لا أعلم لماذا سميت صحراء "الربع الخالي" بهذا الاسم، في حين أنه من قلب هذه الصحراء وأخواتها، حيث تمتد الرمال بلا نهاية، أنجبت هذه البطون الناعمة إحدى أرقى القيم الإنسانية التي عرفها العرب: الكرم. قيمة لم تُصنع بالثراء فقط، بل بالخبرة اليومية في مواجهة الجوع والمجهول، وبالوعي الجماعي للعيش المشترك. هنا، في مجتمع البداوة، حيث كان البحث عن الطعام جزءا من صراع البقاء، لم يعد الكرم مجرد فضيلة فردية، بل أصبح صيرورة ثقافية تحمل بصمة تاريخية واجتماعية للرجل البدوي أو المرأة البدوية، فهل هي صحراء فارغة، أم صحراء تلد وتنجب؟
البدوي، وفق هذا السياق، لم يكن مجرد مسافر في الصحراء، بل صانع مجتمع. والبدو منتشرون في أنحاء متفرقة من دول الخليج والعالم العربي، ففي كل مشاركة للطعام، وفي كل استقبال للضيف، يتجلى وعي جماعي بأن البقاء ليس للفرد وحده، بل للجماعة التي تتشارك الرزق والمصير. من هنا يمكن فهم شعار هذا العام في المملكة العربية السعودية "عزنا بطبعنا". الشعار لا يكتفي بالثناء للفرد، بل يؤكد أن عز الإنسان السعودي متجذر في الجماعة، وأن القيم التقليدية مثل الكرم والضيافة ليست مجرد رفاهية اجتماعية، بل أدوات فعالة لبناء الثقة والتلاحم الاجتماعي.
دراسات سوسيولوجية و"عبر–ثقافية" حديثة، عبرت عن المجتمع السعودي بكل عفوية. استطلاع شفهي أجراه المركز الوطني لاستطلاع الرأي العام (رأي) شمل مختلف مناطق المملكة، كشف نتيجته المشرف العام على المركز الدكتور المفكر والباحث الاجتماعي عبدالسلام الوايل في حديث تلفزيوني معه، الواقع الذي أظهرته الأرقام والإحصاءات: في سؤال مباشر لعموم المجتمع السعودي من مواطنين ومقيمين ما هي القيمة التي تميز المجتمع السعودي، هناك إجماع واسع تجاوز النصف على أن الكرم والضيافة لا يزالان جزءا أصيلا من الهوية السعودية. المجتمع السعودي، بمختلف مناطقه، يقدّر مجتمع الفزعة، أي الاستعداد الدائم لمساندة الآخرين، سواء في الأوقات العادية أو في الأزمات.
الفزعة ليست مجرد مظهر اجتماعي، بل تعبير عن شبكة دعم اجتماعي متجذرة في الوعي الجماعي، يعكس فلسفة البداوة التي تحوّلت إلى منظومة قيمية تحكم التعاملات اليومية.
لكن الكرم في سياقه البيدوي ليس مجرد شعور أو عادة، بل هو فلسفة. الفيلسوف الفرنسي ميشيل سيرو يرى أن كل قيمة أخلاقية تصبح فعّالة عندما تتحول إلى ممارسة اجتماعية متكررة، بحيث تصبح جزءا من الهوية الجماعية. هنا، يتحقق الكرم السعودي ليس عبر القول فقط، بل عبر الفعل: مشاركة الطعام، استقبال الضيوف، تقديم المساعدة، ودعم الآخرين في الأوقات الحرجة. الكرم يصبح إذن مرآة للفعل الاجتماعي المستمر، ومقياسا لسلامة التفاعلات بين الفرد والجماعة عبر المراحل التاريخية، إذ تصافح ثقافة الصحراء، السعودية اليوم، وانفتاحها وازدهارها ورؤيتها البعيدة لتعيد تعريف السعودية الجديدة.
