"الإخوان" بين الحظر القانوني وأقلام الثقافة

لا تمانع الجماعة من منح خطابها برنامجا ليبراليا إن تطلَّب الأمر في سبيل وصولها إلى الحكم

"الإخوان" بين الحظر القانوني وأقلام الثقافة

استمع إلى المقال دقيقة

ما إن اتجهت واشنطن إلى حظر جماعة "الإخوان" حتى بدأت نقاشات أعضاء الجماعة وقادتها تدور في فلك التَّعامل مع القرار الجديد حتى لا يحدُثَ صِدام بينهم وبين الولايات المتحدة الأميركية، فتناقشوا كيف سينالون طمأنتها بأنهم يلتزمون بقرار حظرهم؟ فمنهم من اقترح حلَّ الجماعة، ومنهم من قال فلتكن الجماعة موجودة لكنَّ عليها اعتزال العمل السِّياسي مع إبقاء المشاركة السِّياسية خارج جسم الجماعة الرَّسمي. وقد أجاد أستاذ رضوان السَّيد في مقالته في التَّعليق على قرار الحظر بقوله: "مشكلتنا مع (الإخوان) أكبر من مشكلات الغربيين"، وهو عنوان صالح لبيان أنَّ مشكلة "الإخوان" نفسها تكمن في خصومتها مع المنطقة العربية لا الغرب!

لقد أدمنت الجماعة سماع قرارات حظرها في مصر مرارا، إذ حظرتها سنة 1948، وسنة 1954، ثم الحظر الأخير في منذ سنة 2013، وفي روسيا حظرت الجماعة سنة 2003، وفي السعودية والإمارات والبحرين سنة 2014. ومع ذلك وبلا مبالغة فإنها جماعة أدمنت الحظر، حتى بات ذلك جزءا من دعايتها وهويتها، فكانت تسعى للتكيُّف كلَّ مرة، لكنَّ الجديد هذه المرة أن يأتي الحظر من الولايات المتحدة الأميركية، بما يشمله ذلك من تضييق مالي، وتصعيب للدَّعم اللوجستي بين فروع الجماعة. وكانت الجماعة قد اتجهت في تاريخها لخطاب حربائي عند استشعارها للخطر، وكان آخرها حين اتجهت الجماعة منذ 2001 نحو مخاطبة الغرب بعد هجمات 11-9، فسعت إلى الانفصال عن الخطاب الذي قد يربطها بأيِّ تنظيم يمثِّل خطورة على الغربيين، فعملت على الانسلاخ عن التحريض على الغرب.

فساهم كبار منظري وكتَّاب الجماعة بفتاوى جواز قتال المسلمين في الجيش الأميركي أثناء الحملة العسكرية على أفغانستان التالية على هجمات 11-9، ووقع عليها الشيخ يوسف القرضاوي ومحمد سليم العوا وطه جابر العلواني وغيرهم، وحاولت الجماعة عبر أقلامها إسماع الغرب ما يودُّ سماعه، مثل التأكيد على مشاركتهم في العملية الانتخابية والتغيير السِّلمي، وكان التنظير الديني الذي شكَّلته شخصيات مثل القرضاوي قد تمثل في المنع من الهجمات على الغرب، ونشر فتاوى إجازة العمل السِّياسي، مرورا بتغيير خطابهم السَّابق عن الحاكمية، والمجتمعات الجاهلية كما كانوا عليه في زمن سيد قطب، حتى إنَّ القرضاوي له كتاب بعنوان "خطابنا في عصر العولمة" الصَّادر سنة (2004) قال فيه بضرورة عدم الحديث عن الغرب بأنَّه كافر، بل القول إنهم من غير المسلمين فقط! وفي الوقت الذي كان القرضاوي يمرِّر مفهوم المواطنة بديلا عن عقد الذِّمة الفقهي في التَّعامل مع الأقباط في مصر في كتبه، أعلن العوا إنهاء النظرة الفقهية التَّقليدية إلى الدُّور بأنَّها تنقسم إلى دار إسلام ودار كفر، وعدَّ ذلك قد انقضى زمنه في كتابه "للدين والوطن" الصادر سنة 2006.

