ترمب بعد مئة يوم... أوكرانيا وغزة وإيران؟

ترمب بعد مئة يوم... أوكرانيا وغزة وإيران؟

استمع إلى المقال دقيقة

"سأكون صانع سلام. وسيكون هذا هو الإرث الذي أعتز به أكثر من أي أمر آخر".

هكذا قال الرئيس دونالد ترمب في خطاب تنصيبه يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي. كما تباهى في الخطاب نفسه بدوره في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق نار مؤقت في قطاع غزة قبل ثلاثة أيام من تنصيبه.

ولكن لم يمض شهر ونصف الشهر حتى انهار ذلك الاتفاق واستؤنفت العمليات العسكرية. وقبل أن يكتمل الشهر الثالث بعد تنصيب ترمب كانت الطائرات الأميركية قد بدأت عملية عسكرية متواصلة ضد مواقع في المناطق التي يسيطر عليها "الحوثيون" في اليمن. وفي غضون ذلك بدا أن الثقة، التي أبداها ترمب خلال حملته الانتخابية في قدرته على إنهاء حرب أوكرانيا فور تنصيبه، تصطدم بواقع شديد التعقيد. فقد تبين له أن المسافة التي تفصل بين الموقفين الروسي والأوكراني أطول من أن يعبرها في وقت قصير. لذا لم تُكلل جهوده لبناء ثقة بين الطرفين، وتحقيق في وقف جزئي لإطلاق النار، بالنجاح الذي تصوره سهلا. واستمرت الهجمات المتبادلة ضد البنية التحتية المدنية بما فيها منشآت الطاقة التي دعا ترمب الطرفين إلى تحييدها.

وهكذا، إذ يبدو أن إنهاء حربي أوكرانيا وغزة يتطلب وقتا قد لا يكون قصيرا، فيما تشخص الأبصار إلى المفاوضات الأميركية-الإيرانية غير المباشرة التي بدأت رسميا في 12 أبريل/نيسان عسى أن تمهد الطريق إلى اتفاق في وقت أسرع، على نحو يُبقي لترمب أملا في أن يكون صانع سلام، ويحصل على جائزة نوبل.

ترمب، الذي عُرف بأنه لا يستسلم للإحباط، لن يتراجع عن سعيه إلى إنهاء حرب أوكرانيا. ولكن إدراكه متأخر نسبيا لحجم المعضلة التي تواجه وساطته

لا تسير الأمور بشأن حرب أوكرانيا كما اشتهاها الرئيس ترمب. فقد بدأ في اكتشاف مدى تعقيدها وصعوبة إيجاد حل نهائي لها. ظهر ذلك للمرة الأولى في حديثه يوم 14 أبريل عن أنها "ليست حربه بل حرب جو بايدن". وتكرر بعد ذلك حديث مسؤولين في إدارته عن أن عدم إحراز تقدم قد يدفع واشنطن إلى التخلي عن وساطتها.

لا يعني هذا أن ترمب، الذي عُرف بأنه لا يستسلم للإحباط، سيتراجع عن سعيه إلى إنهاء حرب أوكرانيا. ولكنه يدل على إدراكه المتأخر نسبيا حجم المعضلة التي تواجه وساطته. ولا تقتصر هذه المعضلة على مصير المناطق الأوكرانية التي ضمتها روسيا، بل تشمل أيضا إعادة ترتيب الأوضاع الأمنية في شرق أوروبا. ويعني هذا أن عليه السعي للتوصل إلى اتفاقين، وليس واحدا فقط. اتفاق بين روسيا وأوكرانيا برعاية أميركية كاملة. وثانٍ بين حلف "الناتو" وروسيا. فقد قدمت موسكو في نوفمبر/تشرين الأول 2021 مطالب محددة إلى الولايات المتحدة و"الناتو" للحصول على ضمانات أمنية في شرق أوروبا، ووقف تمدد "الناتو" نحو الحدود الروسية، وتفكيك البنية العسكرية التي أقامها في دول شرق أوروبا منذ عام 1998. تريد روسيا، إذن، اتفاقا يُقيّد حركة "الناتو" فيما تعتبره مجالا حيويا لها، علاوة على اتفاق يضمن لها الاحتفاظ بالمناطق الأوكرانية التي ضمتها عام 2023.

