السودان يحتاج اهتماما دوليا

السودان يعاني الآن من أكبر أزمة إنسانية من حيث النزوح القسري على مستوى العالم

Reuters
Reuters

السودان يحتاج اهتماما دوليا

حفلت الايام الماضية بالعديد من التطورات المؤسفة في ما يتعلق بالنزاع الدائر في السودان. وكانت كلها سلبية للغاية. فمن ناحية، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 2715 في 1 ديسمبر/كانون الأول 2023، الذي أنهى، اعتبارا من 3 ديسمبر، ولاية بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة الانتقالية في السودان "يونيتامس". واتُخذ هذا القرار بموافقة 14 صوتا وامتناع روسيا عن التصويت، بعد ما يقرب من ثمانية أشهر من بدء القتال الكارثي في السودان بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع" الذي شهد ارتكاب الفظائع ضد المدنيين وجرائم الحرب والتطهير العرقي في مناطق مختلفة من البلاد.

ورغم أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد قام في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بتعيين السيد رمضان العمامرة (وزير خارجية الجزائر الأسبق والذي تولى أيضا رئاسة مجلس السلم والأمن الأفريقي في الفترة بين 2008 -2013) كمبعوث شخصي له إلى السودان، إلا أن إنهاء البعثة في هذا الوقت يشكل إحباطا كبيرا لكثير ممن كانوا يأملون أن تؤدي الأمم المتحدة دورا أكثر فعالية في الدفع بجهود إنهاء الحرب في السودان وتفعيل عملية المساعدات الإنسانية المتعثرة، خصوصا أن التفويض الممنوح للبعثة يمتد إلى ما هو أبعد من وظيفتها السياسية ويشمل واجبات مثل حماية المدنيين وتنسيق أنشطة وكالات الأمم المتحدة الموجودة في السودان وهو ما تشتد إليه الحاجة في الوقت الحالي.

حاليا يوجد ما لا يقل عن ثلاثة ملايين مواطن محاصر داخل مناطق الحرب في الخرطوم، في حين أن ما يقدر بنحو خمسة ملايين شخص عالقون في مناطق القتال المستمر في دارفور

من جانب أخر، حملت الأخبار في 3 ديسمبر/كانون الأول أنباء انهيار جولة المفاوضات الجارية في جدة بين الجيش و"قوات الدعم السريع" ومغادرة وفدي التفاوض جدة لإجراء المزيد من المشاورات مع قيادتيهما. لكن ما يبدو واضحا هو عدم وجود نقطة التقاء أو أرضية مشتركة بين الطرفين لبداية التفاوض بشكل جدي باتجاه إنهاء الحرب. فقد تمسك وفد ميليشيا "الدعم السريع" بمقايضة خروجها من منازل المواطنين في الخرطوم، بنصب نقاط تفتيش في الطرقات وقرب المؤسسات الحكومية ومواقع الخدمات من مياه وكهرباء والمستشفيات، عقب انسحاب عناصرها منها، وهو ما رفضته قوات الجيش، في المقابل اتهم وفد الميليشيا قوات الجيش بالسعي لتحقيق مكاسب عسكرية عبر طاولة المفاوضات "بعدما عجز عن ذلك في ميدان القتال"، موكدا أن "الدعم السريع" تسيطر على غالبية ولاية الخرطوم ويحاول الجيش إخراجها منها بالتفاوض بعدما فشل عبر العمليات العسكرية، مبينا أن قواته هي الأكثر انتشارا على الأرض في العاصمة، وأن تغيير الواقع الحالى مرتبط بمستقبل الترتيبات الأمنية والعسكرية. وهو الأمر الذي يكشف عن عدم وجود رغبة سياسية حقيقية في إنهاء الاحتلال الواقع على الخرطوم حاليا!

خلال كل ذلك، تستمر معاناة السودانيين والأزمة الإنسانية المترتبة على هذه الحرب في التفاقم وتتزايد أرقامها بمعدلات فلكية وهو ما جعل السودان خلال فترة الأشهر الثمانية الماضية، يمثل الكارثة الإنسانية الأسوأ على الإطلاق.

