الكشف عن أقدم "خريطة وراثية" مصرية في التاريخ

رجل عاش في مصر قبل 4500 عام بأصول أفريقية وآسيوية

كارولين ويلكينسون وجامعة ليفربول وجون موريس
كارولين ويلكينسون وجامعة ليفربول وجون موريس
إعادة بناء وجه فرد من النويرات باستخدام بيانات مسح ثلاثي الأبعاد للجمجمة وتحليل العظام.

الكشف عن أقدم "خريطة وراثية" مصرية في التاريخ

قبل آلاف السنين، وفي أرض تضاء بشمس صعيد مصر القاسية، عاش رجل مصري في قلب وادي النيل، في زمن لم يكن فيه شيء مألوف بعد. لا أهرامات، ولا مجد إمبراطوري وُلد، بل كانت مصر لا تزال تشق طريقها نحو الفراعنة العظام.

كان ذلك الرجل يعيش على ضفاف النهر العظيم في المدينة التي تُعرف اليوم باسم النويرات وتقع بالقرب من موقع بني حسن الأثري المصري، حيث الأرض خصبة، والناس يحرثونها بأيد خشنة وبإيمان لا يتزعزع بأن الحياة هنا تستحق العناء.

كان رجلا بالغا، قوي البنية، يعمل بجسده حتى تآكلت مفاصله، وانهكت عظامه، وتآكلت أسنانه من قسوة الطعام والعمل. عاش حياة طويلة نسبيا لزمنه — ربما بلغ الستين — وهو إنجاز في حد ذاته. كان على الأرجح حرفيا، يعمل في صناعة الفخار أو ربما في تصميم المقابر، يكد من شروق الشمس إلى غروبها، في مجتمع بدأ يتشكل فيه معنى التنظيم المركزي والدولة.

ربما حمل جسده علامات شقاء يومي مستمر، لكنها لم تمنعه من نيل مكانة اجتماعية تحترم، إذ دفن في جرة فخارية ضخمة داخل قبر منحوت في الصخر، دفنا لا يُمنح إلا لمن لهم شأن.

لم يكن يعلم أن جسده، بعد موته، سيبقى محفوظا لآلاف الأعوام، ولم يكن يتخيل أن علماء من عالم مستقبلي سيعودون إلى عظامه، يستخرجون من نخاع أسنانه شفرته الوراثية، ويقرأون منها قصة لا صوت لها. فقد كان الرجل إنسانا بسيطا في عصر مليء بالبدايات؛ عاش ومات على هامش التاريخ المكتوب، لكنه الآن في صميم دراسة ستعيد رسم خريطة أصول المصريين القدماء.

فللمرة الأولى، تمكن فريق علمي دولي من إجراء تسلسل جينومي كامل لبقايا إنسان مصري عاش في فترة مبكرة من تاريخ مصر الفرعونية، وتحديدا بين عامي 2855 و2570 قبل الميلاد، أي في زمن يربط بين عصر التوحيد السياسي لمصر وبداية الدولة القديمة.

نيتشر
مقابر منحوتة في الصخر بالنويرات تحيط بالوعاء الفخاري الذي يحتوي على دفنة التابوت الفخاري.

ووفقا للدراسة المنشورة في دورية "نيتشر" فإن النتائج تكشف عن مزيج غير متوقع من الأصول الجينية. فمعظم التركيب الوراثي لهذا الفرد ينتمي إلى شمال أفريقيا في العصر الحجري الحديث، ولكن ما يقرب من 20% منه يعود إلى أصول من الهلال الخصيب الشرقي، بما في ذلك بلاد ما بين النهرين (العراق الحديث) ومناطق قريبة منها.

التسلسل الجينومي

التسلسل الجينومي عملية تحليلية دقيقة تهدف إلى فك الشيفرة الوراثية الكاملة لأي كائن حي، وذلك من خلال تحديد الترتيب المتسلسل للوحدات الكيميائية التي تشكل الحمض النووي الذي يعد بمثابة "كتاب التعليمات" الذي يحدد ملامح الكائن، وصفاته الوراثية، وأصوله البيولوجية.

