تحديات أمام "مجلس التعاون الخليجي" في 2024

استمرار سياسة واشنطن المتراجعة في توفير الضمانات الأمنية

AP
AP
مذيع امام شعار قمة المجلس التي انعقدت في العلا في 5 يناير 2021

تحديات أمام "مجلس التعاون الخليجي" في 2024

رغم بعض التباينات في السياسات والتوجهات لـ"دول مجلس التعاون الخليجي"، وأيضا بعض الخلافات التي تنشب بين بعض دوله بين الحين والآخر، فإن هذا لا ينفى أن الظرف الجغرافي والتاريخي والثقافي يحتم على دول المجلس الست أن تواجه بالقدر نفسه تقريبا التحديات الخطيرة بشتى أنماطها التي تفرضها البيئتان الإقليمية والدولية.

يعد عام 2023 من أخطر الأعوام التي واجهت دول مجلس التعاون؛ إذ خلف بعض التحديات الأمنية والاستراتيجية الخطيرة، التي ستخيم بظلالها السلبية بلا أدنى شك على أمن واستقرار وسياسات دول المجلس في 2024 وما بعدها. إذا لم تتم معالجتها، وهو أمر مستبعد إلى حد بعيد في 2024.

إيران ووكلاؤها

وبطبيعة الحال، تعد الحرب الإسرائيلية على غزة، التحدي الأخطر على الإطلاق الذي واجه مجلس التعاون في 2023، بل إن كثيرا من التحديات الأخرى التي سيواجهها المجلس خلال الفترة القادمة، ناجمة عن هذه الحرب.

الحرب الإسرائيلية على غزة تمثل تحديا خطيرا لمجلس التعاون من زوايا متعددة؛ فناهيك عن تداعيات هذه الحرب- حال استمرارها في 2024 بالوتيرة المتصاعدة نفسها على أمن واستقرار المنطقة برمتها- فإن أخطر ما قد يواجه دول المجلس من تحديات هو استمرارها بالوتيرة نفسها مع تفاقم تعقد حلها؛ ربما تمتد إلى حرب إقليمية مفتوحة بين إيران وإسرائيل، أو بين الأخيرة ووكلاء إيران في المنطقة بشكل غير مباشر. وهذا بدوره سيجعل دول مجلس التعاون منخرطة في هذه الحرب بشكل أو بآخر. أو بعبارة أخرى أكثر وضوحا، ستجعل هذه الحرب منشآت دول المجلس الحيوية عرضة لضربات من وكلاء إيران.

DPA
جنود ايرانيون اثناء احتفال بتدشين نظام صاروخي جديد في ميناء كوناراك المطل على المحيط الهندي في 24 ديسمبر

لكن ربما ما هو أخطر على الإطلاق لدول المجلس أن مئة يوم على حرب غزة أظهرت لدول المجلس أن التهديد الإيراني لا يزال أكبر تهديد يواجه المجلس. على الرغم من اتباع دول المجلس سياسات متنوعة لاحتواء الخطر الإيراني؛ فالكويت مثلا تتبع ما يسمى سياسة "التحوط الاستراتيجي". وقطر وسلطنة عمان في علاقات تجارية ودبلوماسية متميزة مع إيران.

مئة يوم على حرب غزة أظهرت لدول المجلس أن التهديد الإيراني لا يزال الأكبر، رغم اتباع دول المجلس سياسات متنوعة لاحتواء الخطر الإيراني

إلا أن إيران لا تزال تشكل تهديدا وجوديا لدول المجلس، فمخططات إيران للهيمنة ليست سرية. المئة يوم على الحرب، وبالأخص التعاطي الأميركي معها، يشي بوضوح بدور إيران ومحاولتها استخدام نفوذها وأدواتها في المنطقة. علاوة على شعبية وتعاطف عربيين مع وكلاء إيران، في سياق حرب "حماس" مع إسرائيل.

وما بدا من تعاطى الولايات المتحدة مع الأحداث في غزة منذ عملية "طوفان الأقصى"، هو إحكام السيطرة على المعادلة الصعبة (دعم إسرائيل، والحيلولة دون اندلاع حرب إقليمية واسعة بين إيران وإسرائيل). لذا، أرسلت الولايات المتحدة أكبر حاملة طائرات في سياق هذه المعادلة وسحبتها أيضا مؤخرا كرسالة واضحة البيان لإسرائيل، أو تحديدا للحكومة اليمينية في تل أبيب، مفادها عزم واشنطن القاطع بعدم التورط في حرب إقليمية مع إيران.

مقابل ذلك، سايرت طهران واشنطن في سياق هذه المعادلة، لكن بصورة أكثر جرأة، عبر إدارة اشتباكات محدودة مع إسرائيل في جنوب لبنان من خلال "حزب الله"، وإطلاق العنان لجماعة الحوثيين في شن هجمات واسعة في البحر الأحمر وبالأخص في باب المندب.

