يميل الفلاسفة والمفكرون إلى التركيز على نظريات المعرفة والأسئلة الوجودية الكبرى التي تتمحور حول معنى الحياة. لكنهم في بعض الأحيان يتناولون هذه المسائل عبر معالجة أمور قد تبدو بسيطة لكنها تؤدّي الغرض نفسه ما دامت تناقش قضايا الطبيعة البشرية. سؤال لماذا نضحك، يأتي ضمن تلك الموضوعات اليومية التي أثارت اهتمام العديد من الفلاسفة.
الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941) نشر في 1900 كتابا بعنوان "الضحك: ثلاث مقالات عن الفكاهة" متأثرا بالكوميديا الفرنسية في ذلك العصر. المفارقة أنه كتاب يفتقر إلى روح الدعابة، وفيه يشير إلى أن "رؤيتنا إلى المناظر الطبيعية، تنحصر في كوننا ندركها بوصفها جميلة وساحرة وسامية، أو العكس سطحية أو قبيحة. مثل تلك الطبيعة، وعلى الرغم مما تنطوي عليه من جمال أو قبح لا تنطوي على أي معان انسانية، لذلك لن تكون مضحكة بالنسبة إلينا". ففي رأي برغسون "كل ما هو فكاهي لا يوجد خارج الإنسان"، ومن ثم "قد تضحك على سلوك قرد أو حشرة ما، لكنك تضحك فقط حين تكتشف في سلوكها سلوكا بشريا مشابها". فنحن نضحك بمقدار ما يحمل الموقف داخله من معان إنسانية مرتبطة بنا. كما رأى أن الضحك لا يمكن أن يحدث مع وجود انفعال حاد، إذ يتطلب روحا ساكنة هادئة قادرة على استقبال الدعابة وإطلاقها.
وقد اتخذت الفلسفة اليونانية القديمة موقفا سلبيا من الفكاهة والضحك، وركزت في أغلبها على الضحك الساخر أو على الضحك الذي يهدف إلى استصغار الآخر دون غيره من أسباب أو دوافع الضحك والدعابة أو الكوميديا أو المزاح. وهذا قد يعكس روح تلك العصور العقلانية. في كتابه "الجمهوية"، اعتبر أفلاطون أن الضحك عاطفة تتجاوز ضبط النفس العقلاني، قائلا إنه لا يجوز لأصحاب الدولة أن يستغرقوا في الضحك "لأنه عادة عندما يفرط المرء في الضحك والقهقهة، سيستثير رد فعل عنيفا ممن حوله". ويبدي أفلاطون انزعاجه مما تذكره "الإلياذة" عن أن جبل "أولمبوس يرتجّ بسبب ضحك الآلهة"، واحتج على ذلك بالقول: "إذا كان من غير المقبول أن يغلب الضحك البشر، فعلينا ألا نقبل به عند الآلهة".
اتخذت الفلسفة اليونانية القديمة موقفا سلبيا من الفكاهة والضحك، وركزت في أغلبها على الضحك الساخر أو على الضحك الذي يهدف إلى استصغار الآخر دون غيره من أسباب أو دوافع
وعلى الرغم من أن أرسطو في كتابه "الأخلاق" يعتبر الذكاء جزءا مهما من المحادثة، فإنه يتفق مع أفلاطون في أن الضحك "وقاحة متعلمة" وحذّر من أن "معظم الناس يستمتعون بالترفيه والمزاح أكثر مما ينبغي... الدعابة هي نوع من السخرية التي تتطلب الحذر". واتفق الرواقيون على أن الضحك يتعارض مع ضبط النفس، وها هو الفيسلوف الرواقي الروماني إبكتيتوس يقول: "لا تدع ضحكك يسيطر عليك، لا ترفع صوتك حين تضحك أو تطلقه للعنان"، حتى أن أتباعه ذكروا أنه لم يضحك على الإطلاق.