بل إن خطاب عدد من قادتهم في مرحلة وجود الديمقراطيين في الإدارة الأميركية تحدَّث عن عدم وجود عقوبة دنيوية على المثليين في الشَّريعة، ورفع بعضهم شعار "لا تظلموا المثليين"! وذلك تابع لسعي الجماعة منذ ما يزيد على عقدين إلى تكييف نفسها لتكون موجهة إلى إحداث ثورات داخل المنطقة العربية فحسب، فما إن فشلوا بعد 2012 وفرَّ الكثير منهم إلى دول متعدِّدة حتى لم يكن لهم أيُّ نشاط يمكن أن ينغِّص على الدُّول المضيفة، فلم يعارضوا سياساتها علنا، ولهذا يمكن أن تختصر سياسة جماعة "الإخوان" اليوم بأنَّها سعي نحو الحُكم في المنطقة العربية حصرا، ولو كان ذلك بالإرهاب والتَّحريض، لكنَّها ستكون مطيعة تماما ما دامت تتعامل مع الدُّول المحيطة.

بدأت بوادر انحناء الجماعة أمام قرار واشنطن، ولكنَّ الجماعة عملت لعقود طويلة على تشويه الثقافة العربية، وتحويلها إلى مجموعة جاهزة من الأحكام التي تهاجم الأوطان والدُّول، وتخرِّب الانتماء لغير جماعتهم

فالجماعة تحافظ على طبقات من الخطاب وفي نواتها تتربَّع أيدلوجيتها المتطرفة، وهي لا تمانع من منح خطابها برنامجا ليبراليا إن تطلَّب الأمر في سبيل وصولها إلى الحكم، وهي التي تفتقد أدوات فهم منظومة الدَّولة الوطنية بل أيدلوجيتها تنافر مفهوم الدولة الوطنية، فهي أشبه ما تكون بالدَّعوات الباطنية في القرون السَّابقة، لذلك فهي تطيع قرار حظرها متى ما تمَّ في أيِّ دولة غربية مع الاحتفاظ بنواتها المتطرِّفة، وتبقى مشكلتها موجَّهة إلى المنطقة العربية.
وقد بدأت بوادر انحناء الجماعة أمام قرار واشنطن، ولكنَّ الجماعة عملت لعقود طويلة على تشويه الثقافة العربية، وتحويلها إلى مجموعة جاهزة من الأحكام التي تهاجم الأوطان والدُّول، وتخرِّب الانتماء لغير جماعتهم، فبقي الحِمل ملقى على كاهل المنطقة العربية، لملاحقة خطاب الجماعة الذي لم يستطع تجاوز منطق الميليشيا العابرة للحدود، ليس في الجانب القانوني فقط، بل بالأقلام الثقافية كذلك، برصد التَّغيرات في التكيُّف الجديد الذي تتبعه الجماعة في سبيل البقاء على قيد الحياة.
فهي مهمة تكاد تكون وظيفة علمية وثقافية حصرا، حيث أضحت الجماعة أستاذة في طرق التحايل القانوني، عبر تغيير اللافتات التي تعمل تحتها، والخلط بين الدِّين والتنظيم، ومهمَّة الثقافة تكمن في استبدال المفاهيم التي تسعى لضخها الجماعة، وتتبع السِّياسات التي تبطنها بطريقة ممنهجة، فالأقلام الثقافية تقدر على ما لا يشمله الغطاء القانوني، أمام جماعة تنقل ثقلها اليوم إلى عالم الإنترنت الافتراضي، حيث بات لها قادة فيه، أكثر مما هم على أرض الواقع، وصار تركيزها على صناعة الحاضنة، أكبر من إعادة تفعيل التنظيم.

font change