تراجع الدور الأميركي

وعلى بيان ذلك، فقد انكشف تماما لدول المجلس استمرار سياسة واشنطن المتراجعة في حماية أمن الخليج في ظل تنامٍ واضح لقوة ونفوذ إيران ووكلائها. علاوة على غياب بديل قوى لواشنطن في مسألة حماية أمن الخليج. وعلى هذا، فالتحدي الإيراني سيخيم بقوة على تفكير وتدابير دول المجلس في 2024، ومن المؤكد أنه سيدفع دول المجلس للتكاتف والتحرك على خط واحد لمواجهة هذا التهديد.

توتر العلاقات الأميركية الصينية- وهو مزمن وشرس في واقع الأمر- يعد من أخطر التحديات التي تواجه دول المجلس

إضطرابات البيئة الدولية، والتي من الواضح أنها آخذة في التنامي الخطير عام 2024؛ لا تنفصل عن أمن واستقرار الخليج سواء السياسي أو الاقتصادي؛ فدول مجلس التعاون تشكل محورا استراتيجيا عالميا على خارطة سوق النفط والثروة المالية والأمن البحري. 
وعلى الرغم من التقارب الملحوظ أواخر 2023 بين الولايات المتحدة والصين، فإن هذا التقارب مرشح للانهيار السريع في 2024، وذلك على خلفية تعميق واشنطن لسياستها وتحالفاتها الأمنية في المحيط الهادئ الرامية لتقويض القوة الصينية. كذلك، على خلفية الانتخابات الرئاسية التايوانية التي فاز بها مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي الذى يعد من أكبر الداعين للانفصال عن الصين، ويعتبر من ألد أعداء الصين.
وتوتر العلاقات الأميركية الصينية- وهو مزمن وشرس في واقع الأمر- يعد من أخطر التحديات التي تواجه دول المجلس؛ فارتدادات هذا التوتر، لاسيما على صعيد تايوان، تتسبب في إرباك شديد لأسعار النفط العالمية، حيث لا تزال دول المجلس تعتمد بصورة كبيرة على عائدات الطاقة كمصدر للدخل القومي.
ومن ناحية أخرى، يعطل هذا التوتر سلامة صادرات وواردات الخليج من النفط والموارد الأساسية التي تحتاجها دول المجلس في ضوء خطط التنمية الاجتماعية والعمرانية المتنامية هناك، لا سيما "أشباه الموصلات" الشديدة الحيوية لاستكمال خطط دول المجلس الطموحة في الطاقة النظيفة أو البديلة. وتنظر دول المجلس للتوتر الأميركي -الصيني على نحو عام على أنه تحدٍ عسير فيما يتعلق باستدامة الحضور الأميركي في المنطقة، وفرص الصين لضخ المزيد من الأموال والاستثمارات في دول المجلس خاصة في مجال البنية التحتية، في سياق مبادرة "الحزام والطريق". وأيضا، من ناحية فرص الصين في أن تلعب دورا أمنيا في المنطقة كبديل لواشنطن.
إن انخراط القوتين في آسيا وبالأخص في منطقة الباسيفيك لتحجيم بعضها بعضا في سياق صراع شرس لحرب باردة على زعامة النظام الدولي؛ ستجعل القوتين تهملان تماما الشرق الأوسط، وسيمنح القوى الإقليمية الطامحة خاصة إيران وتركيا الفرصة الذهبية لتمديد حضورها لملء هذا الفراغ الاستراتيجي.

توتر دولي وتحالفات

مكمن الخطورة الشديدة للصراع الأميركي الصيني يتمثل في دفع العالم برمته داخله؛ ففي سياق هذا الصراع تنشأ تحالفات وتجاذبات دولية وإقليمية مضادة، وتنفتح بؤر صراعات وتوترات جديدة للتوازن أو المناورة بين القوتين؛ ففي سياق هذا الصراع، تتقارب العلاقات الصينية الإيرانية على نحو كبير لموازنة النفوذ الأميركي، كما تناور بكين بورقة كوريا الشمالية للضغط على اليابان وكوريا الشمالية. ومن ناحية أخرى، يتعمق التحالف الهندي الأميركي لتقويض نفوذ بكين في المحيط الهندي. وهكذا ينزلق العالم في تحالفات مضادة لا تنتهى، تؤدي بدورها إلى إرباك خطط دول مجلس التعاون وسياساتها وتحالفاتها. كما تجبرها على الانحياز لتحالف على حساب الآخر، وهو ما يتسبب في أضرار بالغة لسياسات دول المجلس الرامية للتنوع على مستوى الشركاء والاهتمامات والمصالح.

