سيرة حياة الآثاري، هي سيرة مكابدة حقيقية، وكأنه رسول يلبي نداء التاريخ لتصويبه من خلال الاستمرار في التنقيب بولادة أثر جديد، فلا تصويب ولا إضافة دون المزيد من التنقيب...
هذه المقدمة القصيرة لا أريد بها توجيها بقدر إنعاش سيرة أهم علماء الآثار الذين عملوا في دولة الإمارات والخليج العربي وبلاد الرافدين وإيران، أي بالتحديد حول حوض الخليج العربي، وكيف أحدثت حفرياته ثورة في فهمنا للتاريخ القديم، وهو البروفيسور البلجيكي إيرني هايرينك الذي توفي عام 2016، بعد أن اجتهد بحثا وتنقيبا في آثار سواحل الخليج عامة. وما يعنيني هنا أهم اكتشافاته على الساحل العربي، ويقصد الأوروبيون بالساحل العربي كاسم معتمد في مصادرهم منذ الاستعمار البريطاني، المنطقة من رأس مسندم إلى قطر.
وللتوضيح أكثر، فإن لتنقيباته في دولة الإمارات، وتحديدا في موقع الدُورْ بإمارة أم القيوين عام 1986، الأثر البليغ في فهم عقيدة وتجارة هذه الأرض، خاصة بعد اكتشافه معبد الشمس في الدور والذي يعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، وهو اكتشاف غَيّر نتائج فهمنا للعبادات ولشبكات التجارة في أرض الإمارات قديما وقبل الإسلام، ونقول معبد الشمس أو "الشمش" كما كانت مكتوبة بالحروف الآرامية أثناء التنقيب، وهي من المعابد المكرسة لعبادة الشمس. والشمس هنا معبود مذكر، كما هو الحال في شمال شرق، وجنوب شرق شبه الجزيرة العربية، على خلاف جنوب ووسط شبه الجزيرة العربية حيث إن الشمس كانت إلهة أنثى.
كان العثور على المعبد شبه صدفة، فأثناء تجول هايرينك في موقع الدُور، وهو موقع يبعد عن إمارة دبي حوالي 50 كيلومترا فقط، رأى هايرينك ومن معه صخورا مستديرة وصغيرة سوداء فوق كثبان الرمل، وكان المكان خارج نطاق التنقيبات نهائيا، فأتى قرار التنقيب في ذلك الموسم باقتراح منه، واستمر مواسم عدة، ويخرج أثر المبنى من ذلك المكان، وبدا استثنائيا وفريدا من نوعه، خاصة بنية المعبد المربع الشكل. وأخذ الآثاري هايرينك يضع الافتراضات لهذا المبنى، هل هو معبد؟ أو قد يكون مقاما مقدسا؟ حتى ثبت افتراض أنه معبد بعد تنقيبات المواسم التالية لعام 1988، باكتشاف النقش الآرامي بجوار المعبد والذي كُتب بشكل جلي: الإله الشمس.
الغريب في الأمر أن جدران المعبد ملساء ومكتملة على نحو جيد، وتشبه في جدرانها الخارجية المعبد الجنائزي الروماني اليوناني في هيرموبوليس بمصر، خاصة بعد العثور على زخارف جصية مماثلة للبناء الحجري المنحوت، وزخارف داخلية مستعملة كما في النحت الروماني في بومبي الإيطالية، وكذلك في بعض العمائر الشرقية.. ومع زيادة التنقيبات ظهرت القبور حول المعبد، وضريح محاط بثمانية عشر قبرا أصغر منه.
من يقرأ مجلد التنقيبات الآثارية في موقع الدور، والذي تركه الراحل إيرني هايرينك، وفيه أعماله ورسوماته وقياساته وخرائطه، يجد مؤكدا أن موقع الدور كان مركزا حضاريا أو مملكة
كما تم العثور على تمثالين لنسرين، وعلى زخارف فوق منعطف مدخل الباب، ومشغولات رومانية من البرونز، كالصناديق وشظايا قارورة زجاجية صغيرة بمقبضين، ووعاء حجري مصنوع من حجر الوادي القريب، ومقبس من باب وبلاطات أرضية شبه محفوظة، ومسامير برؤوس كروية حديدية، ومصابيح برونزية وقاعدة تمثال برونزي آخر يشبه الجرس، وخاتم برونزي، وأجزاء من صفيحة ذهبية وقطع فضية...
ولأن المعبد وما حوله من المدافن قرب أشجار القرم (المانجروف) أمام الميناء وساحل البحر، فلا عجب أن يتم العثور على أدوات الصيد البحرية، بتفاصيلها التي تعنى بصيد اللؤلؤ ومثاقب الشباك والصنارات... بالإضافة إلى الأواني الرومانية ومسكوكات أغلبها من العملات المحلية، بالإضافة إلى أدوات النسيج والمغازل والإبر وكل ما يعنى بحياكة الملابس، بجانب المصنعات الجمالية كالأمشاط، إلى الأجراس والأمواس والدبابيس والأدوات الكمالية وكل ما يتعلق بالمواد الغذائية من مغارف ومناجل برونزية وحجرية تعنى بالمعيشة العامة..
وأخيرا كل تلك الموجودات تأكيد بأن الموقع كان يوما مملكة مكتملة، فمن يقرأ مجلد التنقيبات الآثارية في موقع الدور، والذي تركه الراحل إيرني هايرينك، وفيه أعماله ورسوماته وقياساته وخرائطه، يجد مؤكدا أن موقع الدور كان مركزا حضاريا أو مملكة، أي إنها مدينة لا قرية، واصفا الموقع بأنه أكبر موقع معروف على الشواطئ العربية في الخليج حتى الآن، وأن هذه المدينة من أكثر المدن إسهاما في النهضة التجارية للخليج قديما.