ومنذ اندلاع القتال في 15 أبريل/نيسان 2023، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، اتسعت دائرة العنف بسرعة وانتشرت إلى الجزء الأكبر من البلاد. وصاحب ذلك عدد كبير من الفظائع البشعة التي ارتكبت ضد المدنيين في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية مثل الخرطوم، حيث اضطر أكثر من 80 في المئة من السكان إلى الفرار. وفي دارفور، حيث لا يزال انتشار العنف العرقي والمذابح الإثنية مستمرا خصوصا بعد سيطرة "قوات الدعم السريع" على 4 من ولايات إقليم دارفور الخمس. وتجاوزت تقديرات الخسائر في الأرواح بين المدنيين العشرة آلاف مواطن حتى الآن. وساهم تركيز الأنشطة القتالية للطرفين المتحاربين في المناطق السكنية والمدنية إلى تصاعد كبير في الخسائر بين المواطنين.

وحاليا يوجد ما لا يقل عن ثلاثة ملايين مواطن محاصر داخل مناطق الحرب في الخرطوم، في حين أن ما يقدر بنحو خمسة ملايين شخص عالقون في مناطق القتال المستمر في دارفور. وتستمر منذ أشهر عديدة ميليشيا "الدعم السريع" في فرض حصار كامل على مناطق وأحياء سكنية مكتظة بالسكان مثل حي الفتيحاب في أم درمان وجزيرة توتي ومنطقة الشجرة جنوبي الخرطوم وغيرها. وتمنع الميليشيا حركة المواطنين إلى هذه المناطق ومنها، إلا بتصريحات خاصة يتم إصدارها بمقابل مالي كبير، وهو الأمر الذي زاد من صعوبة دخول المواد الغذائية والإمدادات الطبية والاحتياجات الإنسانية الأخرى. 

Reuters
سكان غرب دارفور يفرون من القتال الى التشاد في 4 اغسطس

وقد تجاوز العدد الحالى للأفراد المتأثرين بالنزوح في السودان 7.6 مليون شخص بحسب الأرقام الرسمية، ووفقا لبعض الحسابات والتقديرات البديلة، فقد اقترب من 10 ملايين. ويتربع السودان الآن على مقعد التميز المؤسف بكونه أكبر أزمة إنسانية من حيث النزوح القسري على مستوى العالم. وكان لتدفق النازحين داخليا تأثير كبير على الولايات التي لم تمسها الحرب بعد، ما أدى إلى زيادة أسعار المساكن، والضغوط على الخدمات، وتزايد المخاطر الأمنية. ويعاني 19.9 مليون شخص حاليا من عدم الحصول على الموارد الغذائية الكافية.

بسبب الحرب، أُجبر 19 مليون طفل على ترك المدرسة والتوقف عن التعليم. وتعطلت عملية التعليم الأساسي بأكملها في جميع أنحاء البلاد

واستخدم العنف الجنسي على نطاق واسع كسلاح حرب خلال الصراع المستمر. وجرى توثيق كثير من حالات الاغتصاب والاعتداءات الجنسية في مناطق مختلفة من البلاد. ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من أربعة ملايين امرأة وفتاة في السودان معرضات لخطر العنف الجنسي. واعتبارا من 2 نوفمبر/تشرين الثاني، تلقى مكتب الأمم المتحدة المشترك لحقوق الإنسان في السودان معلومات موثوقة عن أكثر من 50 حالة من حالات العنف الجنسي المرتبطة بالصراعات، كان ضحيتها ما لا يقل عن 105 من النساء والفتيات. وأكدت التقارير أنه في 70 في المئة من هذه الحالات تم توثيق ارتكاب هذه الجرائم بواسطة أفراد ميليشيا "الدعم السريع". وبشكل مستقل، وثقت منظمات حقوق المرأة المختلفة ما مجموعه 103 و105 من الحوادث، في تقارير منفصلة. وتعجز الأرقام المنشورة إلى حد كبير عن تقديم صورة دقيقة أو حقيقية للوضع الفعلي.

ويرجع ذلك في الغالب إلى اتساع منطقة القتال، والعقبات والمخاطر الأمنية التي تحول دون الوصول إلى الضحايا، بالإضافة إلى العقبات أمام توثيق حوادث العنف الجنسي الناجمة عن الوصمة الاجتماعية، وتخوف الضحايا من التهديدات وانتقام الجناة منهم مرة أخرى في حالة التبليغ عنهم.