تسمح هذه العملية بقراءة الجينوم – أي مجموعة الجينات الكاملة – وفهم كيفية عمله، مما يتيح الكشف عن السمات الجسدية المحتملة، والأمراض الوراثية، وأنماط التكيف البيئي، وكذلك العلاقات الجينية بين الأفراد والمجموعات السكانية المختلفة.

تبرعت مصلحة الآثار المصرية بالمومياء بين عامي 1902 و1904 لأعضاء لجنة تنقيب بني حسن، الذين قاموا بدورهم بالتبرع بها لمعهد الآثار بجامعة ليفربول

وفي علم الآثار والأنثروبولوجيا، تكتسب هذه التقنية أهمية استثنائية، إذ تسمح بإعادة بناء التاريخ الوراثي للبشر من خلال تحليل بقايا العظام أو الأسنان، حتى وإن مرّ عليها آلاف السنين، حيث يمكن استخلاص الحمض النووي من بقاياه وتحليل تسلسله الجيني الكامل تقريبا، رغم تدهور العينات بفعل الزمن. ومن خلال ذلك، يتوصل الباحثون إلى معرفة تركيبه الوراثي ومصدر أصوله الجغرافية.

المومياء التي عُثر عليها في موقع النويرات كانت مدفونة داخل إناء فخاري كبير في قبر منحوت في الصخر، وهي طريقة دفن تشير إلى مكانة اجتماعية مرموقة.

متحف جارستانج للآثار جامعة ليفربول
وعاء فخاري اكتشف فيه فرد النويرات.

وقد كشف التحليل العظمي أنها كانت لذكر يتراوح طوله بين 157 و160 سم، وعاش إلى عمر يُقدر بين 44 و64 عاما، وهو عمر طويل نسبيا في ذلك العصر، رغم ظهور علامات بارزة من هشاشة المفاصل والجهد البدني المزمن على هيكله، مما يشير إلى حياة عملية مرهقة، ربما كحرفي أو فخاري.

على مدار أربعين عاما، ومنذ المحاولات الرائدة التي قام بها الحائز جائزة نوبل سفانتي بابو لاستخلاص الحمض النووي القديم، ظلت تحديات الحفاظ على الحمض النووي في البيئات الحارة تشكل عقبة كبيرة. إلا أن التطورات التكنولوجية الحديثة مهدت الطريق لهذا الاكتشاف غير المسبوق. ففريق البحث تمكن من استخراج الحمض النووي من تلك المومياء التي تم استخراجها من مقبرة النويرات بالقرب من بني حسن في مصر وتبرعت بها مصلحة الآثار المصرية بين عامي 1902 و1904 لأعضاء لجنة تنقيب بني حسن، الذين قاموا بدورهم بالتبرع بها لمعهد الآثار بجامعة ليفربول، وفي عام 1950، نُقل الرفات إلى المتحف العالمي والمعروف سابقا بمتحف مدينة ليفربول.

حصل الفريق العلمي على تصريح لأخذ العينات من المتحف العالمي وأجريت عمليات أخذ العينات واستخراج الحمض النووي من سبع أسنان دائمة في منشآت مخصصة لدراسة الحمض النووي القديم بجامعة ليفربول.

وقبل أخذ العينات، خضعت الأسنان لعملية تعقيم باستخدام محلول هيبوكلوريت الصوديوم بنسبة 1%، ثم شُطفت بالماء المعالج للاستخدام في البيولوجيا الجزيئية والإيثانول. واستُخرج ما يقارب من 44–66 ملغرام من مسحوق غني بالملاط السني لكل سن باستخدام مثقاب درمل بأقل سرعة دوران ممكنة والبالغة 5000 دورة في الدقيقة.

هذه هي المرة الأولى التي يُكتشف فيها هذا النوع من "التداخل الجيني" المباشر بين سكان مصر القديمة وسكان بلاد الرافدين من خلال الحمض النووي، وليس عبر التحليل الأثري أو المقارنات الثقافية.


