الرمز وتأثيره... من الإشارة إلى العمق

الرمز وتأثيره... من الإشارة إلى العمق

استمع إلى المقال دقيقة

منذ أقدم رمز مكتشف في كهف "بلومبوس" بجنوب أفريقيا العائد إلى 70 ألف سنة ق.م والدلائل تؤكد على أن الرموز وحدها هي الأثر الباقي والرسالة التاريخية التي لا تنساها الأمم. فهو شكل بصري يحمل الذاكرة الجمعية ويحرض على الفعل، وأحيانا يكون دلالة على الوحدة أو الصراع.

ولعل أكثر ما يميز الرمز عن غيره أنه تعبير صامت وعلامة صغيرة تحيل إلى عالم واسع من المعاني، ونافذة تطل على المجرد من خلال المادي. لأجل هذا ومنذ فجر الحضارة استخدمه الإنسان ليُعبّر عن انتصاراته ومخاوفه وآماله ومعتقداته وهويته.

ومن تلك اللحظة التي خطّ فيها الإنسان الأول رموزه البدائية على جدران الكهوف، ورفع نظره إلى السماء فقرأ في الشمس والقمر إشارات تتجاوز ضوءها وظلالها، بدأ ما يمكن تسميته "عصر الرموز" حيث لم يكن للكلمة وحدها القدرة على احتواء دهشة الوجود أو تفسير لغزه.

وُلد الرمز إذن قبل اللغة المكتوبة، وقبل تشكل الوعي الجمعي بنظام سردي واضح، كوسيلة لتثبيت المعنى وتوريثه، وكأداة للنجاة من نسيان اللحظة وتبددها... إنه اختزال للزمن، وانعكاس للوجدان، وترجمان للمعنى في أقصى درجات اختصاره وبلاغته، وحمّال لمحتوى نفسي، واجتماعي، وأحيانا سياسي. فالعلم الفلسطيني على سبيل المثال تجاوز دوره الرسمي ليُصبح رمزا عالميا للصمود والنضال، وكإعلان عن التضامن مع قضية وجودية عادلة، ومثلها القضية السورية وغيرها من القضايا الكبرى.

وفي عالم اليوم حيث تتسارع الصورة على حساب الكلمة، يعود الرمز مجددا ليتصدر المشهد، ليس بوصفه أداة تواصل فحسب، بل ككيان مؤثر في تشكيل الشعور الإنساني الغائر في النفس البشرية. لذلك فإن فهم طبيعة الرمز وتحليل أثره لا يقتصر على دراسة الفن، أو الدين، أو الأدب، بل يُعدّ مدخلا لفهم الإنسان ذاته: كيف يشعر؟ وبماذا يؤمن؟ وكيف يُقاتل أو يحتج لأجل من يُحب؟ ولفهم تصنيفات هذا الرمز علينا معرفة أجناسه.

فالرمز الثقافي مثلا يعد أحد أهم الأدوات التي تستخدمها المجتمعات لتأكيد هويتها وتمييزها عن غيرها كالأعلام الوطنية التي تحولت من قطعة قماش ملونة تُرفع في المناسبات الوطنية إلى ملخص لحقبة تاريخية، وانتصارات وهزائم، وأحلام جماعية، فبالنظر إلى العلم تستيقظ في ذات الفرد أو الجماعة مشاعر الانتماء والفخر، ليحتضن رمزها الثقافي هويتها مع كل لحظة إنجاز.

وكذا الرموز الدينية التي تبني جسورا بين العالم المادي والمقدّس، وتساعد على تجسيد ما لا يرى: فالهلال لدى المسلمين يرتبط بدورة القمر، وبدء الصيام أو العيد، وتذكير بمواعيد العبادة والانضباط الروحي. والصليب لدى المسيحيين ليس مجرد شكل هندسي، بل رمز لفكرة عظيمة عن الفداء والمحبة والتضحية، وحينما يعلق في الكنائس يُذكرهم وفق معتقداتهم بحضور الإله. وأما زهرة اللوتس لدى البوذيين فهي رمز للصفاء والتأمل والنهوض من المستنقع إلى النور.

في الرمز تختبئ القصص التي لا تُحكى، والأوجاع التي لا تجد لسانا، والأحلام التي تحتاج إلى شكلٍ لتعيش. إنه مرآة للمعنى، لكنه أيضا مرآة للغياب

وللقيمة التأثيرية التي يمثلها الرمز نجدها تعرضت للاختطاف والتحول، فخلال القرون الماضية تغيرت بعض معانيها وقيمها فالصليب المعقوف "السواستيكا" كان سابقا رمزا هندوسيا يعبر عن الخير والطاقة الكونية، لكن "النازية" قلبت دلالته تماما وجعلته شعارا لسياسات الكراهية والاضطهاد. وبهذا فقد مكانته الإيجابية وقوة تأثيره في الوعي الخاص بأتباعه، وأصبح يثير الذعر والنعرات وذاكرة الخراب.
وفي عصرنا الحالي القائم على التواصل اللحظي، تتعرض الرموز إلى استهلاك مفرط وسريع أفقدها معناها الأصلي وتحولت من كونها وسيلة للتعبير البسيط، إلى دلالات اجتماعية، وأحيانا سياسية، بل وأخذ بعضها صيغا من صيغ المقاضاة القانونية. 
الرمز بعد الذي مضى يؤكد لنا أنه ليس مجرد علامة تشير إلى شيء آخر، بل هو كائن يتنفس في المسافة الفاصلة بين العين والقلب، وبين ما نراه وما نشعر به. إنه الحبر الخفي الذي تكتبه الحضارات على جدران الوعي، والظل الذي يتبعنا حين ننظر إلى النور. حين يولد الرمز لا يولد من فراغ، بل من حاجة الإنسان إلى أن يقول ما لا يقال، ويُلمّح لما لا يُحتمل التصريح به، لهذا يصل الرمز ذو الإيحاء المتطابق مع عوالم النفس الداخلية صادقا ويغدو أسلوب حياة يومية وتعبيرا تتوارثه الأجيال.
في الرمز تختبئ القصص التي لا تُحكى، والأوجاع التي لا تجد لسانا، والأحلام التي تحتاج إلى شكلٍ لتعيش. إنه مرآة للمعنى، لكنه أيضا مرآة للغياب. يُشير أحيانا إلى ما لم يكن، أو ما كان ينبغي أن يكون. وبين حدوده وامتداداته، وسلطته وغموضه، يكمن سره الأعمق، أن يظل دائما مفتوحا على تأويل جديد، مثل إشارة لا تنتهي، أو دعوة للإنصات إلى صمت يفكر. 
أخيرا: الرمز في جوهره وإيحاءاته لا يعطينا إجابات بقدر ما يعلمنا كيف نطرح الأسئلة.

font change