"عين الحلوة"... جولة أخرى من "حرب الآخرين" أم هروب من المسؤولية؟

AP
AP

"عين الحلوة"...
جولة أخرى من "حرب الآخرين" أم هروب من المسؤولية؟

يصر بعض اللبنانيين على استخدام عبارة "حرب الآخرين على أرضنا"، لوصف جولات العنف التي شهدها لبنان خلال الحرب الأهلية، وهو إما للتهرب (نفسيا) من تحمل أعباء العنف، وإما لسهولة رمي مسؤوليته على عاتق الغرباء.

أستعيد هذه العبارة أو أستعيرها، لأسقطها على دورة العنف الجديدة، التي تطحن مخيم عين الحلوة الفلسطيني، في مدينة صيدا جنوبي لبنان، منذ نحو أسبوعين.

لقد خطرت ببالي، وأنا أعبر صيدا أمس، قاصدة الجبل، هربا من درجات الحرارة المرتفعة في بيروت، لأجد حرارة المعارك المشتعلة في المخيم، تنتظرني عند مدخل المدينة، أصوات قذائف ودوي انفجارات وأزيز رصاص، وأخبار عن عدد لا يحصى من القتلى والجرحى والمشردين!

وعلى هدي حسي الأمني المكتسب من خبرات هروب في حروب سابقة، أدرت السيارة باتجاه الأوتوستراد البحري، البعيد نسيبا عن مصدر النيران، ضغطت على دواسة البنزين، واستطعت طي المسافة بين جسر الأولي وجسر سينيق في وقت قياسي.

هنأت نفسي بنجاح خطتي الأمنية واتصلت مطمئنة عائلتي، خاصة أننا نحن سكان هذا البلد نمشي وتمشي معنا ذاكرة محتشدة بمشاهد الدم والقتل والدمار والتهجير والخسارات.

قلت سكان البلد، لأشمل ضيوفنا الفلسطينيين ضمنا، الذين طالت إقامتهم بيننا، حتى صاروا منا أو مثلنا، ضحايا معارك وصراعات على السلطة، بين الأطراف السياسية، الداخلية والخارجية على حد سواء.

بلا طول شرح، أعود إلى "حرب الآخرين على أرضنا"، لتأكيد المؤكد بأن ما يجري في مخيم "عين الحلوة"، هو فعليا "حرب الآخرين على أرضه".. الآخرون من الجماعات الإرهابية والتكفيرية والهاربين من العدالة، الذين حُشروا في الأحياء الطرفانية للمخيم، على فترات متباعدة، ليتم استخدامهم لاحقا، كفزاعات أمنية؛ فمع بداية التسعينات، سجل المخيم دخول أولى طلائع الجماعات الإسلامية المتشددة، المعروفة بارتباطاتها العميقة بتنظيم الحرس الثوري وأجهزة استخبارات عدة.

لا يخفى على أحد، من داخل المخيم وخارجه، أن هناك سيناريوهات متعددة موضوعة قيد التنفيذ، على خلفية المعركة الحالية، منها: سيناريو طهران، التي تفضل تقسيم المقسم، إن لم يتسن لها أن تكون جزءا من الحل

وبعد انفجار الأزمة في سوريا، اجتذب المخيم مزيدا من الإسلاميين من كل الجنسيات، فاتخذوه مستقرا لهم، يرعاهم جهاز أمن "حزب الله" اللبناني ويحمل إليهم الأموال والمؤن والسلاح، برغم الطوق الأمني الذي يفرضه الجيش على مداخل المخيم. وظلوا في الوقت نفسه، متمتعين بحرية التنقل، بين لبنان وسوريا ودول أخرى ربما، وبتغطية أمنية من الجهاز نفسه. وسرعان ما تحولوا إلى قوة قتل واغتيال، تعتدي على من تشاء من أبناء المخيم، ثم تنسحب إلى مربعاتها الأمنية، وقوة أمر واقع سياسية، تفرض قرارا سياسيا، وتلغي آخر.

AFP
مجسم لطائرة نخره الرصاص على عمود كهرباء في مخيم عين الحلوة في 4 اغسطس


 
ومنذ وقع أول صدام بينهم وبين والقوى الاخرى المنتشرة في المخيم، اتضحت خيوط المؤامرة على القرار الوطني الفلسطيني ووحدته؛ ففي سبيل السيطرة على القرار السياسي لأي دولة، يجب إسقاط العاصمة أولا، ومخيم عين الحلوة هو عاصمة الشتات الفلسطيني في لبنان، لذلك، كان المطلوب منذ البداية إسقاط العاصمة، ليسهل التحكم بالقرار الفلسطيني وفصله عن مركزه في رام الله، لينشأ عن ذلك مركزيتان، واحدة أصيلة مخترقة وضعيفة، وأخرى بديلة مهيمنة ومدعومة، مما سيؤدي حتما إلى مزيد من الانقسام والتحارب الداخلي والارتهان السياسي، وبالتالي ضمان بقاء القضية الفلسطينية ورقة بيد طهران لمساومة واشنطن على مكاسب سياسية.

