كتالوغ النجوم الصيني... تاريخ الفلك بين التشكيك والتأكيد

لمن السبق؟

 ويكيبيديا
ويكيبيديا
خريطة نجمية لإسقاط القطب الجنوبي للكرة السماوية لسو سونغ

كتالوغ النجوم الصيني... تاريخ الفلك بين التشكيك والتأكيد

في بداية القرن السابع عشر، قدم عالم الفلك الإيطالي الشهير غاليليو غاليلي"، تقريرا يتضمن أول رسومات تفصيلية لسطح القمر، أظهرت له بعض الفوهات والوديان والجبال والسهول، التي تؤكد أن القمر يمتلك تضاريس مثل الأرض، مما فتح آفاقا واسعة حول بنية الأجرام السماوية المختلفة. ربما لم يكن غاليليو عالم الفلك الوحيد الذي استخدم التلسكوب لدراسة القمر جيدا، لكنه أول من نشر تقريرا مفصلا عنه في عام 1610، فذاع صيته في جميع أنحاء أوروبا، حتى إن هناك اعتقادا شائعا بأنه هو مبتكر التلسكوب.

لكن الحقيقة أن أول صانع للتلسكوب هو صانع نظارات هولندي موهوب يدعى هانس ليبرشي، قدم طلبا للحصول على براءة اختراع لابتكاره التلسكوب، فسمع غاليليو بذلك التلسكوب، فطور تصميمه بما يتناسب مع عمله في الرصد الفلكي. وتوالت عمليات تطوير التلسكوب إلى أن استطاع البشر من خلاله رصد أبعد المجرات والنجوم والأجرام السماوية المذهلة.

تبع غاليليو العديد من العلماء المؤثرين في العلوم، نذكر منهم نيوتن، روبرت هوك، داروين وغيرهم. وجميعهم أضافوا الى العلوم وطوروها. وزعم المجتمع الأوروبي في أثناء القرن التاسع عشر بالاكتشافات والابتكارات غير المسبوقة للغرب في العلوم، مستندينالى التاريخ العلمي، الأمر الذي أشعل التنافس بين الشرق والغرب في دراسة تاريخ العلوم لمعرفة "من صاحب حق التباهي؟".

ولأن علم الفلك من أقدم العلوم وأهمها، اهتمت به كوكبة من أنبغ العلماء على مر التاريخ. يسعى كثيرون لمعرفة من وضع أساسياته ومنهجياته، فعلماء مثل غاليليو استطاعوا بالفعل تقديم أوراق ملموسة وصلت الى عصرنا الحالي، معتمدين على المنهجية العلمية في التحليل والقياس في حدود الأدوات المتاحة لهم وقتئذ. لكن ماذا حدث في الماضي؟ لمن السبق العلمي؟ حسنا، تلك قصتنا.

من وصف إلى قياس وتنبؤ

منذ فجر التاريخ، وحتى قبل التاريخ، كانت السماء محط اهتمام الإنسان، خاصة سماء الليل، وقد لاحظ البشر النجوم منذ قديم الزمان، ربما كان الأمر في البداية مجرد وصف لأشكال المجموعات النجمية الجذابة، ويتجلى ذلك في الرموز والرسومات التي تركها بشر عاشوا في الكهوف منذ آلاف السنين.

لا يوجد اختلاف على أن الحضارات الإنسانية القديمة قد ساهمت بصورة ملحوظة في تقدم العلوم، لكن يظل الصراع القائم بين الشرق الغرب على الأسبقية العلمية لمن؟

رويدا رويدا، جعلوا من السماء خريطة يهتدون بنجومها في أسفارهم. ثم تطور الأمر بحيث أجرى الفلكيون الشغوفون قياسات رياضية أكثر دقة. وعندما قامت الحضارات الإنسانية، مثل البابلية والمصرية القديمة، طوروا علم الفلك بناء على منهجيات وقياسات علمية واستخدموها في الزراعة وحساب مواقيت الفيضانات وإجراء حساباتهم المختلفة، وتركوا إرثا علميا تداولته الأجيال وصار مرجعا حتى يومنا هذا. وبذلك، تطور علم الفلك من إعجاب بالنجوم المتلألئة في خلفيتها سماء الليل القاحلة في مشهد جذاب يسر الناظرين، يبدعون في وصفه بالرسوم والكلمات، إلى علم واسع، يقوم على القياسات والمنهجية، تتسارع الحضارات لاستكشاف المزيد حوله.

