الرحيل المبكر لجيزيل خوري النجمة التلفزيونية والسياسية ليس مجرد استطراد لاستشهاد شريكها سمير قصير. إنه إذ يردّنا إلى ذكرى الشهيد الذي سقط في حمّى اغتيال سياسي لحق، وليس بدون أسباب، باغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء الذي دشن اغتياله حملة اغتيالات عارمة، كان سمير قصير من أوائل ضحاياها. يردّنا رحيل جيزيل إلى مقتلة سمير قصير، ليس كاستطراد لها، ولا كواحدة من عواقبها، ولكن كترداد للجريمة الأولى، إذ لا يمكننا أن نفصل بين الرحيلين.
غياب جيزيل، ولو بعد سبعة عشر عاما على غياب سمير، يبدو هو الآخر اختطافا واعتداء وقسوة توازي الاغتيال. إذ بوسعنا أن نعتبره الموت الثاني لسمير، أو الحلقة الثانية من مأساة يمكننا الآن أن نعتبرها أكثر من مأساة عائلية. لقد كانت جيزيل شريكة سمير، لا في البيت العائلي فحسب، ولكن في معركته التي تابعتها بعد رحيله بقوة اثنين هذه المرة. لم تكن بحاجة إلى أكثر من الظهور، ليشعر الآخرون أنها هو بقدر ما هي نفسها، كان وجودها، بدون غضاضة، حياة ثانية لسمير الذي كان أيضا موتها السري، الذي حين أعلن في اليومين الأخيرين، لم يشك أحد عندها في أن سمير مات عنها، وها هي الآن تموت عنه.
كان سمير عارما في اندفاعه الذي بدا، في النهاية، وكأنه إقبال على الرحيل، في حين كانت جيزيل متأنية بحيث صادفها موتها، بعد أكثر من عقد ونصف، لكنه هو الآخر كان متعجلا ولم ترده ابتسامة جيزيل ولا تمهلها، بحيث لم تكن المهلة التي قامت بين الرحيلين، كافية لتستقل جيزيل بحياتها.
لم تكن بحاجة إلى أكثر من الظهور، ليشعر الآخرون أنها هو بقدر ما هي نفسها، كان وجودها، بدون غضاضة، حياة ثانية لسمير الذي كان أيضا موتها السري
لقد داهمنا موتها بقدر ما داهمنا موت سمير، بل لم يسعفنا سرطانها حتى نفرق بين الرحيلين، إذ جاء، على هذا النحو، ليكمل قصة بدأت منذ أكثر من عقد ونصف، وليتم هكذا جريمة وقعت منذ ذلك الحين. ذلك لا يعني البتة أن جيزيل لم تكن هي نفسها، أو أنها استعارة للرفيق الذي ارتضت، منذ غيابه، أن تكون لسانه وصوته. كانت جيزيل نفسها بالتأكيد، بقدر ما سمح لها غياب الشريك بأن تكون، بقدر ما كان هذا الغياب شخصا آخر لها، وبقدر ما كانت ثرية بهذا الازدواج، بهذه الثنائىة التي جعلتها أكثر من حالها، بل جعلتها أكثر بالمطلق، إذ كانت، في هذه الحال، قادرة على أن تكون لبنانية وفلسطينية وسورية، بل وأن تكون أيضا فرنسية وغربية، على أن تكون ما هي ماثلة له، وساعدها موت الشريك على أن تكونه: عالمية وإنسانية في العموم.
يمكننا الآن أن نفتش عن جذر ذلك في لبنانية مزدوجة، في لبنانية مشتركة. كان سمير هذا على الدوام فرنسيا لبنانيا فلسطينيا سوريا. يمكن للبناني في طور من لبنانيته، أن لا يكون فقط لبنانيا، بل إن فوق هذه اللبنانية أفقا يجعل موضوعه أوسع من رقعة بلده. إنه في توسطه في الدنيا العربية وفي العالم، يسعه أن يتفوق على لبنانيته، أو يجعل منها متفوقة على نفسها. عندئذ لن تكون هذه سوى ما يتعالى على نفسه، سوى ما تراه أبعد من حدودها. عندئذ لا يزدوج الشرق والغرب أمامه فحسب، بل يغدو العالم برمته ملعبا له. تغدو الحرية أكثر من لعبة خاصة، وأكثر من شأن محلي. إنها هكذا استشراف للكون والتحام معه. يمكن عندئذ أن لا يبقى له سوى خروج، يقارب التحليق، الى ما يمكن ان يكون كونية لا تمتنع عن أن تكون بؤرة داخلية، وعن أن تكون، مع ذلك، شاملة جامعة. هكذا تغدو للمرء عالمية، ولو بلغة جزئية، ولو بموقع جزئي.
هذا ما يمكن ان ينتهي اليه مثقف لبناني، كما انتهى سمير وجيزيل. لم تكن الفرنسية، مندمجة بالعربية، لاثنين تخطيا الطوائف والأقطار، سوى هذا الانضواء الكوني ولو تحت اسم محلي. هكذا كتب سمير بالفرنسية تاريخ المنطقة، واستضافت جيزيل ذات الجنسية الفرنسية كبار الكتاب والسياسيين في "حوار العمر" و"المشهد" و"مع جيزيل". لقد كان الاثنان لبنانيين، بقدر ما يمكن لهذه اللبنانية أن تكون فلسطينية وسورية، بل وفرنسية أيضا. هكذا يتحول الخروج من الطوائف والشعوب الى ما هو فوقها، ويتعداها، الى ميثاق أممي، إلى إنسانوية دامغة. هكذا يغدو البلد الصغير والمنقسم أكثر من نفسه، ليكون فوقها، وليحول ضيقه وانقسامه إلى بؤرة كونية. رحل سمير واليوم رحلت جيزيل، لكننا ونحن نشيعهما معا، نفكر بلبنان آخر كان يستحقهما.
هذا ما يمكن ان ينتهي اليه مثقف لبناني، كما انتهى سمير وجيزيل. لم تكن الفرنسية، مندمجة بالعربية، لاثنين تخطيا الطوائف والأقطار، سوى هذا الانضواء الكوني ولو تحت اسم محلي
غابت جيزيل كما غاب سمير. لن نمشي في إثر جيزيل كما يفعل البعض للتغطية على الموت. لن نقول لها سلمي على سمير، ولن نحتفل بموتهما من جديد. لقد ماتا لكن لبنان اليوم ليس أقل موتا. إنه يرتد أصغر وأضيق، ويغدو، رغم ضيقه، أصغر وأقل من نفسه. إنه لن يكون أكثر حياة منهما. لقد خرج الاثنان، في حين أن الحلم الكوني اختفى قبلهما. لقد عاد لبنان، مستوطنات وأجزاء، ولم يعد في وسعه أن يرقى باللغة إلى أعلى، أو أن يجد لغة من فوق. لسنا مستعدين للموت، لكن الحياة اليوم، لن تكون أقل موتا.