هذا الكلام يتداوله أبناء المخيم، ويؤكدون أن أدوات المؤامرة، في الأغلب، فلسطينية، لكن شريانهم الأساسي، هو جحافل من الذين يشتغلون على القطعة، خدمة لجهات إقليمية ومحلية معروفة، ووظيفتهم استدراج الفتن وإشعالها، وقلب المعادلات السياسية، وقتل الهدوء والاستقرار في المخيم، بحسب الملف الذي تعمل عليه القوى المشغلة لهم.

ولا يخفى على أحد، من داخل المخيم وخارجه، أن هناك سيناريوهات متعددة موضوعة قيد التنفيذ، على خلفية المعركة الحالية، منها: سيناريو طهران، التي تفضل تقسيم المقسم، إن لم يتسن لها أن تكون جزءا من الحل.

ومؤخرا، تسارعت وقائع معالجة الانقسام الفلسطيني، حيث التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس برئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في تركيا، وكان الود واضحا بينهما، ثم أتبعتها مصر بخطوة تقريب أكثر تأثيرا، وكادت قضية الانقسام، للمرة الأولى، أن توضع على سكة الحل النهائي، إلا أن طهران، التي استبعدت من هذا التوافق، هالها ما يجري، فقررت نسفه، وحركت بيادقها وبنادقها لإنجاز المهمة.
 
 

لا يخفى على أحد، من داخل المخيم وخارجه، أن هناك سيناريوهات متعددة موضوعة قيد التنفيذ، على خلفية المعركة الحالية، منها: سيناريو طهران، التي تفضل تقسيم المقسم، إن لم يتسن لها أن تكون جزءا من الحل

السيناريو الثاني رئاسي، وبكل أريحية، يقول: لا توافقون على سليمان فرنجية مرشح "حزب الله" لرئاسة الجمهورية، وتسوقون لقائد الجيش العماد جوزيف عون، إذن "لاقونا" في عين الحلوة، وسنسقط هيبته على أسوارها، وسنبرهن لكم، حجم تقصيره وتقصير الجيش عموما، في معالجة ملف المخيمات، ومن الممكن أن يتم استدراج الجيش إلى مواجهة جديدة على غرار "نهر البارد"، تشوه سمعته وسمعة قائده معا، فليس عن عبث القذائف العشوائية، التي كانت من نصيب عدد من النقاط الأمنية التابعة للجيش، حول المخيم، وجرح عسكريين. 

AP
جندي لبناني قرب حاجز للجيش على مدخل مخيم عين الحلوة في 30 يوليو

من السيناريوهات أيضا، السيطرة على القرار الفلسطيني السياسي والأمني داخل لبنان، وفصله عن سياقة الوطني في الداخل؛ فقد فتح الخلاف السياسي، بين الأطراف الفلسطينية على الساحة اللبنانية، شهية بعض الأحزاب والشخصيات السياسية اللبنانية، لمصادرة القرار الوطني الفلسطيني في لبنان، عبر استغلال الصراع المزمن، بين "فتح" و"حماس"، واللعب على التناقضات في قضية الخلاف بين قيادة "منظمة التحرير" في لبنان والسفير الفلسطيني أشرف دبور، والقضية الأبرز، قرار أمن المخيمات.

لهذا، طار رئيس المخابرات العامة الفلسطينية ماجد فرج، فجأة إلى بيروت، ليضع حدا لهذا الانفلات، وليبلغ من يهمه الأمر، أن قرار المخيمات السياسي بيد السلطة فقط، وأمنها بيد "فتح" التي تمثل السلطة، ولم يوفق طبعا، لأن المعارك اندلعت بعد يومين من الزيارة. 

المحصلة هي: ممنوع إنهاء الانقسام، ممنوع بقاء "منظمة التحرير" الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ممنوع حصر السلاح داخل المخيمات الفلسطينية بيد حركة "فتح"، ممنوع على السلطة الفلسطينية أن تطلب دخول الجيش إلى المخيمات لحفظ الأمن، ممنوع التنسيق مع الأجهزة الأمنية اللبنانية، ممنوع تنظيف المخيم وكنس المرتزقة عند الطلب، المسموح فقط المحافظة على المخيمات كبؤر قابلة للاشتعال في أية لحظة.

الوضع الداخلي في لبنان، لا يحتمل مواجهات، الممول مشغول بأمور أكثر إلحاحا، وبغنى عن أي إحراج، وتجربة عين الرمانة مع "القوات اللبنانية" ما زالت طازجة ومُرة، كما أن عين المجتمع الدولي مصوبة على البلد في قضية تفجير المرفأ، والشغور الرئاسي، والإصلاحات الاقتصادية والمالية، وفي قضايا الفساد والأموال المنهوبة وغيرها، كل ذلك لا يسمح بمواجهة لبنانية- لبنانية. إذن، إلى "حرب الآخرين على أرضنا"، دُر... 
 

font change