نحو فكر مركَّب

Shutterstock
Shutterstock

نحو فكر مركَّب

يتردّد تاريخ العلوم، بكل فروعه، بين لحظات إيمان ونمو وازدهار، ولحظات تشكك وأزمة. مثلا على ذلك، لنكتف بالتوقف عند ما عرفه أقدم فروع الرياضيات. فبعدما ظهرت الهندسات اللاأقليدية خلال القرن التاسع عشر، أعلنت أن الهندسة التي كان الفيلسوف إيمانويل كانط يعتبر أنها خرجت من يد أقليدس كاملة، كما خرج المنطق من يد أرسطو، والتي كان لايبنتز قد قال عنها: "إن الإغريق قد استعملوا في برهانهم الرياضي كل دقّة ممكنة، فخلفوا للجنس البشري نماذج تُقتدى في البرهان"، مما جعل الفيلسوف برانشفيك يكتب في ما بعد: "ربما كان أقليدس بالنسبة إلى عديد من الأجيال اللاحقة، معلم منطق أكثر مما كان معلم هندسة".

إن هذه الهندسة، بكل ما قيل عنها، سرعان ما فقدت صبغتها النموذجية، وكشفت أن في إمكانها أن تنوجد، جنبا إلى جنب، مع هندسات مغايرة من غير تنافر. الأهم من ذلك، أن تعدد هذه الهندسات جعل الرياضيين يعيدون النظر في "طبيعة" الكائن الرياضي ذاته، الأمر الذي أجمله باشلار في قوله: "تسمح لنا هذه الأشكال الأولى التي اتخذتها الهندسات اللاأقليدية بأن نستخلص الفكرة الفلسفية العامة التي تطبع الحرية العلمية الجديدة. فالدور الذي أصبح الكائن الرياضي يلعبه صار أكثر أهمية من طبيعته، كما أصبحت الماهية تولد، في الوقت ذاته، مع العلاقة وتعاصرها".

هزّة إبيستمولوجية

لم تكن هذه الهزة إذاً مجرد هزة في تاريخ الهندسة، وإنما كانت هزة إبيستمولوجية زعزعت المفهومات الكبرى التي كانت تقوم عليها الرياضيات، كمفهومات الحقيقة والبداهة والأولية وجعلتها موضع شك، بل إنها كانت هزة فلسفية خلخلت أسس العقلانية ذاتها.

يتعذر على كثيرين أن يقبلوا بأن يكون الشك بناء، فغالبا ما يقترن عندهم الشك بمعان سلبية

خلال القرن التاسع عشر إذن، ستعرف الرياضيات، التي كانت تعتبر مفتاح باب الفلسفة واللوغوس، والتي كانت "مقدمة لكل حياة روحية"، كما كتب برانشفيك، ستعرف أزمة حقيقية ستتبلور عند نهاية القرن في ما عرف بـ"أزمة الأسس"، حيث سيعلن هنري بوانكاري في أحد المؤتمرات العلمية سنة 1900: "إننا أمام أزمة حقيقية".

غير أن الأزمة لا تعني شحا ولا توقفا. فحينما ظهرت تلك الهندسات لم يكن هناك شح هندسي، بل وفرة. إذ تبين أنه يكفي تغيير إحدى مصادرات أقليدس لإقامة هندسة مخالفة. إلا أن الذي اتضح هو أن الجهاز المفهومي الإبيستمولوجي الذي كانت تقوم عليه الهندسة الأقليدية، بمفهوميها عن الحقيقة والبداهة الرياضيتين، لم يعد في إمكانه أن "يعمل" إلى جانب الهندسات المستحدثة. في هذا المعنى، لا تعني الأزمة توقفا ولا ندرة. صحيح أنها خلل واختلال، بل هزة ورجة، وهي مخاض ذاتي يخلق توترات ويهز بنيات، لكنه يسفر عن انتعاشة وتجدد. تكمن الأزمة إذن في كوننا أصبحنا نسمي حقيقة هندسية ما لم يكن أقليدس ينعته كذلك، وكوننا أصبحنا نشك في جهازنا المفاهيمي، إلا أنه شك "إيجابي"، شك بناء.

Shutterstock

يتعذّر على كثيرين أن يقبلوا بأن يكون الشك بناء، فغالبا ما يقترن عندهم الشك بمعان سلبية. فهو، في نظرهم، يرمي المرء في"غياهب الظلمات" ويوقعه في حيرة من أمره، بل قد يصيبه بـ"عقلة في لسانه"، الأمر الذي قد يشل كل رغبة فعلية في التغيير، ويعطّل كل طموح نحو المعرفة، وبالتالي، نحو الفعل في الواقع و"تحويله".

