الصين والهيمنة المضادة التوافقية

الصين والهيمنة المضادة التوافقية

لا تتطلع كل القوى الدولية- حاليا أو على مدار التاريخ- إلى الهيمنة المنفردة على النظام الدولي؛ إذ لا يرتبط مسعى الهيمنة المنفردة على مقومات القوة المادية، كالقوة الاقتصادية والموقع الجغرافي والقوة البشرية... وغيرها فحسب، بل إلى جانب امتلاك قوة مادية هائلة. تمتلك تلك القوى المتطلعة ميراثا تاريخيا "إمبرياليا أو إمبراطوريا" أو منظومة قيم خاصة وثقافة وتاريخا عريضا ممتدا، تنشئ لديها- شعبيا ونخبويا- استحقاقية عالية جدا بالهيمنة المنفردة.

لنأخذ مثال الهند، فرغم امتلاكها مقومات مادية هائلة- آخذة في النمو والقوة- لكنها لا تتطلع مطلقا إلى هيمنة دولية منفردة، بل تسعى إلى أن تكون قوة إقليمية قائدة في آسيا، وواحدة من القوى الدولية الكبرى في نظام دولي متعدد الأقطاب.

في أعقاب الانفتاح الأميركي على الصين في سبعينات القرن الماضي، نبه كثير من المؤرخين والأكاديميين البارزين أمثال جون ميرشايمر، وبول كنيدي الولايات المتحدة؛ إلى أن الانفتاح على الصين لن يجعل الصين دولة حليفة أو تابعة على غرار باقي دول جنوب وشرق آسيا.

إذ كانت رؤيتهم الثاقبة المستندة على القراءة الواعية للتاريخ، وثقافة وقيم الصين الخاصة؛ تؤكد أن الصين ساعية للقيادة الدولية وتقويض الأحادية الأميركية مهما طال الوقت. وقد استفاقت الولايات المتحدة على تلك الحقيقة متأخرة، حيث تأكدت تماما من ذلك من خلال جملة من الشواهد بدأت تظهر بوضوح منذ 2008، ومنها، سياسة بكين المتشددة تجاه تايوان وبحر الصين الجنوبي، وتوسع نفوذها الاقتصادي في العالم، وغيرها من الشواهد.

الصين تتبع- سواء عن قصد أو عن غير قصد- ما يعرف بـ"الهيمنة الحميدة التوافقية"، أو "هيمنة الإجماع"

الشاهد في الأمر والذى هو محل إجماع، أن الصين لا سيما في عهد الرئيس شي جينبينغ تتطلع إلى القيادة المنفردة للعالم، وتقويض الهيمنة الأميركية تماما، وذلك استنادا إلى القوة المادية الجبارة للصين، وتاريخها الإمبراطوري، ومجموعة القيم العالمية التي تمتلكها. لكن على الرغم من ذلك، ما زالت مسألة كيفية تحقيق الصين لتلك الهيمنة، ونمط هذه الهيمنة، مثار جدال واسع بين الأكاديميين.

ويبدو من الواضح من خلال تتبع مسيرة توسع النفوذ الصيني عالميا منذ سبعينات القرن الماضي؛ أن الصين تتبع- سواء عن قصد أو عن غير قصد- ما يعرف بـ"الهيمنة الحميدة التوافقية"، أو "هيمنة الإجماع". وهي نمط من الهيمنة دشنته "الغرامشية الجديدة"، يستند على قيام القوى الساعية للهيمنة الدولية على تهيئة الأجواء لتقبل العالم هذه الهيمنة "طوعيا". أو بعبارة أخرى، اعتراف دول العالم بهذه الهيمنة ورغبة الدول في الانزواء داخلها واستدامتها لأنها تلبي مصالحها.

ويفهم من ذلك، أن تلك الهيمنة حميدة قطعا، ونجحت في انتزاع الاعتراف بالهيمنة ومقاومة الهيمنة المقابلة، عبر وسائل وأساليب سلمية وعملية. وتعد الصين من استثناءات القوى التاريخية التي تستند على تلك الأنماط "غير القسرية" لأجل حلم القيادة الدولية. ويعزى ذلك إلى مجموعة القيم السلمية التي تتبناها الصين بشأن القيادة الدولية، وتفهم الصين الواضح لكارثية السعي للهيمنة عبر القوة العسكرية والاحتلال والإكراه،

لقد عمقت الصين من قوتها الاقتصادية إلى حدود قصوى، وانطلقت منها إلى الهيمنة التوافقية وتقويض الهيمنة الأميركية. وبدأت في جوارها الآسيوي، حيث انخرطت في شراكات اقتصادية واسعة عززت من القوة الاقتصادية لدول جنوب وشرق آسيا، كما انخرطت في شراكات أمنية- حتى مع حلفاء واشنطن. وعليه، فقد نالت الصين اعترافا آسيويا بالقيادة الإقليمية.

لم تتمكن الصين حتى الآن من إتمام هيمنتها المطلقة على العالم، وتقويض الهيمنة الأميركية تماما. لكنها نجحت إلى حد كبير عبر "الهيمنة التوافقية" من نيل الاعتراف الدولي كقطب موازٍ للقطب الأميركي

وقد اتخذت الصين خطوة واسعة للغاية للهيمنة التوافقية عبر مبادرة "الحزام والطريق"، التي انضم لها كثير من دول العالم، سعيا وراء المصالح الجمة التي توفرها المبادرة، لا سيما على مستوى مشاريع البنية التحتية؛ فعلى مستوى منطقة الخليج، نجحت الصين عبر المبادرة في جذب كل دول الخليج وتعميق الشراكة معها. مما مكن الصين من أن تصبح قوة إقليمية في المنطقة على حساب واشنطن صاحبة النفوذ التاريخي هناك.

ونالت الصين أيضا اعترافا عالميا واسعا عبر الريادة في المجال التكنولوجي، والريادة في حل تحديات خطيرة وعلى رأسها قضية التغير المناخي، والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل.

خلاصة القول: لم تتمكن الصين حتى الآن من إتمام هيمنتها المطلقة على العالم، وتقويض الهيمنة الأميركية تماما. لكنها نجحت إلى حد كبير عبر "الهيمنة التوافقية" من نيل الاعتراف الدولي كقطب موازٍ للقطب الأميركي، وتقويض مساحات النفوذ الأميركي في العالم، دون إكراه أو صدام.

font change