الفزعة ليست مجرد مظهر اجتماعي، بل تعبير عن شبكة دعم اجتماعي متجذرة في الوعي الجماعي، يعكس فلسفة البداوة
ومع ذلك، هناك تحديات مستمرة. بعض الأصوات الحديثة ترى في هذه القيم "تعقيدا" أو حتى "إذلالا" للفرد، معتبرين أن التشارك المستمر والتوقعات الاجتماعية للكرم قد تحد من الحرية الفردية أو تعيد إنتاج نوع من الالتزام الثقافي اللاواعي. لكن هذا النقد ينسى البعد التاريخي العميق للكرم في المجتمعات البدوية، عندما كانت الموارد محدودة والجوع حاضرا، أصبح التشارك ليس مجرد اختيار أخلاقي، بل ضرورة للبقاء. وهنا يكمن الفرق بين ما يعتبره البعض "مظهرا اجتماعيا" وما هو في الواقع قيمة متجذرة في البنية الاجتماعية، الكرم لم يُفرض على الفرد، بل نشأ من الحاجة الجماعية، ومن إدراك أن الفرد لا ينجو وحده في بيئة صعبة.
بالنسبة للمجتمع السعودي اليوم، فإن الكرم لا يزال يحمل هذه الأبعاد، لكنه صار يمتد إلى سياقات حضرية أكثر تعقيدا، ليس فقط في استقبال الضيوف أو تقديم الطعام، بل في أشكال الدعم الاجتماعي الحديثة، والمبادرات التطوعية، والجمعيات الخيرية، والمبادرات السعودية لمساعدة الأشقاء والجيران، ومبادرات المجتمع المدني، هذه الأبعاد الحديثة توضح كيف أن الكرم، في جوهره، قيمة قابلة للتكيف مع السياقات الاجتماعية المختلفة، محافظة على هويتها الأساسية بينما تتغير أدوات ممارستها.
فالكرم يعكس قدرة الفرد على تجاوز حدوده الذاتية والانخراط في فضاء جماعي أوسع، حيث تصبح العلاقة بين الفرد والجماعة علاقة متبادلة ومعقدة. المجتمع البعيد عن هذا النمط يعاني من فقدان التوازن بين الفرد والجماعة، بينما الكرم هنا يضمن شعورا بالانتماء، ويخلق شعورا بالأمان الاجتماعي والاعتراف المتبادل.
الكرم لا يقتصر على الطابع الاقتصادي أو المادي، لكنه يشمل بعدا رمزيا. فالكرم في المملكة يتجاوز مشاركة الطعام أو المال، ليصبح رسالة ثقافية تنقل احترام الآخر، وتعبر عن تقدير العلاقة الإنسانية، وتؤكد تماسك النسيج الاجتماعي وهذا يبدو جليا في مواقف السعودية والتزامها بقضية فلسطين، باليد والكلمة والمواقف السخية. وهنا يظهر الوجه المشرق للبداوة حين يُسقط البعض البعد الثقافي للكرم ويعتبرونه مجرد عادة بسيطة، يغفلون عن البنية الاجتماعية العميقة التي أنجبت هذه القيمة، وعن دورها في تعزيز التماسك الاجتماعي والهوية الجماعية.
حين يُسقط البعض البعد الثقافي للكرم ويعتبرونه مجرد عادة بسيطة، يغفلون البنية الاجتماعية العميقة التي أنجبت هذه القيمة
الكرم، إذن، استراتيجية حياتية ووسيلة لإنتاج المعنى الاجتماعي، إنه ليس مجرد شعار، بل هو ممارسة مستمرة تعكس "عزنا بطبعنا"، وتجسد الوجه المشرق للبداوة في سياق حضري معاصر، حيث يظل الفرد والجماعة مرتبطين، والقيم الاجتماعية حية وفاعلة في قلب الهوية الوطنية والعربية، متحدية أسلوب "فرق تسد"، تلك اللعبة التي أصبحت مكشوفة للجميع.