وبينت النتائج أن الرجل المصري القديم يحمل تركيبة وراثية مختلطة. فالغالبية العظمى من جيناته - نحو 77.6%- تعود إلى سكان شمال أفريقيا في العصر النيوليتي، وتحديدا من المغرب الأوسط، أي من شعوب عاشت قبل آلاف السنين في مناطق تمتد من الساحل الأطلسي إلى داخل شمال أفريقيا، عُرفت بمزيجها الوراثي الناتج من تفاعل سكان محليين مع مهاجرين من الشرق الأدنى خلال العصر الحجري الحديث.

ولكن المفاجأة جاءت من النسبة الباقية — نحو 22.4% — التي تطابقت مع جينات تعود إلى سكان بلاد الرافدين في الفترة ما بين 9000 و8000 قبل الميلاد، وهي فترة تعود إلى بدايات الزراعة واستقرار الإنسان في المدن.

ما يجعل هذه النتيجة ذات أهمية كبرى، أنها المرة الأولى التي يُكتشف فيها هذا النوع من "التداخل الجيني" المباشر بين سكان مصر القديمة وسكان بلاد الرافدين من خلال الحمض النووي، وليس عبر التحليل الأثري أو المقارنات الثقافية.

فلطالما عرف الباحثون أن هناك تبادلا ماديا وثقافيا بين هاتين المنطقتين، مثل استيراد القمح والشعير من الشرق الأدنى، أو ظهور الكتابة والصناعات الفخارية في مصر متأخرة عن نظيرتها الرافدية. لكن لم يكن هناك دليل بيولوجي يثبت أن الناس أنفسهم تنقلوا بين المنطقتين وتركوا بصمتهم الوراثية.

وتعيد هذه النتيجة رسم خريطة التفاعل البشري في الشرق الأدنى القديم، وتُظهر أن مصر، منذ نشأتها الأولى، لم تكن منعزلة، بل كانت جزءا من شبكة إقليمية متشابكة من التبادل والهجرة، تشمل شمال أفريقيا، وبلاد الشام، وبلاد الرافدين.

ووفقا لتحليل النسب، فإن النمط الوراثي لهذا الرجل لا يتطابق مع شعوب بلاد الشام في العصر البرونزي، مما يضعف احتمال أن تكون الأصول الرافدية قد وصلت إلى مصر في فترات لاحقة. بل تشير الأدلة إلى أن موجة هجرة من بلاد الرافدين وصلت إلى مصر مباشرة أو عبر شمال أفريقيا في وقت مبكر جدا.

حياة يومية

لم يقتصر التحليل على الكشف عن الأصول الجينية لهذا الفرد، بل امتد ليشمل تفاصيل عن حياته اليومية ومهنته. فقد أظهرت العلامات على هيكله العظمي أنه قضى حياته في العمل الشاق، مع وجود علامات عضلية تدل على الجلوس لفترات طويلة بأطراف ممدودة، والتهاب مفاصل حاد في القدم اليمنى والفقرات العنقية، مما يشير إلى أنه ربما كان يعمل خزافا أو في مهنة تتطلب حركات مماثلة.

متحف جارستانج للآثار جامعة ليفربول
تابوت فخاري وبقايا أثرية لفرد النويرات، كما اكتشفت عام 1902.

وقد كشفت الإشارات الكيميائية في أسنانه المتعلقة بالنظام الغذائي والبيئة، أنه نشأ على الأرجح في وادي النيل في مناخ حار وجاف، واستهلك نظاما غذائيا متعددا يعتمد على البروتين الحيواني الأرضي والنباتات مثل القمح والشعير، وهو نمط غذائي نموذجي للمصريين حتى الفترة القبطية.

يؤكد هذا البحث الرائد الإمكانات الهائلة لعلم الجينوم القديم في إعادة بناء تاريخ البشرية وتفاعلاتها

توفى هذا الفرد في فترة تتداخل بين العصرين المصري القديم، عصر الأسرات المبكرة والدولة القديمة، وقد قُدر عمره بين 44 و64 عاما، في سن متقدمة لتلك الفترة، كما يتضح من أسنانه البالية بشدة وعلامات التهاب المفاصل، كما دُفن في وعاء خزفي كبير داخل مقبرة منحوتة في تلة صخرية، وهذا النمط من الدفن كان يُخصص عادة للأفراد ذوي المكانة الاجتماعية الرفيعة. ومن المثير للاهتمام أن دفنه تم قبل أن يصبح التحنيط الاصطناعي ممارسة معيارية، وهو ما قد يكون ساعد في الحفاظ على حمضه النووي.

