الركن الخامس والرفادة السعودية

الركن الخامس والرفادة السعودية

استمع إلى المقال دقيقة

لم يكن التاريخ بأكمله يتخيل ما حازته مكة المكرمة اليوم من رفادة بعد القرون التي مرت بها من خدمات وعناية وقدسية وشرف خدمة البيت الحرام وزائريه. فمن طعام سنّه هاشم بن عبد مناف لتصبح من بعده منقبة في قريش تخرجه من أقواتها في كل موسم، إلى من خلفها في تقديم الرفادة للحجاج، إلى ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وقلده في فعله الخلفاء الراشدون ومن أتى بعدهم من خلفاء إلى أن انتهت مقاليد الأمور بيد العهد السعودي الذي تحمل هذه المسؤولية الجسيمة منذ تأسيسه، واضعا في مقدمة أولوياته خدمة ضيوف الرحمن وتوفير أقصى درجات الأمن والراحة لهم، مهما بلغت التكاليف.

وفي كل عام تُثار تساؤلات حول ما إذا كانت السعودية تخسر اقتصاديا بسبب التكاليف الباهظة لتنظيم موسم الحج، فإن هذا الطرح رغم تكراره يغفل باستمرار نتيجة الأبعاد الاستراتيجية العميقة التي تتجاوز الحسابات المالية المباشرة، وتكشف أن الحج ركن ديني تقدم المملكة أثمن ما لديها من أجل قضائه بسكينة وروحانية تليق بضيوف البيت العتيق.

يؤكد ذلك ما أنفقته السعودية من المليارات طوال العقود الماضية لأجل هذا الغرض الشريف من توسعة الحرمين الشريفين لتواكب تزايد أعداد الحجاج والمعتمرين عاما تلو آخر. فتوسعة الحرم المكي بمفرده تجاوزت في العقد الأخير 100 مليار ريال سعودي اشتملت على توسعة صحن الطواف، وإضافة ساحات جديدة، وإنشاء أنظمة صرف متقدمة، وبنية تحتية ضخمة تعمل تحت الأرض دون أن تبصرها الأعين. إضافة إلى توظيف التكنولوجيا المتقدمة من كاميرات المراقبة الذكية، وأنظمة التحكم في الحشود، وشبكات الاتصالات فائقة السرعة، وشاشات الإرشاد متعددة اللغات لتسخر بأكملها من أجل توفير تجربة دينية وإنسانية آمنة وفريدة.

ومن هذه المشاريع إلى قطار الحرمين السريع الرابط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة مرورا بمدينة جدة، والذي بلغت كلفته نحو 63 مليار ريال، وهو أسرع القطارات في المنطقة حيث تقلص رحلاته المنتظمة الازدحام، وتختصر وقت التنقل بين الحرمين الشريفين. كما تشمل منظومة النقل خلال الحج آلاف الحافلات، ورحلات الطيران الداخلي والدولي، وإدارة حركة المرور خارج وداخل المشاعر المقدسة مع توفير حلول نقل ذكية مصاحبة للبيئة، ومسارات للمشاة، وعشرات الآلاف من عربات ذوي الاحتياجات الخاصة، وسيارات النقل الكهربائية.

تستهلك الخدمات ميزانيات ضخمة، لكنها تشكل العمود الفقري لضمان سلامة الحجاج ونبل الرسالة التي تحملها القيادة السعودية من أجل أن يقضي حجاج بيت الله ركنهم الخامس بسكينة تامة

لا تقتصر التكاليف على المنشآت والخدمات اللوجستية فحسب، بل تشمل التشغيل السنوي المتكرر الذي يتطلب تعبئة بشرية وخدمية ضخمة تجاوزت هذا العام 250 ألف كادر بين رجل أمن، وطبيب، وممرض، ومتطوع، إضافة إلى 13.500 كادر بين عامل ومراقب نظافة مقسمين على مدار الساعة في المشاعر ضمن منظومة متكاملة. إضافة للمستشفيات الميدانية، والمراكز، والعربات الصحية المتنقلة، وسيارات الإسعاف، وطائرات الإخلاء الطبي المجهزة بأجود الخدمات العالمية.
ما تجدر الإشارة إليه هو ملايين الوجبات وقوارير المياه والعصائر المبردة التي توزع مجانا على مدار أيام الحج. إضافة للخدمات الإنسانية، والاستشارية الميدانية والإلكترونية الضخمة التي تهيئ الحجيج للتفرغ لعبادتهم وقضاء نسكهم على أكمل وجه... وجميع هذه الخدمات تستهلك ميزانيات ضخمة، لكنها تشكل العمود الفقري لضمان سلامة الحجاج ونبل الرسالة التي تحملها القيادة السعودية من أجل أن يقضي حجاج بيت الله ركنهم الخامس بسكينة تامة. 
وعاما تلو عام، يكتشف العالم بوجه عام والإسلامي منه بشكل خاص حقيقة العناية الخالصة التي تقدمها السعودية لضيوف الرحمن، لأن المسلمين هم أكثر الناس معرفة بشعائرهم ومسار خدماتها، ويعلمون مقدار الخسائر المتعددة التي تتحملها السعودية كل عام بغية التطوير الكبير والمستمر في أنظمة السلامة وتأمين الحجاج من لحظة هبوطهم إلى ساعة مغادرتهم، مقلصين عنهم الغلاء كتخفيض أسعار النقل، ودعم الفنادق، وتقديم كافة الخدمات التي لا تعود بشكل مباشر على ميزانية الدولة بقدر ما تسعى لنيل رضا الحجاج الكامل وتمام تجربتهم الروحية.
ومع كل حادثة ناتجة عن كوارث طبيعية أو أخطاء فردية هناك مراجعة شاملة وتحسين مستمر للأنظمة، وهو ما يجعل منظومة الحج اليوم هي الأكثر دقة وأمانا وتنظيما في العالم، فالقيمة الوجدانية وإقامة الحقوق الدينية هي محور أساسي لإنجاح رحلة الحجاج التي اتخذ من أجلها ملوك المملكة العربية السعودية لقب "خادم الحرمين الشريفين" لا للتشريف وحده، بل للمسؤولية التاريخية والدينية التي يجب أن يكرسها ويرسخها الحج سنويا في وعي الشعوب الإسلامية التي ترى وتلمس على أرض الواقع حقائق لا يشعر بها سواهم. 

أجزم أن نجاح المملكة في استضافة مليون وستمئة وثلاثة وسبعين ألفا ومائتين وثلاثين حاجا وحاجة قدموا هذا العام من خارج المملكة وداخلها، ليس لأنها تطبق سياسة التضحية الاقتصادية، بل لأن قيادتها وشعبها يتّحدون في استشعار عظمة هذه المناسبة  الدينية ويفخرون بمشاهد التنظيم الدقيق والخدمة الإنسانية الرفيعة لضيوف الرحمن التي تعزز من روح المواطنة والانتماء والإخاء الإسلامي بجميع بقاع الأرض. 
لأجل هذا كله لا تنظر السعودية قيادة وشعبا إلى الحج بمنظور مادي بمقدار ما تراه مشروعا استراتيجيا يحقق لها مكاسب معنوية تتجاوز الحسابات المالية، ولا ترى فيه فاتورة لسداد ما تزيده كل عام من مشروعات نوعية وخدمية تتضاعف قيمتها للحد الذي يعجز العالم بأكمله عن سدادها، لتقدم بذلك نموذجا فريدا في الدمج بين الخدمة والإدارة حيث يجتمع الإيمان والتنظيم في أعظم لوحة إنسانية سنوية على وجه الأرض.

font change