ينزلق العالم في تحالفات مضادة لا تنتهى، تؤدي بدورها إلى إرباك خطط دول مجلس التعاون وسياساتها وتحالفاتها

وعلى هدى ذلك، يمكن القول إن الصراع الأميركي الصيني في 2024 يعد من أكبر التحديات التي ستواجه دول مجلس التعاون، خاصة على صعيد الحفاظ على مستوى التوازن الذي تتبعه دول المجلس في علاقاتها بين القوتين.
وواقع الأمر أن الحرب الأوكرانية في 2024 ستظل تمثل تهديدا لدول المجلس؛ فمعالم أو سيناريوهات الحرب غير واضحة خاصة مع استمرار الحرب في غزة. فمن الواضح أن هناك ارتباكا غربيا شديدا بشأن التعاطي مع الحرب، خاصة في ضوء تفوق روسيا في الحرب. المهم في الأمر أن تجميد الوضع القائم في الحرب أي على مستوى الفعل ورد الفعل، أو تطورها إلى مستويات أخطر من خلال تكثيف الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا؛ هو السيناريو المرشح بقوة في 2024.

Reuters
قمة "الامن والتنمية" في جدة في 16 يوليو 2022 بحضور الرئيس الاميركي جو بايدن

وهذا بدوره سيفاقم من تحديات دول المجلس، إذ سيدفع هذا السيناريو إلى المزيد من الإرباك في سوق الطاقة العالمية، وأمن الملاحة لدول المجلس وواردات دول المجلس من المواد الغذائية، ومستوى العلاقات الاقتصادية والعسكرية المتنامي بين روسيا ودول المجلس. وأيضا على مستوى أدوار القوى الإقليمية خاصة تركيا وتمديد نفوذها في المنطقة.

التغير المناخي 

تمثل قضية التغير المناخي وعلى رأسها "الاحترار العالمي" أحد أخطر التهديدات التي تواجه العالم. وتمثل لدول المجلس تهديدا خاصا بالنظر إلى أن منطقة الخليج تعد من أحر المناطق في العالم؛ حيث تصل درجات الحرارة لما يلامس 60 درجة مئوية في الصيف. وينتج عن ذلك، تفاقم في الكوارث البيئية والاجتماعية كزيادة معدلات الجفاف والتصحر والفيضانات والهجرة العكسية، وفى الأعوام الخمسة الماضية شهدت بعض دول الخليج خاصة السعودية بعضا من مظاهر هذه الكوارث. 
ومع ذلك، فجهود العالم لمواجهة هذا التحدي الخطير لم تصل بعد إلى مستوى الجدية المطلوب. ولعل دول مجلس التعاون من أنشط الدول الفاعلة في مواجهة تحدي التغير المناخي، حيث تشرع في سياسات وخطط طموحة في مجال الطاقة البديلة.

هناك تحديات شديدة الخطورة كالتغير المناخي. وعليه، فمن المرجح أن تدفع هذه التحديات دول المجلس للمزيد من تكثيف التعاون وتوحيد الصف للتصدي لها

لكن ذلك وحده لا يكفي، فبحسب خبراء البيئة وتقارير المنظمات الدولية وخاصة البنك الدولي، سيشهد صيف 2024 ارتفاعا تاريخيا غير مسبوق في درجات الحرارة، إذ دخل العالم بالفعل في 2023 إلى مستوى "الغليان الحراري". وهو ما سيفاقم بدوره من حدة الكوارث البيئية الناجمة عنه. وعلى المستوى الخليجي، سيكون أكثر خطورة من حيث حدة هذه الكوارث، والأضرار الاقتصادية الناجمة عنها سواء للتصدي لها أو من حيث التأثير على الإنتاج الصناعي والزراعي ومستويات الهجرة الداخلية.

وعلى هدى ما سبق، يمكن القول إن دول مجلس التعاون للأسف الشديد ستواجه في 2024 تحديات شديدة الخطورة تجعله من أصعب أعوام دول المجلس منذ استقلالها في السبعينات؛ ويعد التهديد الإيراني من أخطر التهديدات القديمة التي ستواجه دول المجلس بشدة في 2024؛ بالإضافة إلى التهديدات والتحديات الأخرى شديدة الخطورة كالتغير المناخي. وعليه، فمن المرجح أن تدفع هذه التحديات دول المجلس للمزيد من تكثيف التعاون وتوحيد الصف للتصدي لها. بل ربما ستدفع دول المجلس إلى خطوات واسعة نحو تأسيس قوة خليجية عسكرية قوية، وتحقيق المزيد من التكامل على المستوى الاقتصادي.

font change

مقالات ذات صلة