جمال عبد الناصر يقرّع مَن بعدَه

هزيمة 1967 فتحت بابا واسعا من الأسئلة داخل الدولة المصرية وانسحبت القومية الناصرية من النفوذ الشعبي لصالح تيارات الإسلام السياسي

جمال عبد الناصر يقرّع مَن بعدَه

استمع إلى المقال دقيقة

لا تزال التسجيلات التي نشرها عبد الحكيم نجل الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر تثير زوبعة من الأفكار والمقالات التي ترصد مدى تأثيرها، وما تفتحه من أسئلة في قراءة التاريخ المصري الحديث وما له من أبعاد على التاريخ العربي عموما. إذ ظهر جمال عبد الناصر في تلك التسجيلات في سنة 1970 متزنا ناضجا، يزن الأمور بمقياس الدولة والوطن، ويستخف بالشعارات الجماهيرية المعلنة التي يعتبر أنها صناعة لمجد شخصي لا فائدة منها في عالم السياسة، فيمكن لأي أحد أن يسلكها لكنها طنين بلا نفع.

لقد جاءت هزيمة 1967 وفتحت بابا واسعا من الأسئلة في ذلك الوقت داخل الدولة المصرية حينها وعلى مستوى الرئاسة، وانسحبت القومية الناصرية من النفوذ الشعبي لصالح تيارات (الإسلام السياسي) فارتفع ذِكر "الإخوان" بمختلف فروعهم، سواء كانوا التنظيم الأم ("جماعة الإخوان المسلمين") أو فروعهم كـ"الصحوة" والقطبيين و"جماعة الجهاد" في مصر، والجماعة الإسلامية بقيادة عمر عبد الرحمن، إلى ثورة الخميني في إيران التي توجت بالانتصار في 1979، وكانت تلك التيارات تسعى لتسجيل النقاط على منافسها الأشهر جمال عبد الناصر في التاريخ، فدخل "الإخوان" في الحرب الأفغانية-السوفياتية (1979-1989) وأشاعوا فيها أخبار الكرامات والانتصارات ليقولوا للشعوب العربية إن مستقبلهم في الانتماء لتلك التيارات، أما الناصرية ففشلت وكان لهذا تأثير عظيم على المنطقة العربية.

من يستمع لتلك التسجيلات يدرك أن جمال عبد الناصر لم يضلل نفسه بعد الهزيمة بالشعارات، بل عرف ما يقال للجماهير وما هو واقع السياسة، بخلاف حالة من خلفوا خطابه

وكان تقييم "الإخوان" للتجربة الناصرية يتلخص في موقف جمال عبد الناصر منهم، فرأوا أن هزيمة 1967 كانت لأنها لم تكن بأيدٍ متوضئة كما هو تعبير الرافعي، أو لأن جمال عبد الناصر وعد الجموع بسماع أم كلثوم بعد الانتصار كما خطب عبد الحميد كشك، أو لأنه أعدم سيد قطب قبلها بسنة 1966، فكانت عقوبة إلهية في تقديرهم له، لا لأن ذلك كان تابعا لسوء تقدير وإدارة ولا لرفع شِعارات تزيد على الإمكانيات الواقعية، تلك التي اعترف بها جمال عبد الناصر في التسجيلات التي أذيعت أخيرا، فأقر بأنهم أخذهم الغرور ولم ينتبهوا لإمكانياتهم، ولم يعتبروا بما مضى من تجربة. فمن يستمع لتلك التسجيلات يدرك أن جمال عبد الناصر لم يضلل نفسه بعد الهزيمة بالشعارات، بل عرف ما يقال للجماهير وما هو واقع السياسة، بخلاف حالة من خلفوا خطابه!
فقد سعوا متعجلين لملء الفراغ الذي تركه انسحاب الناصرية من الحياة العامة، ورفعوا الشعارات نفسها، تلك التي كانت قبل هزيمة 1967، فوعدوا الجماهير بما يفوق إمكانياتهم، وعند التجربة كانت النتائج مماثلة أو تزيد في السوء وهذا هو المتوقع فتم تدمير غزة، وحدث التقدم في لبنان وسوريا وهي نتيجة متوقعة إذ إن الخطوات نفسها في ظروف متماثلة ستولد النتائج ذاتها، وإن كان جمال عبد الناصر أقر بالهزيمة علنا وفي حديثه الخاص، وغيّر من سياساته فتقارب مع السعودية، بعد أن رفع شعارات الاشتراكية والثورة في مختلف المناطق الملكية، ثم رأى ضرورة الاتزان والواقعية السياسية باتباع فن الممكن في قضايا العرب والمسلمين، لا أسلوب المزايدة العاطفية الذي انتهجه من قبل وساهم في هزيمة مدوية أضاعت فرصة، وأرضا، فإن من خلفه من تيارات "الإسلام السياسي" لا تظهر أي تراجع ولا مراجعة!

بل رأت أن تندفع إلى أقصى درجة وتسمية كل نتائج ما سلكته على أنه نتيجة محمودة، وانتصار ساحق، وتدمير للعدو. لكن الشعوب العربية اليوم إذ تسمع تسجيلات جمال عبد الناصر تراه أجرأ منهم على مراجعة نفسه، وأبعد نظرا منهم إذ اهتم بحال العرب بعده، ولم يشأ أن يبقيهم على خطاباته النارية وعداوته لمختلف الدول العربية التي خالفت سياساته، بل كانت تلك التسجيلات كأنه يقرع من جاء بعده، ويقول لهم إنهم إذ يرفعون من سقف شعاراتهم يكونون قد قلدوه في أخطائه لا فيما تراجع عنه من أخطاء، ينطلقون كأنهم في حالة البدء من الصفر لا التراكم على التجربة العربية السابقة والتعلم من صوابها وخطئها.
إن تلك التسجيلات تقدم مادة للأجيال الحاضرة والمقبلة بأن عليها أن تسلك سبيل العقل والاتزان السياسي، وأن تحذر من أن تستبدل بشعاراته التيارات التي خلفته، مكررة أخطاءه السياسية، وبأن من خلفوا جمال عبد الناصر اعتمدوا على هزيمة وفشل خطابه السابق، ولم يمتلكوا رؤية بديلة تؤهلهم ليقودوا الشعوب إلى تغيير يعبر عن مصالح المنطقة، ولهذا وقعوا وما يزالون في أخطاء فادحة... يقرعهم في كل حين جمال عبد الناصر نفسه بتسجيلاته التي تخرج بعد ما يزيد على نصف قرن!

font change