وعلى الرغم من أن هذه العلامات تشير بقوة إلى مهنة تتعلق بصناعة الفخار، التي وصلت إلى مصر في الفترة نفسها تقريبا، إلا أن دفنه الفاخر وغير المتوقع لمهنة كهذه يثير تساؤلات حول وضعه الاجتماعي. فقد علّق البروفسور جويل أيريش، أستاذ الأنثروبولوجيا وعلم الآثار في جامعة ليفربول جون مورس والمؤلف الثاني للدراسة، قائلا: "قد تكون مهاراته الاستثنائية أو نجاحه قد أدت إلى رفع مكانته الاجتماعية".

ويؤكد هذا البحث الرائد الإمكانات الهائلة لعلم الجينوم القديم في إعادة بناء تاريخ البشرية وتفاعلاتها. وتعرب أديلين موريز جاكوبس، زميلة البحث الزائرة والباحثة الرئيسة، عن أملها في أن تساهم عينات الحمض النووي المستقبلية من مصر القديمة في تحديد متى بدأت هذه الحركة السكانية من غرب آسيا بالضبط. كما يطمح فريق البحث، بالتعاون مع باحثين مصريين، إلى رسم صورة أكبر للهجرة والأصول الجينية في مصر في المستقبل. هذا الاكتشاف ليس مجرد إنجاز علمي، بل هو شهادة لقدرة البشرية على فهم ماضيها واستخلاص العبر منه، وخطوة أخرى في رحلتنا اللانهائية نحو فك شيفرة أسرار الوجود.

دلائل أثرية

قدمت الاكتشافات الأثرية على مر السنين أدلة قوية على الروابط التاريخية العميقة بين مصر القديمة ومنطقة الهلال الخصيب، التي سبقت حتى اكتشافات الحمض النووي الأخيرة.

فمنذ الألفية السادسة قبل الميلاد، ومع حزمة التطورات في العصر الحجري الحديث التي جلبت معها الحيوانات والنباتات المستأنسة، بدأت تتضح معالم التبادل الثقافي والتجاري عبر هذه المنطقة الشاسعة.

استمر هذا التبادل في التطور خلال الألفية الرابعة قبل الميلاد مع تزايد نفوذ الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، وهو ما تزامن مع ظهور ابتكارات مهمة في مصر، مثل عجلة الفخار، وأقدم الأدلة على الكتابة الهيروغليفية على شكل بطاقات عاجية في مقبرة U-j في أبيدوس التي يعود تاريخها إلى 3320-3150 قبل الميلاد.

هذه الشواهد، مجتمعة مع الأبحاث البيولوجية الأثرية وتحليلات الأسنان، تشير بقوة إلى أن التفاعلات بين مصر والهلال الخصيب كانت أكثر عمقا وتنوعا مما كان يعتقد في السابق، متجاوزة مجرد تبادل السلع لتشمل حركة الأفكار والتقنيات وحتى الأشخاص.

بالتأكيد! لم تقتصر الروابط التاريخية بين مصر القديمة وبلاد الرافدين، على التجارة وتبادل الثقافات فحسب، بل امتدت لتشمل انتقال ابتكارات وتقنيات غيرت وجه الحياة المصرية القديمة. كانت مصر، بحكم قربها الجغرافي، من أوائل المناطق التي تبنت "حزمة العصر الحجري الحديث"، وهي مجموعة من الابتكارات الأساسية التي نشأت في غرب آسيا في الألفية السادسة قبل الميلاد أو حتى قبل ذلك.

رجل النويرات، الذي عاش ومات قبل آلاف السنين في قلب مصر القديمة، لم يكن مجرد فرد معزول في صعيد بعيد، بل جسدٌ يحمل داخله خيوطا ممتدة من شمال أفريقيا إلى بلاد الرافدين

وقد تضمنت هذه "الحزمة" تقنيات حيوية مثل استئناس الحيوانات والنباتات، مما أحدث ثورة في الزراعة المصرية وساهم في استقرار المجتمعات ونموها. لم يكن هذا مجرد تبادل للسلع، بل كان انتقالا للمعرفة والخبرات التي شكلت أساس الحضارة المصرية اللاحقة.

