنى سريع لقبا لنفسه. هاجَرَ الكاتبُ الذي فقد والدَيْهِ في سنٍّ مبكّرة مع عمّه إلى إسطنبول. لكنه بعد فترة فقد عمَّه أيضا، فنشأ في دار الأيتام. له رواية تحت عنوان "رواية من الرّوايات" صدرت عام 1965، وهي روايةٌ ذاتُ ملامحَ سيرة ذاتية.له حفيد شاعر معروف في الأدب العربي الحديث هو عاشور الطُّوَيبي.

الأدبان العربي والتركي بمثابة قريبين بعيدين وبحاجة إلى معرفة بعضهما بكل جوانبهما للانطلاق إلى معرفة أقوى أكثر حركية وأكثر تفاعلا سواء من خلال الترجمة المتبادلة أو دراسات الأدب المقارن.

font change