ولا يوجد اختلاف على أن الحضارات الإنسانية القديمة قد ساهمت بصورة ملحوظة في تقدم العلوم، لكن يظل الصراع القائم بين الشرق الغرب على الأسبقية العلمية لمن؟ وقد أُثير بعض الجدل منذ القرن الماضي حول أقدم كتالوغ للنجوم، هل هو الكتالوغ الشرقي أم الغربي؟

نحو الغرب

حسنا. هذا يأخذنا إلى عصور ما قبل الميلاد، وقبل الأقمار الصناعية والأجهزة الحاسوبية وحتى قبل استخدام غاليليو للتلسكوب والأجهزة الأخرى التي كشفت عن مشاهد ما كانت لتتجلى لولا تقدم العلوم. لنقف عند القرن الثاني قبل الميلاد على سطح جزيرة رودس التابعة لبلاد الإغريق وقتها (اليونان اليوم)، يمكننا رؤية رجل يبدو أنه فلكي، يرصد مواقع النجوم بدقة في الليل القاحل، ويسجل ملاحظاته، ويبدو أيضا أنه مهتم بكل ما يخص السماء الجذابة: يحسب كسوف الشمس وخسوف القمر مستخدما القياسات الرياضية بما فيها علم المثلثات، فصار معروفا أنه من الرواد الذين استخدموا المنهجية العلمية في رصد وتجميع مواقع النجوم ورتبها بحسب درجة سطوعها، وجمعها في كتالوع للنجوم، وصار مرجعا اليوم.

ويكيبيديا
غاليليو غاليلي

ذلك العالم الفلكي هو هيبارخوس، الذي قدم كتالوغا نجميا يضم 850 نجما مرتبة حسب درجة سطوعها، ويتباهى الغرب بذلك الكتالوغ حتى يومنا هذا، معتبرا إياه أقدم كتالوغ نجمي في التاريخ البشري. وتكريما للدور البارز لـهيبارخوس، فقد أُطلق اسمه على فوهة هيبارخوس القمرية، كذلك فوهة هيبارخوس المريخية، بالإضافة إلى كويكب 4000 هيبارخوس.

يجدر بالذكر أنه عُثر بالفعل على مخطوطة من كتالوغ النجوم لـهيبارخوس في دير سانت كاترين في شبه جزيرة سيناء، بمصر، ودرستها مجموعة بحثية أوروبية، واستخدمت تقنية التصوير المتعدد الأطياف، التي كشفت عن إحداثيات للنجوم في عام 129 قبل الميلاد. وقتها كان هيبارخوس عالما مخضرما في ذروة إنجازاته الفلكية يحلل السماء بخبرة وتمكن. نشر الباحثون دراستهم في "جورنال فور ذا هيستوري أوف أسترونومي"  في أكتوبر/تشرين الأول 2022. من المثير للاهتمام أيضا أنه في عام 2017، وُجدت مخطوطة في مكتبة سانت كاترين يعود تاريخها إلى القرن السادس الميلادي، تضم وصفات طبية للطبيب اليوناني أبقراط.

تقول الأسطورة الصينية القديمة إنه في زمان ما، كان هناك شخص يعيش على الأرض كأي إنسان، لكنه كان يجسد الحكمة والفضيلة والحكمة، وفي نهاية المطاف تحول جسده إلى يشم (Jade)، ومن هنا جاء اسمه جايد، الذي صعد إلى السماء ونال الخلود.

من بعد هيبارخوس، جاء بطليموس، الذي اعتمد على كتالوغ الأول في إعداد الكتالوغ الخاص به، وأجرى بعض التعديلات عليه، ثم أضاف إحداثيات جديدة لبعض النجوم ويزيد عددها على 1000 نجم، وقد اعتمد العلماء والفلكيون على كتالوغ بطليموس في القرون الوسطى. ويعود تاريخ كتالوغ النجوم البطلمي إلى القرن الثاني الميلادي، ويُعد هو الكتالوغ الأكثر دقة وموثوقية.