نيتشر
الموقع الجغرافي لمقبرة النويرات (النقطة الحمراء)، والأفراد الذين تم تسلسل جينومهم مسبقًا من فترة الانتقال الثالثة من أبوصير الملق (المعين الأرجواني).

وجود نسبة 20% من الحمض النووي لفرد مصري عاش قبل نحو 4500 إلى 4800 عام، وتحديدا بين 2855 و2570 قبل الميلاد، تعود أصولها إلى منطقة الهلال الخصيب الشرقي، بما في ذلك بلاد الرافدين والمناطق المحيطة بها، يمثل اكتشافا جينيا ذا دلالات عميقة تتجاوز مجرد الأرقام.

فالنسبة ليست مجرد إحصائية، بل هي دليل مباشر وقاطع على أن الاتصالات بين مصر وهذه المناطق لم تكن مقتصرة على تبادل السلع الثقافية، مثل أنظمة الكتابة والفخار والحيوانات والنباتات المستأنسة، كما كانت تشير الأدلة الأثرية وحدها في السابق، بل امتدت لتشمل حركة بشرية فعلية وتمازجا سكانيا بين المجموعات المختلفة.

وهذا يعني أن أفرادا من الهلال الخصيب هاجروا إلى مصر وتزاوجوا مع السكان المحليين، مما أثر في التركيب الجيني للمصريين في تلك الفترة المبكرة من تاريخهم.

ويعزز هذا الاكتشاف الفهم بأن الحضارات القديمة لم تكن كيانات معزولة، بل كانت شبكات متصلة تتفاعل وتتبادل ليس فقط المعرفة والتقنيات، بل وأيضا الجينات، مما يضيف طبقة جديدة من التعقيد والثراء إلى تاريخ مصر القديمة ويسلط الضوء على ديناميكيات الهجرة والتكيف البشري عبر العصور.

لكن، رغم أهمية هذه النتيجة، فإنها تعتمد على جينوم واحد فقط، مما يحتم إجراء المزيد من الدراسات على عينات من فترات ومناطق مختلفة داخل مصر، خاصة في العصر الحجري الحديث وبدايات الدولة الفرعونية.

مع ذلك، فإن هذه الدراسة تمثل نقلة نوعية في مجال علم الجينومات القديمة في مصر، وتفتح الباب لفهم أعمق للحركة السكانية، ليس فقط عبر الحدود، بل عبر العصور أيضا.

تكشف هذه الدراسة، بما تحمله من دقة علمية وعمق تاريخي، عن حقيقة بديهية كثيرًا ما تُنسى؛ فالهوية البشرية لم تكن يومًا نقية أو جامدة، بل كانت دائمًا نسيجًا متحركًا من التفاعل، والهجرة، والانصهار.

فرجل النويرات، الذي عاش ومات قبل آلاف السنين في قلب مصر القديمة، لم يكن مجرد فرد معزول في صعيد بعيد، بل جسدٌ يحمل داخله خيوطًا ممتدة من شمال أفريقيا إلى بلاد الرافدين؛ وكأنه في صمته العتيق يروي قصة أوسع من ذاته قصة الشرق القديم، وقصة الإنسان في بحثه الدائم عن الماء، والخبز، والمعنى.

إن ما تقدمه هذه الدراسة لا يقتصر على إثراء معرفتنا بأصول المصريين الأوائل، بل يوسّع من رؤيتنا لطبيعة الحضارة نفسها التي لا تنشأ فقط من الإبداع المحلي، بل من اللقاء؛ لقاء الأشخاص قبل الأفكار، والأجساد قبل الرموز.

فالعلم هنا لا يكتفي بالكشف عن نسب وراثي، بل يُضيء على لحظة إنسانية خفية؛ حين يعبر شخص من مشرق بعيد إلى وادي النيل، فيترك أثرًا صامتًا لا يُكتشف إلا بعد آلاف السنين، ويُخبرنا أن التاريخ الحقيقي لا يُكتب فقط في السجلات، بل يُحفر في العظام.

font change