الضحك بالنسبة إلى توماس هوبز، وسيلة لإظهار التعالي، فهو "ناتج من التخوف من شيء مشوه في داخلنا ومن إسقاطه على شيء آخر، فهو يشبه من يصفقون لأنفسهم فجأة"، مما يعني أن دوافعه ليست طيبة في كل الأحوال، فيه لمحة من الشر والأنانية والخبث، مع أن وظيفته يجب أن تؤدي وظيفة إصلاح العيوب الاجتماعية كالجمود والتصلب وغياب المرونة والتعالي والفوقية واستصغار الآخر.
أما حنة أرندت (1906-1975)، في كتابها غير المكتمل الذي نشر بعد وفاتها، "حياة العقل" (1977)، فميزت الضحك عن السخرية بقولها: "الضحك بريء ومختلف تماما عن السخرية التي كثيرا ما تحول الآخر إلى خصم". وهذا ما اعتبره علماء النفس يندرج ضمن السلوكيات المضادة للمجتمع، التي تتجاوز كونها اضطرابا في الشخصية.
وفي وجه آخر من المسألة، يعتبر الضحك وسيلة للتخلص من الألم أو من ضغوط الحياة اليومية. فنحن نستحضر الدعابة والمزاح في أشد المواقف حرجا وأكثرها شدة، ولعلنا نتذكر النكات التي أطلقها مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي أثناء جائحة كوفيد19، لتلطيف المواقف والتندر حول كل ما يرتبط بالمرض والموت والخطر، فالضحك يسبغ لونا على الصور القاتمة ويضفي معنى على الحياة. وها هو الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632- 1704) يكتب عن حرية الفكاهة، مبديا وجهة نظر مشابهة عن الضحك، يقول: "سوف تجد الأرواح الحرة للرجال والنساء سبلا أخرى للحركة والتخلص من القيود والهموم". فالحاجة إلى استحضار أمر سخيف يدعو إلى الضحك لإحداث تحول مفاجئ إزاء موقف مثير للتوتر والألم وتحويله إلى أمر بسيط، هو ما يطلق عليه "التنافر في الضحك" حيث أن أكثر النكات شيوعا هي تلك التي نتوقع فيها شيئا ويقال شيء آخر".
أثناء جائحة كورونا تحولت الدعابة إلى استراتيجيا تبناها مستخدمو التواصل الاجتماعي، كنوع من الضماد النفسي الذي يحرر من الخوف. فالإنسان يضحك ليتجاوز مآسيه الشخصية أو العامة ولمواجهة الأوضاع المعيشية المأزومة
في الحديث عن واقعنا اليومي، سواء في التفاعلات اليومية أو عبر العروض الكوميدية أو من خلال ما تبثه منصات التواصل الاجتماعي، نجد أن هناك أسبابا تقف وراء استغراقنا في الضحك ورغبتنا الملحّة في المزاح والدعابة، فنحن نضحك على "الآخر"، ونضحك حين نفسر مواقف معينة بوصفها سخيفة، ونضحك عندما نواجه موقفا صعبا وشائكا يتطلب تحرير شحنة عاطفية وانفعالية. كما يمكن إضافة الضحك الاجتماعي بغرض المجاملة، الذي لا يعبّر في الضرورة عن أي إحساس بالمتعة أو اللفكاهة.
فما نلاحظه من اندفاع البعض لمتابعة حسابات مؤثرين، بضاعتهم الوحيدة الفكاهة والتندر الذي يختلط في كثير من الأحيان مع السخرية والتجاوز على الخصوصيات أو إبداء العصبيات القبلية أو الجندرية، ينبع من الأسباب الآنفة الذكر. لكن وكما ذكرنا، يعتبر أيضا أداة بشرية لمواجهة الصعاب. ففي أثناء جائحة كورونا تحولت الدعابة إلى استراتيجيا تبناها مستخدمو التواصل الاجتماعي، كنوع من الضماد النفسي الذي يحرر من الخوف. فالإنسان يضحك ليتجاوز مآسيه الشخصية أو العامة ولمواجهة الأوضاع المعيشية المأزومة، ولعلّ هذا ما دفع ميلان كونديرا إلى القول "أن تضحك يعني أن تعيش الحياة بعمق"، فحتى الضحك يجب أن يؤخذ على محمل الجدّ.