تسرّع

لكن، لماذا هذا الربط المتسرّع بين الشك والتعطيل عن الفهم والفعالية؟ ولماذا نقرن الشك بالظلمات والجهالة؟ ألم يعتبر كثير من المفكرين أن طريق اليقين هو الشك؟ ألم يكتب صاحب "ميزان العمل"، على سبيل المثل: "ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعا، إذ أن الشكوك هي الموصلة إلى الحق. فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر، بقي في العمى والضلال"؟ ثم ألم يجعل أبو العقلانية نفسه الشك بداية للمعرفة، بل طريقا للوعي بالذات وبالعالم؟

كتب الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي: "يتميز الفيلسوف بكونه يتمكن من إدراك البداهة، كما يتمكن من إدراك اللبس في الوقت ذاته. إذا ما اقتصر على الخضوع إلى اللبس فتقبله، فإن هذا يغدو غموضا. عند كبار الفلاسفة يصبح الغموض محل إعمال فكر، وهو يساهم في تأسيس الحقائق عوض أن يستبعدها. علينا إذن أن نميز اللبس الجيد عن اللبس الرديء". الحقائق تتولد من طريق إعمال الفكر في ما يبدو غامضا بعيدا عن الوضوح. سيقول فيلسوف العلم غاستون باشلار في ما بعد، إنها تبنى على أرضية من الأخطاء. يبدأ هدم الخطأ بمهاجمة الغموض، والشك في المعارف الملتبسة.

كأن تلك الثنائية تنحل، في نهاية الأمر، إلى من يتمكنون من أن يعيشوا بصحبة الشك، وأولئك الذين يستعجلون اليقينيات

بناء على ذاك، فليس الشك في الضرورة انهزاما معرفيا وعطالة عن الفعل، وهو ليس اعترافا بجهل لا سبيل إلى مقاومته. ذلك أن الشك ليس جهلا، و"خواء معرفيا"، إنه معرفة بأنك لا تعرف. فأن تشك هو نوع من الحصول على معرفة، أو هو، على الأقل، تخلص من معارف موهومة، فهو إذن بداية كل معرفة.

تمييز

لذا، فعوض التصنيفات التقليدية بين من "يمتلكون" الحقيقة ومن لا يمتلكونها، بين من يوقنون ومن يشكون، يبدو أن الفصل الذي أصبح يفرض نفسه اليوم ليس هو التقابل بين الشك والاعتقاد، وإنما التمييز بين تفكير يميل نحو تبسيط الأمور وردها إلى عامل وحيد في عينه، والنظر إليها من جانب واحد، وبين مسلك يجرؤ على التفكير المركب  Penser dans la complexité.

لنقل إذن إننا اليوم أمام مسلكين: من جهة هناك المتطرفون يسارا أو يمينا، ومن جهة أخرى من لا ينفكون يسعون إلى الابتعاد عن كل أشكال التطرف، شريطة ألا نحدد التطرف هنا على أنه اعتناق لحقائق في عينها، وإنما من حيث هو طريقة في التفكير تنجر إلى أحادية النظر، وتهاب التفكير المركب. التطرف لا يحدد هنا بمضمون الاعتقاد بقدر ما يحدد بشكله وأسلوبه.

يتبين إذن أن الثنائية التي تتبقى لنا، إن نحن تخلينا عن المقابلة الميتافيزيقية بين اليقين والشك، هي تلك التي تجعل أطراف المجتمع ينقسمون، لا إلى من يضعون أنفسهم جهة الحقيقة ويموقعون الآخرين جهة الخطأ، بل إلى من يتشككون دوما في اقترابهم من الحقيقة، وأولئك الذين يلازمهم الشعور الدائم بأنهم "في الحقيقة منغمسون فيها Dans le vrai".

كأن تلك الثنائية تنحل، في نهاية الأمر، إلى من يتمكنون من أن يعيشوا بصحبة الشك، وأولئك الذين يستعجلون اليقينيات،شريطة أن نفهم هذه الصحبة، لا غرقا في عدمية ويأس مطلق، وإنما على أنها تسليم بأن الأمور ربما هي دوما أعقد مما نتصور، وإحساس لا يشبع بنقص وعوز، وشعور لا ينفك بعدم اكتمال، ووعي ملازم بالحدود، وزهد متواصل في/نحو "الحقيقة". 

font change