ويكمن جوهر المعضلة، هنا، في المخاوف المتبادلة بين روسيا وكثير من دول أوروبا الأعضاء في "الناتو". تخاف روسيا وجود الحلف على حدودها. وتخاف دول توجد فيها منشآت وأسلحة وقوات تابعة للحلف نوايا روسيا تجاهها بعد انتهاء حرب أوكرانيا.

يُفرط كثير من الساسة الإسرائيليين في الحديث عن حرب وجودية يخوضونها. وقد لا يكون التعبير شائعا في خطاب حركة "حماس". ولكن هذه الحرب تبدو وجودية بالنسبة إليها أكثر من إسرائيل

كان تعبير الحرب الوجودية شائعا في خطابات عربية وإسرائيلية لأكثر من ثلاثة عقود. ولكنه أخذ في الانحسار بعد توقيع المعاهدة المصرية-الإسرائيلية في 1979، وصار هامشيا مع التوصل إلى اتفاق أوسلو في 1993. ولم يكن متصورا أن يعود بقوة وينتقل من الهامش إلى مركز الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. غير أن هذا ما حدث، وما زال، منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول والحرب التي ترتبت عليه.

يُفرط كثير من الساسة الإسرائيليين في الحديث عن حرب وجودية يخوضونها. وقد لا يكون التعبير شائعا في خطاب حركة "حماس". لكن هذه الحرب تبدو وجودية بالنسبة إليها أكثر من إسرائيل. وآية ذلك اشتراط حكومة نتنياهو نزع سلاح  الحركة وخروج قادتها من قطاع غزة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بشكل كامل. ويعني هذا العودة إلى حالة الصراع الصفري الذي يستعصي على التسوية لتعذر إيجاد حل وسط له. ترفض حركة "حماس" التخلي عن سلاحها وخروج قادتها من قطاع غزة، لأنه يعني نهاية وجودها. وترفض حكومة نتنياهو، في المقابل، وقف الحرب قبل إذعان "حماس" لطلبها الذي تعتبره الضمان الوحيد لأمنها وإنهاء ما تعتبره تهديدا وجوديا لإسرائيل. وهذا هو ما يعوق التوصل إلى أي تفاهمات منذ انهيار الاتفاق الذي وُقع في 17 يناير/كانون الثاني الماضي.

إنها، على هذا النحو، معضلة لا تقل صعوبة عن تلك التي تواجه الرئيس ترمب في حرب أوكرانيا. ولعل هذا هو القاسم المشترك الوحيد بين الحربين اللتين تعوقان طريقه لأن يدخل التاريخ بصفته صانع سلام.

توجد فرصة فعلا للتوصل إلى تفاهمات أميركية-إيرانية تُبقي لترمب أمله في أن يكون صانع سلام، وتقي المنطقة تداعيات حرب مدمرة وإشعاعات قد تنتشر في أجزاء منها حال تدمير مفاعلات نووية في إيران

بدأت المفاوضات الأميركية-الإيرانية غير المباشرة في الوقت الذي تتعثر جهود ترمب لإنهاء حرب أوكرانيا، ويتعذر التوصل إلى اتفاق بشأن حرب غزة. والسؤال المطروح الآن بالتالي هو ما إذا كان ممكنا أن يجد الرئيس الأميركي في المفاوضات مع إيران تعويضا سريعا عما يصعب إنجازه في أوكرانيا وغزة في وقت قصير. فرغم أن أزمة برنامجي إيران النووي والصاروخي ودورها الإقليمي لا تقل صعوبة، فهي لم تصل إلى مستوى الصراع الصفري الذي تريد إسرائيل دفعها إليه. فالقرار النهائي بشأنها سيُصنع في واشنطن وليس في تل أبيب. وإذا كانت إسرائيل تريد اللجوء إلى الخيار العسكري مباشرة، فإن إدارة ترمب ترى أن المفاوضات قد تُثمر مع الاستعداد في الوقت نفسه لضرب إيران حال فشل الجهود السلمية. ويراهن ترمب فيما يبدو على أن إيران اليوم أضعف من أي وقت مضى منذ أكثر من عقدين.

والحال أنه توجد فرصة فعلا للتوصل إلى تفاهمات أميركية-إيرانية تُبقي لترمب أمله في أن يكون صانع سلام، وتقي المنطقة تداعيات حرب مدمرة وإشعاعات قد تنتشر في أجزاء منها حال تدمير مفاعلات نووية في إيران.

إنها إذن أسابيعُ حاسمة سيتوقف على ما يحدث فيها الكثير بالنسبة إلى مستقبل الشرق الأوسط، وربما العالم أيضا.

font change