ما بعد الطوفان

ما بعد الطوفان

استمع إلى المقال دقيقة

يتسابق المتصدرون من جماعة "الإخوان المسلمين" في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وفي "بودكاست" حول عنوان "ما بعد الطوفان"، ويتفقون على اعتبار ما حدث في غزة مقدمات لما يمكن أن يحدث في المنطقة العربية، فلم تعد الجماعة تخفي توجهها، باستثمار ما يحدث في غزة من مختلف جوانبه لإشعال ثورات تأتي بهم إلى السلطة، فالجناح العسكري لـ"حماس" يلهمهم لتأسيس مثله لكن في الدول العربية، والكارثة الإنسانية التي تتحمل القيادة السياسية للحركة شقا كبيرا من المسؤولية عنها إلى جانب الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، صارت تلك الكارثة هي الأخرى مادة للاستثمار لتبرير نشاط الجماعة في الدول العربية.

وفي الأسبوع الماضي شاعت تصريحات لمحمد إلهامي المقيم في تركيا بين كثير من الناس الذين تلقوها بالصدمة، وهو يقول بأنه لن يعتبر أي ثورة ناجحة في مصر حتى يشاهد الجيش الإسرائيلي يحتل سيناء، رغم أن كلامه قديم سبق أن نبهت على مضامينه وما يراه إلهامي تشترك الجماعة في رؤيته، فبنظرهم لن يتحقق مرادهم ما دامت الجيوش العربية قائمة، وما دامت الأنظمة السياسية العربية موجودة، رغم أن أي عاقل يدرك أن خيارات "حماس" السياسية كانت كارثة على الشعب الفلسطيني، وتسببت بمحرقة للأهالي، وتبعها قرار جائر باحتلال غزة مؤخرا، ورغم ذلك فـ"الإخوان" لا يبالون ولا يوجهون أي نقد لـ"حماس"، وهي تفوت الفرصة تلو الأخرى مكابرة للاعتراف بأنها في مرحلة "إدارة الهزيمة".

إنهم يواصلون سياستهم حتى لو استيقظ العالَم ولم يجد غزة على الخريطة، فهم الذين يستفيدون من فلسطين لا أنهم يفيدونها، فكان حراكهم الذي يدور حول فلسطين يستغلونه لعدة جوانب ومن أهمها حضور الجماعة بنشاطها ودعايتها في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مجددا، ببرنامج معبأ بتحميل الدول العربية مسؤولية كل ما يحدث في غزة، وعدم تحميل "حماس" التي حكمت القطاع لمدة تقارب العقدين أي مسؤولية، وهي التي قررت إعلان الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فمن جهة يبرئون الحركة تماما ومن الجهة الأخرى يدينون الدول العربية ويحرضون عليها.

لقد استطاعوا تنظيم عدة مظاهرات بحجة الانتصار للقضية الفلسطينية في عدة دول، وأعادوا التسويق لشخصياتهم وأفكارهم المستهلكة عن ضرورة الطوفان القادم والثورة في المناطق العربية، وحاولوا تلميع أنفسهم بالحديث عن انتماء حركة "حماس" إلى جماعة "الإخوان"، بما يزين الجماعة في أعين الشباب، ولم يكن لها أن تنشط هذا النشاط دون ربط ذلك كله بالحديث عن غزة، واستطاعت وهو الأهم بالنسبة إلى "الإخوان" إطلاق حسابات التمويل، والدعم، بحجة إيصال الأموال لغزة، فكان استمرار الحرب ضرورة بالنسبة لـ"الإخوان"، وإن كان دمارا لغزة وكارثة للفلسطينيين فيها.

حرصت الدول العربية على إنقاذ الشعب الفلسطيني بتأكيدها على ضرورة حل الدولتين، وفي مقدمتها السعودية

على أن الجماعة وإن كانت أخطبوطية الأذرع ولها احترافية إعلامية، فإنها لا تتجاوز أحلام العصافير، إذ تفتقد أي رؤية للحكم، ومن بعد سيد قطب 1966 لم تقدم الجماعة أي منظر فعال في الجماعة، فالجسد الضخم ليس له رأس كبير، كما أن الحرب التي أطلقتها "حماس" في غزة، ليست مثل باقي الجولات العسكرية السابقة التي أنهكت الغزيين، لكنها كانت تنتهي بالصورة الإعلامية التي تريدها الحركة، وترتضيها الجماعة، من ادعاء الانتصار وإطلاق شعارات الحماسة والتحريض، وهو ما فعلته "حماس" في مدة الهدنة في غزة، لكن الحرب عادت، وهي لهيب قاصم للظهر، فمن صور الخراب وتعمد إسرائيل التجويع والإبادة الجماعية، يصعب على القيادة الحمساوية أن تواصل خطابها السابق الذي أعلن عن اعتبار خسائر الغزيين تكتيكية في مقابل ادعاء أن خسارة إسرائيل استراتيجية.
لقد حرصت الدول العربية على إنقاذ الشعب الفلسطيني بتأكيدها على ضرورة حل الدولتين، وفي مقدمتها السعودية. وسعت تلك السياسة لإنقاذ الفلسطينيين من الشعارات التي نادت بمواجهة المخرز باليد! وكررها محللو الحركة بالحديث عن القتال بلحم الأطفال! فهي استراتيجية تتحالف مع إرادة اليمين الإسرائيلي بإبادة غزة وتهجير سكانها، في هذه الحرب المختلفة، وما يعلي دعاة الجماعة اليوم من سقف توقعاتهم عن طوفان قادم يوصلهم إلى الحكم في المناطق العربية، إنما هو أحلام يقظة، فالجماعة التي استغلت غزة طيلة أيامها القاتمة السابقة، هي شريك في نتائج هذه الحرب المدمرة للحجر والشجر، ومن قبل ذلك وبعده: الإنسان في غزة، وستدفع الجماعة ثمنا في موقف الشعوب العربية منها.

font change