المرأة والكتاب

المرأة والكتاب

استمع إلى المقال دقيقة

لطالما شُيدت سرديات التاريخ الثقافي العربي على أعمدة ذكورية صلبة، تحكمها منظومات القيم الأبوية والاحتكار المعرفي الذكوري، فجاءت صورة المرأة كائنا على الهامش، ملهمة أحيانا، ومُلْتزمة بالصمت في أحيانٍ أكثر. غير أن نظرة سوسيولوجية معمقة إلى التراث الشفهي، ولاحقا المكتوب، تكشف أن المرأة لم تكن يوما غائبة عن فضاء التعبير، بل كانت مُغَيبة، تُقصى نصوصها ويُعاد تأويل حضورها ليتماشى مع أنساق الهيمنة السائدة.

يبرز في هذا السياق فعل الكتابة، لا كوسيلة سردية أو تعبيرية فحسب، بل كفعل رمزي تعيد المرأة من خلاله تشكيل علاقتها بالذات والآخر والمجتمع. فالقلم، كما تقرأه منظرات النسوية المعاصرة ومن بينهن الفرنسية هيلين سيكسوس، ليس أداة بريئة للكتابة، بل رمز للسلطة، يُستخدم في ترسيخ البنى المعرفية المسيطرة، أو في زعزعتها وإعادة توزيعها.

من هذا المنطلق، تتحول الكتابة النسائية إلى ممارسة ثقافية، تتحدى اختزال المرأة في صور نمطية، وتنقض صمت القرون. ولعل أبرز ما يُجسد هذا البعد، هو الشعر البدوي الشعبي، الذي احتضن بوحا أنثويا مبكرا، على نحو ما نجد في صوت الشاعرة مويضي البرازية، التي صاغت، بكلمات بسيطة ومباشرة، رفضا مستترا للهيمَنة الذكورية:

ما هوب خافيني رجال الشجاعة

ودي بهم مير المناعير صلفين

في هذا البيت، ترى الشاعرة أن الشجاعة حين تقترن بالصلف تصبح خصما لها في القرار والمكانة. إنها تطلب "مندسا" لا يُنافسها في السلطة داخل البيت، إنما يشاركها الحياة الاجتماعية، في إعادة واضحة لتموضع العلاقات الجندرية.

ومع أن هذه الأصوات بقيت في الظل، فإنها شكلت إرثا رمزيا يعبد الطريق أمام الكاتبة المعاصرة لتخوض معركتها الثقافية بوعي أعمق وأدوات أشمل. المرأة السعودية، على وجه الخصوص، حين تقف اليوم في معرض الرياض الدولي للكتاب لتوقيع روايتها أو ديوانها أو إصدارها الفكري، فإنها لا تقدم مجرد نص، بل تُعلن عن استعادة للقلم بوصفه أداة هوية وفاعلية وتمكين.

يبلغ هذا التحول بعده الرمزي الأقصى حين قُرر رسميا أن يُقام المعرض داخل حرم جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن... إنه تكريم رمزي يعكس مكانة المرأة السعودية في قلب الثقافة الوطنية

ويبلغ هذا التحول بعده الرمزي الأقصى حين قُرر رسميا أن يُقام المعرض داخل حرم جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، الجامعة النسائية الأولى في السعودية. هذا التحول المكاني ليس تفصيلا إداريا، بل دلالة ثقافية مركبة، إذ يُعاد إنتاج المعنى الكامل لحضور المرأة في المشهد الثقافي. إنه تكريم رمزي يعكس مكانة المرأة السعودية في قلب الثقافة الوطنية، الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، التي كانت رمزا للشجاعة والتمسك بالقيم في أصعب الظروف، كانت مصدر فخر واعتزاز الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي كان يُسمي نفسه "أخو نورة" تقديرا لدورها الاستثنائي ومواقفها الجريئة. تلك العلاقة بين الملك عبد الله وأخته تُجسد العمق التاريخي والإنساني الذي لطالما ميز مكانة المرأة السعودية في عيون قيادتها. وأن تقام فعالية كبرى، ذات حضور محلي ودولي، في فضاء نسائي بحت، يعني أن المرأة السعودية اليوم لا تقف على هامش الحراك الثقافي، بل تتوسطه، وتصنعه، وتحتفي به من داخل مؤسساتها.
هذا الانتقال إلى الفضاء النسائي بوصفه مركزا لا محيطا، يُجسد حقيقة سوسيولوجية عميقة وهي أن الوطن لا يفسح المجال للمرأة فحسب، بل يتبنى تمكينها ويعترف بها قوة ثقافية أصيلة، ليست بحاجة إلى إثبات ذاتها من خلال الصدام أو الانفصال عن الرجل، بل عبر الشراكة في بناء الوعي الوطني الحديث.

