كان السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 حدثا صادما لإسرائيل، فمن ناحية ذاقت منه صفعة كبيرة أسقطت هيبتها، ومن ناحية أخرى أغرى الهجوم المباغت حركة "حماس" بتحرير فلسطين، معتمدة على الإسناد الذي كان يمكن أن تجده من إيران وأذرعها في المنطقة، وعلى رأسها "حزب الله".
ولكن لا الإسناد أتى، ولا تحرر شبر خارج حدود غزة، ولا "حزب الله" ظل منه أثر فاعل بعد تصفية قياداته. وكذلك إيران التي واجهت حربا مباشرة مفتوحة لأول مرة، بعد تمنعها لعقود عن خوضها، مع أنها كانت ترفع دوما شعار "الموت لأميركا والموت لإسرائيل"، وخسرت كبار قادتها.
فماذا كانت النتيجة غير دمار كل تلك الجبهة التي اصطفت باسم المقاومة لإسرائيل وأميركا؟ وفي المقابل، أعادت إسرائيل احتلال غزة لعامين، وأماتت مخرجات اتفاق أوسلو الذي سمح بتكوين سلطة للفلسطينيين. ومن بوابة أوسلو، تمكنت "حماس" في غزة، بل بات التفاوض بعد الحرب على عدم احتلال غزة، التي قُسمت في الاتفاق الأخير الذي عُدّ نصرا، لخرائط وحدود ملونه تتعلق بمُدد الانسحاب المشروط، الذي سيخلق ظرفية جديدة في غزة دون "حماس" كجهة حاكمة.
فما الانتصار الذي تحقق؟ من وجهة نظر الأيديولوجيا، أن "حماس" لم تركع لإسرائيل، وهذا صحيح، وأنها أفشلت خطط العدو بالقضاء عليها، وإخراجها من اللعبة، وبالنتيجة هذا الهدف فشلت في تحقيقه إسرائيل، ولم يحقق نتنياهو عدو السلام هدفه المعلن والذي تعنت لأجله. وهو إعلان هزيمة "حماس"، والعودة بالأسرى بيده ومن دون تفاوض، ليس من خلال الممر الأميركي الذي كرس فاعليته ووجوده كطريق لإنهاء الصراع. لكن، قبيل الحرب كانت "حماس" منفردة بغزة، وبالتالي لم تحتج لكل تلك الخسائر والدمار وفقد القيادات.
من داخل غزة يخبرني صديق بالقول: "النصر الذي تحقق، هو الصمود في الأرض وعدم الخروج، وعدم تكرار نزوح حربي 1948 و1967، رغم القتل والدمار والمجازر المروعة، وبإنجاب أجيال جديدة ترث القضية، وترث الأرض في ظلال الحرب الغاشمة". وبهذا التعريف احتفل أهل غزة، لأنهم لم يذعنوا لحملات العدو المتتالية، وأوامر ترحيلهم المتكررة من الشمال إلى الجنوب، بقصد إضعاف الروح المعنوية وجعلهم يتمردون على واقعهم، ويخلعون عباءة "حماس" من تعريفها كطرف قاد الحرب وتولى مسؤولية التفاوض نيابة عنهم في إنهائها. وبالتالي، كان البقاء هو النصر، وهو عنوان الفرح المستحق لمن رفض ترك أرضه وأراد أن يبقى ويموت ويدفن من فقدهم في أبشع حروب العصر.
في قاموس الحروب، لا يمكن لفئة مقاتلة أو فصيل أو جماعة أن تهزم جيوشا جرارة بمثل الحالة في غزة، لكن في قاموس البقاء والصمود، نعم استطاعت تجارب مماثلة في حركات التحرر ونضالات الشعوب أن تطغى على اليد التي تحمل الحجر، على اليد التي تضغط على الزناد أو تواجه عن بُعد بقنابل عنقودية وفراغية. ومع أن الخسائر البشرية كبيرة، فإن الخسائر عند إسرائيل المحصنة بالدعم الغربي والقبة الحديدية، كانت أكثر ألما وأثرا، وبالغة الصدمة.
استعاد أهل غزة بصمودهم سردية البقاء والمواجهة، في مكاسرة ما لا يخطر ببال أحد من صنوف التعذيب والدمار والتجويع والإبادة، وكان واضحا من البداية أن الدرس الفلسطيني مستوعبا لتاريخ النزوح والخروج، الذي عاشه الشعب الفلسطيني طيلة الحروب المتكررة مع إسرائيل.
وفي غزة، كان المختبر الفلسطيني يُقدم نتائج حاسمة بعنوان: الموت أو البقاء، والبقاء كفعل مقاوم رغم هول الفواجع وكُلفها. لكن هذه المرة سيكون التفكير بحكم غزة هو الأهم، وهو أمر كان اتفاق أوسلو قد حلّه، بيدَ أنه اليوم غامض وغير واضح.
العقل العربي لا يعترف بالهزائم، والنصر هنا في بقاء الناس وعدم خروجهم، ولو خرجوا لضاعت القضية الفلسطينية، واستسهلت إسرائيل الإمعان بممارسات ضمّ الضفة وإعادة احتلالها
صحيح أن إسرائيل ربحت أهدافا وضعتها في بنك الحرب، ووسعت مجال أمنها الحيوي، ليس في غزة وحدها، بل في لبنان وفي الجبهة السورية، لكنها خسرت تعاطف العالم الذي أبداه تجاهها في الأسابيع الأولى للحرب، بفعل رواية مضللة قدمتها إسرائيل للإعلام العالمي، الذي سرعان ما اكتشف التضليل. فاعتذرت كبرى الوكالات الإخبارية عن وقوعها في خطأ التضليل، ولاحقا عمت المظاهرات من قبل القوى الحية في العالم، الجامعات والشوارع والبرلمانات والمهرجانات، وتوالى الدعم الإنساني لأهل غزة، الذي انتهى إلى حملة اعتراف دولي بحق الفلسطينيين بدولتهم، وترافق معه وتبعته حملات مقاطعة من كبرى الشركات التي لم تؤيد الفلسطينيين في حربهم التي أطلقوها. بل عارضت سياسات إسرائيل القمعية ضدهم، وتحولت فيما بعد إلى مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وكان للدعم والإسناد العربي بقيادة المملكة العربية السعودية والأردن والإمارات وقطر ومصر، أثره الفاعل بدعم مسار الاعتراف الأممي بدولة فلسطينية.
إذن ما النصر والهزيمة؟ غالبا العقل العربي لا يعترف بالهزائم، والنصر هنا في بقاء الناس وعدم خروجهم، ولو خرجوا لضاعت القضية الفلسطينية، واستسهلت إسرائيل الإمعان بممارسات ضمّ الضفة وإعادة احتلالها. وهو هدف لم يتحقق لها، وقد وضع الراعي الأميركي تحذيراته القاسية في وجه نتنياهو في مسألة الضم، وكان للدور العربي كلمته في ذلك.
النصر في الموقف العربي الداعم للفلسطينيين أيضا، والذي اعتقدت إسرائيل أن العرب تحللوا منه، والذي ما مالت "حماس" له، بل خونته في بعض محطاته، وراحت تعول على إيران وأذرعها، ودعت الشعوب للانتفاضة على قيادتها والدخول في مواجهة مع إسرائيل. ولكنها في آخر المطاف، لم تجد إلا الإسناد العربي الذي عبّدَ لها طريق المفاوضات عبر طريق واشنطن، الذي لم يكن عنه غنى لِلَجم نتنياهو، وعبر الإسناد العربي أيضا جاء الدعم الإنساني والإغاثي.