إلى الشرق

من بلاد الإغريق في الغرب، نحلق نحو شرق آسيا، في بلاد الصين، التي اشتُهرت بحضارتها العريقة، ولا تزال مصدر إلهام حتى اليوم، لتقدمها في العلوم كافة. نحو زمان بعيد، أبعد من الزمن الذي عاش فيه هيبارخوس. عاش الشعب الصيني تحت هيمنة أسطورة ولا يزالون يؤمنون بها.

تقول الأسطورة الصينية القديمة إنه في زمان ما، كان هناك شخص يعيش على الأرض كأي إنسان، لكنه كان يجسد الحكمة والفضيلة والحكمة، وفي نهاية المطاف تحول جسده إلى يشم (Jade)، ومن هنا جاء اسمه جايد، الذي صعد إلى السماء ونال الخلود. لكنه وجد العالم السماوي في حالة فوضى، فلم يكن هناك نظام يدير شؤون الآلهة أو البشر، فقرر الإمبراطور جايد أن يعيد تنظيم السماء والأرض، وشرع في تأسيس البيروقراطية السماوية تماما مثل حكومات الإمبراطوريات الأرضية. إضافة إلى ذلك، وضع نظاما قضائيا سماويا يحاسب الناس فيه على أفعالهم، لتحديد مصيرهم بعد الموت، مما يحفظ التوازن والنظام في السماوات والأرض.

وكان الأباطرة وحكام الصين في حقبة قبل الميلاد يهتمون بعلم الفلك، باحثين عن البشائر السماوية والأمور الأرضية، مسترشدين بالنجوم في حكمهم، معتقدين أن ذلك يساعدهم في الحفاظ على تناغم الكون. وفي القرن الرابع قبل الميلاد، عاش عالم فلك صيني يُدعى شي شين في بلاط إحدى الممالك خلال فترة الممالك المتحاربة التي امتدت بين 475–221 قبل الميلاد. وخلال تلك الفترة ألف كتالوغا للنجوم من 120 نجما. مرة أخرى في عصر أسرة تانغ (امتدت من القرن السابع إلى العاشر الميلادي)، تم النظر مرة أخرى في كتالوغ شي للنجوم وتحديثه، وصار مرجعا للعلماء المعاصرين. ويحظى الفلكي الصيني الأسطوري شي شين اليوم بتقدير خاص. فعلى الجانب البعيد من القمر، تقع فوهة "شي شين"، التي منحها "الاتحاد الفلكي الدولي" (IAU) هذا الاسم في سبعينات القرن الماضي، نسبة إليه.

لمن حقوق التباهي في إنشاء أول كتالوغ نجمي: للشرق أم الغرب؟

تلك هي القصة الشائعة، لكن هناك الكثير من الجدل حول تاريخ وضع كتالوغ شي للنجوم المؤلف من 120 إحداثية. وسعى العلماء خلال القرن الماضي تحديدا للوصول إلى حقيقة هذا الأمر، فإذا كانت القصة دقيقة زمنيا، فهذا يعني أن الإدعاءات الغربية بأن الأسبقية العلمية في وضع كتالوغ للنجوم تعود إليهم، ستصبح غير صحيحة، وتذهب حقوق التباهي الى الشرق.

وهناك 4 احتمالات في شأن عصر رصد كتالوغ شي للنجوم، الأولى أن يكون الرصد خلال القرن الرابع قبل الميلاد، نحو العام 360 قبل الميلاد في فترة الممالك المتحاربة، والثانية أن الرصد تم على فترتين، إحداهما في القرن الخامس قبل الميلاد والأخرى في القرن الثاني الميلادي، والثالثة أن يكون الرصد في القرن الأول قبل الميلاد بين 100 إلى 70 قبل الميلاد وهي الفترة التي تحظى بدعم علمي لاستخدامها منهجيات حديثة مثل الأساليب الإحصائية وتحليل فورييه الذي يساعد في دراسة منحنيات الضوء وتحديد تغيرات السطوع واستنتاج توقيت الرصد الأصلي، والرابعة أن يكون الرصد في القرن السابع الميلادي حيث يقترح بعض الباحثين أن الكتالوغ قد تم تحديثه في أوائل عهد أسرة تانغ، لكن هذا التحليل لا يزال غير دقيق.

