الوطني والديني في أفق الحداثة

الوطني والديني في أفق الحداثة

1

نلاحظ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديدا منذ مرحلة الاستقلالات العربية الوطنية، عمليةَ انزياح لغوي واسع تقوم على استعارة القاموس الديني للقضايا الوطنية. حتى أن اتجاهات العَلْمَنة، والأحزاب العلمانية نفسها، قد تبنت العديد من القيم والصور الدينية، لكن، ناقلة محور القداسة من الديني الى الوطني أو القومي.

هكذا تصبح مفردات من القاموس الديني، من قبيل "رسالة"، "تعاليم"، "عقيدة"، " قدس"، "بعث"، "معلم"، "شهيد"، "فادي"، "فداء"، "هادي"، وغيرها مألوفة وذات محمولات وطنية نضالية وإن لم تُلْغِ الدلالات الدينية كما اصْطُلِحَ عليها، ولا تجردت من البُعد الديني أو المقدس.

هذا الانزياح اللغوي يشير إلى انزياح في المحور الذي تتمركز حوله القيم، بما يعطي للتاريخي – الاجتماعي اعتبارا موازيا للديني.

2

تميز الفكر العربي الحديث بعامة، لا في الشعر وحده، بملمح جديد، في ثقافة ذات طابع ديني راسخ. هذا الملمح الجديد هو اعتبار المكان بمفهومه الاجتماعي – السياسي والجغرافي بعدا أساسيا من أبعاد الهوية. صار المكان قطب انتماء واكتسب قدسية. والمدهش أن هذا الاتجاه قد ساد منذ أربعينات القرن الماضي بتأثيرات مفكرين علمانيين. وهو اليوم، ومنذ أواخر الستينات، بتأثير حركة المقاومة الفلسطينية على الأخص وشعر القضية الفلسطينية، سوف يتمثل، بمعنى اندماج الأنا بالمكان، ويُفضي إلى اتخاذ الأرض صورةَ الأم والحبيبة.

هذا التصور للهوية المندمجة بالمكان أي بالوطن، الهوية التي تتماهى بالمكان قبل الانتساب إلى القبيلة أو الجماعة، الهوية التي

لا تمتلك حضورا بانفصال عن المكان، هي من أبرز التطورات الفكرية في حركة الحداثة.

وقد ذهب أبطال المقاومة بعيدا في تجسيدها، الى حد يتجاوز فيه الالتحامُ الجسدي الفعلي المستوى المَجازي والنظري إلى المستوى المَصيري. ويمكن أن نعتبر هذا جواب المقاومة على سؤال الهوية.

نصوص الحداثة تحقق تحولا في أسطورة الجسد الأنثوي من طوطم ومُلَخص لشرف القبيلة والأسرة وعنوان لنقاء الدم والسلالة، إلى رمز للأرض

3

يمتلك سؤال الهوية كما تطرحه حركة الحداثة العربية خصوصية، ويقدم مؤشرا على تحول فكري بل معرفي كبير. ذلك أن الصيغ التي طُرِح بها هذا السؤال، ولا سيما في نصوص المُبدِعين الكبار، في الشعر والرواية، لم تتناول الهوية كماهية، أي كخصائص جوهرية مطلقة متعالية على التاريخي، وإنما طُرح السؤال على أساس أن الهوية " كيفٌ" وصيرورة. فحصل التحرك من سؤال "ما أنا" أو "من أنا" كنسب أو سلالة، الى سؤال اجتماعي – حضاري هو "كيف أكون"؟ وأثرُ الفكر الحداثي واضح في هذا التحول.

هكذا اخترقت المرأة في المقاومات الوطنية العربية أسطورتَها: تَجاوزتها، مُسقِطة عصورا من الكنايات: "الجنس اللطيف"، "المخدرة"، أو "بيضة الخِدر"، "اللاهيات النواعم"، "جر الذيول"… وفي هذا اخترقت المرأة صورتها الرمزية وقيدها الجسدي: كان جسدُها يُعرَض كسلعة حينا، أو يُخزن ويُحمى كطوطم حينا آخر. فإذا بها، مع المناضلات الشهيدات تستعيد، في المقاومة، إنسانيتها الساطعة وكفاءتَها السياسية الوطنية، تستعيد دورها ورمزيتها كحامية للحياة، بل كحامية للقرى والرجال. التي تقف أمام الموت ليخرجَ الوليدُ إلى الحياة، تقف أمام الموت لتحميَ الحياة. الجسدُ الأنثوي، الطوطم أو الرمز يخرج من طوطميته، يتمزق، يتطاير، يتحد الرمز بالأرض المرموز إليها وتبطُل مسافةُ التأويل.

ينبغي هنا أن نشير إلى أن نصوص الحداثة تحقق تحولا في أسطورة الجسد الأنثوي من طوطم ومُلَخص لشرف القبيلة والأسرة وعنوان لنقاء الدم والسلالة، إلى رمز للأرض. كانت الروايات تصف النزوح من المناطق المحتلة بأنه "هربٌ بالعِرض"، وترى المقاومةَ "دفاعا عن العِرض" أو الشرف. غير أن صورة المرأة حتى في الحداثة لم تفارق بُعدَها الأسطوري. لكنها، بعد أن كانت رمزا جنسيا أو قبليا صارت رمزا للأرض.

font change