وتعرضت المرافق الصحية للهجمات والاحتلال ما أدى إلى توقف عدد كبير منها عن العمل. ويعاني السودان حاليا من تفشي الأوبئة، بما في ذلك الكوليرا والملاريا التي تسببت في وفيات عديدة بسبب انهيار البنية التحتية للرعاية الصحية. وتأثرت العمليات الروتينية لنظام الرعاية الصحية بشكل بالغ، فقد تم تدمير أكثر من مليون لقاح لشلل الأطفال في السودان، على سبيل المثال. ويحتاج ما لا يقل عن 9.4 مليون طفل إلى مساعدة عاجلة في مجالات مثل الرعاية الصحية والتغذية والمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية وحماية الطفل والدعم النفسي والاجتماعي.

وبسبب الحرب، أُجبر 19 مليون طفل على ترك المدرسة والتوقف عن التعليم. وتعطلت عملية التعليم الأساسي بأكملها في جميع أنحاء البلاد. كذلك، توقفت جميع مؤسسات التعليم العالي، بما في ذلك الجامعات والكليات العليا، عن العمل في السودان.

وقد شهد متوسط دخل الأسرة انخفاضا بنسبة 40 في المئة بالمقارنة مع فترة ما قبل الحرب. وقد خسر ما يقرب من 50.3 في المئة من القوى العاملة السودانية وظائفه. وبحلول نهاية هذا العام، ستبلغ الخسائر الاقتصادية المترتبة على الحرب في السودان تقريبا أكثر من 15 مليار دولار. ويشمل ذلك الخسائر الاقتصادية المباشرة والخسائر في البنية التحتية بينما لا يتضمن هذا التقدير خسائر القطاع الخاص في مجالات الصناعة والزراعة وغيرها. وتقلص حجم الاقتصاد إلى 50 في المئة من حجمه قبل الحرب. ويبلغ الانخفاض المتوقع في الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام 48 في المئة.

وفي وقتنا الراهن، يحفل العالم بالكثير من النزاعات التي تشكل مصادر قلق كبيرة ومخاطر للأمن والاستقرار الدوليين

ومن بين إجمالى السكان، يعاني 19.9 مليون شخص حاليا من نقص الوصول إلى الموارد الغذائية الكافية، في حين تلقى 2.1 مليون فرد فقط المساعدة، بمعدل تغطية قدره 10.6 في المئة.
ويحتاج 11 مليون مواطن إلى مساعدة صحية، وتلقى 820 ألف فرد فقط الدعم اللازم، بمعدل تغطية قدره 7.4 في المئة. في قطاع المدارس الابتدائية، وهناك حاجة مباشرة إلى دعم 8.6 مليون طفل. ومع ذلك، يقتصر تقديم الدعم حاليا على58.8  ألف طالب فقط، وهو ما يمثل أقل من واحد في المئة. 
تبلغ الحاجة المالية الحالية للمساعدات الإنسانية في السودان حوالي 6.2 مليار دولار لعام 2023. ومع ذلك، فإن الميزانية المالية المتوفرة حاليا تبلغ 984 مليون دولار، مما يؤدي إلى عجز كبير يفوق 60 في المئة من الحاجة الفعلية. ويمثل عجز الميزانية خطرا كبيرا في كثير من القطاعات الهامة، بما في ذلك التغذية التي يبلغ عجز ميزانيتها 80.9 في المئة والصحة 88.6 في المئة وحماية اللاجئين (61.4 في المئة) والأمن الغذائي (82.3 في المئة) والمأوى (82.1 في المئة) والمياه النظيفة والصرف الصحي (82.1) في المئة.
وفي وقتنا الراهن، يحفل العالم بالكثير من النزاعات التي تشكل مصادر قلق كبيرة ومخاطر للأمن والاستقرار الدوليين؛ فمن أوكرانيا إلى الصومال إلى غزة إلى تصاعد التوتر بين إثيوبيا وإريتريا والمخاطر المتزايدة في مناطق متعددة في أفريقيا، ينتشر عدم الاستقرار والمعاناة الإنسانية وتتعدد مراكزه. هذا، بالإضافة إلى حالة الإرهاق الذهني والدبلوماسي في أوساط المجتمع الدولي من متابعة ما يحدث في السودان، الذي لم يشهد استقرارا منذ انفصال جنوب السودان في 2011 على الأقل، يرفع من احتماليات انزواء الأزمة السودانية بين  طيات النسيان. وهو ما سيكون مؤسفا بالنسبة لأكثر من 47 مليون سوداني يعانون من ويلات حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.  

font change