Getty Images
مرصد الإسكندرية في عهد هيبارخوس النيقاوي.

لكن، أي تلك الاحتمالات هو الأرجح؟ هذا ما يدرسه باحثان من المراصد الفلكية الوطنية الصينية (NAO). فقد استخدما خوارزمية حسابية تعتمد على ما يسمى بـ"تحويل هاف" (Hough transform)، وهي تقنية تستخدم في تحليل الصور واكتشاف الدوائر والخطوط والقطع الناقصة. والهدف منها معالجة الصور. وتعتمد خوارزميات تلك التقنية على إحداثيات النجوم التاريخية، وتستبعد البيانات المشتبه في تلفها بسبب أخطاء النسخ عند تناقلها عبر آلاف السنين. ويقدرون تاريخ الرصد أو أقرب تقدير له.

خلص الباحثون إلى أن بعض قياسات النجوم في كتالوغ شي قد حُدِّثت في نحو العام 125 ميلاديا، لكن النصف الآخر من إحداثيات النجوم يعود تاريخه إلى نحو عام 355 قبل الميلاد، أي في الفترة التي يُفترض أن شي قد عاش فيها. ونُشرت نتائج الباحثين أونلاين في دورية "ريسرش إن أسترونومي آند أستروفيزكس" في أبريل/نيسان 2025.

لمن السبق؟

مع ذلك، برزت حالة من الجدل بين مؤرخي العلوم الذين شككوا في نتائج الدراسة. يرجع هذا إلى أن كتالوغ شي قد تناقلته أيادٍ عديدة على مدى آلاف السنين.

وبصفة عامة، هناك تحديات عديدة في تحديد أسبقية وضع كتالوغ للنجوم أو في مواقع وإحداثيات الأجرام السماوية. يرجع ذلك إلى المبادرة المحورية، وتمر دورة منها مرة كل 26 ألف سنة على الأرض، بمعدل 1 درجة كل 72 عاما، وخلال تلك الفترة، تتغير مواقع النجوم ببطء. وهذا يعني تغيرا في إحداثيات ومواقع الأجرام السماوية بالنسبة الى الأرض. لذلك تصبح الإحداثيات داخل أي كتالوغ نجمي أقل دقة تدريجيا. وهنا يبرز التحدي الأكبر في تحديد الأسبقية.

يشار إلى أن شي شين قد استخدم إحداثيات كروية لتحديد مواقع النجوم، تماما كما يتم تحديد خطوط العرض والطول نقاطا على سطح الأرض. وتلك الإحداثيات قديمة ولا تتناسب مع الوقت الحالي، مما يضع علامات الاستفهام والغموض حول دقة الرصد وتاريخه. من زاوية أخرى، تشير الروايات التاريخية إلى أنه خلال القرن الأول قبل الميلاد، اخترع علماء الفلك الصينيون ما يُعرف بـ"الكرة المسننة"، وهي عبارة عن جهاز يشبه الكرة الأرضية، ويُستخدم في إجراء القياسات السماوية. وفي الوقت نفسه، يقال إن المعلم شي قد اعتمد على إحداثيات كروية لتحديد مواقع النجوم، وهنا نذكر أن قياساته كانت -بحسب الدراسة- في نحو العام 355 قبل الميلاد، أي قبل ابتكار الكرة المسننة بنحو 250 عاما. لكن المؤرخين لا يستبعدون في الوقت نفسه أن الإحداثيات الكروية قد كانت في مراحلها الأولى عبر العصر الذي عاش فيه المعلم شي.

وهنا يبرز السؤال الأهم، لمن حقوق التباهي في إنشاء أول كتالوغ نجمي: للشرق أم الغرب؟ حسنا، الإجابة باختصار لا نعرف. لا يزال العلم يكشف النقاب عن خباياه يوما بعد يوم. مع ذلك، يرى مؤرخو العلوم أن كتالوغي هيبارخوس وشي يعتبران حديثي الولادة مقارنة بالسجلات البابلية القديمة التي تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد على أقل تقدير. ومن يدري؟ ربما يظهر كتالوغ مخفي في مكان ما قريبا. 

font change