هذا الحضور، وإن بدا طبيعيا في الظاهر، فهو في الحقيقة ذروة مسار طويل، انتقل من الشفهي إلى المكتوب، ومن الفردية إلى التمكين المؤسسي. ولم يأتِ ذلك بمعزل عن تحولات سوسيولوجية كبرى، أبرزها رؤية 2030 التي وفرت للمرأة فضاءات جديدة للمشاركة الفعالة، دون أن تُفرض عليها قطيعة مع جذورها الثقافية أو هويتها الأنثوية.

ولعل هذا التوازن هو ما يميز التجربة السعودية عن مثيلاتها الغربية في بعض تجلياتها المتطرفة. ففي مؤتمر شاركت فيه مؤخرا في المملكة المتحدة، حول الجندر والمساواة الرقمية، طغى الطابع الأيديولوجي على كثير من البحوث التي استعرضت تجارب النساء في فضاءات الإنترنت، أو تحديات الخطاب الرقمي. وعلى الرغم من القيمة العلمية لتلك الأبحاث، فإنها كشفت عن حالة انفصال عن الواقع الاجتماعي، حيث اختزلت المرأة أحيانا في ضحية مستمرة، أو صُور الرجل كخصم بنيوي لا كشريك وجودي.
في المقابل، لم تتبن الكاتبة السعودية خطابا صداميا، بل اختارت أن تكتب من موقع الشراكة والفاعلية، مدركة أن التمكين لا يعني محو الآخر، بل الحضور إلى جانبه بندية واستحقاق. وهي في ذلك تُجسد نموذجا لكتابة نسوية متصالحة مع ذاتها وتاريخها، لا تستعير مفاهيمها من الخارج، بل تنطلق من خصوصيتها الاجتماعية والثقافية لتُعيد تعريف العلاقة بين القلم والسلطة والأنوثة.

تحول لا ينفصل عن حركة تحديث شاملة تعترف بأن الإبداع لا جنس له، وأن هوية الأمة لا تكتمل إلا بكل أصواتها

هذه الكتابة، كما ترى سيكسوس، ليست محايدة أو "بريئة"، بل تنطوي على رغبة خفية في زعزعة موازين القوة، وتقديم سردية بديلة للواقع. فالكتابة النسوية لا تسعى فقط إلى الحضور، بل إلى إعادة تشكيل اللغة ذاتها لتصبح قادرة على احتواء التجربة الأنثوية في تعقيدها وتناقضاتها. وهو ما تفعله الكاتبة السعودية المعاصرة، التي لم تعد تنتظر أن يُكتب عنها، بل تُمسك القلم لتكتب ذاتها وتُعيد سرد تاريخها، لا من موقع الاستجداء، بل من موقع الفاعل.
إننا، إذن، أمام تحول جذري في المشهد الثقافي السعودي، حيث لم يعد الحديث عن المرأة والكتابة مسألة تخص النخبة، بل تحولت إلى مؤشر سوسيولوجي عميق على إعادة تشكيل بنية المجتمع نفسه. فالمرأة التي كانت تُهمش في كتب التراث، أصبحت اليوم تُدرس في الجامعات، وتُترجم أعمالها، وتُستضاف في الندوات، وتُمنح الجوائز. وهو تحول لا ينفصل عن حركة تحديث شاملة تعترف بأن الإبداع لا جنس له، وأن هوية الأمة لا تكتمل إلا بكل أصواتها.
والكاتبة السعودية اليوم، وهي تسطر صفحاتها، لا تُجدد فقط فعل الكتابة، بل تعيد تأثيث الفضاء الرمزي للمجتمع، لتقول: إننا هنا، لا على الهامش، بل في صلب المتن، نكتب ونعيد تعريف الحكاية برمتها، ونقف مع الرجل في خط مستقيم، لا كضلع أعوج.

font change

مقالات ذات صلة