اليمن السعيد يتجه صوب المجهول

اليمن السعيد يتجه صوب المجهول

[escenic_image id="55139154"]

بعد هجمة ديترويت الفاشلة عشية الكريسماس، لم تعد اليمن تتصدر عناوين الأخبار في العواصم الغربية، رغم أنها أفقر الدول العربية، التي ما زالت تشتعل بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية بالإضافة إلى التمرد المسلح. وعلى الرغم من أن أحداثا مثل الحرب في أفغانستان، والفيضانات في باكستان، وانسحاب القوات الأميركية المقاتلة من العراق، جذبت انتباه العالم، فقد كان اليمن خلال الصيف الحالي خاصة في شهري يونيو (حزيران)، ويوليو (تموز) مشتعلا ودمويا على نحو خاص.

فحتى الطبيعة تآمرت ضد أفقر الدول العربية حيث تعرضت اليمن لأمطار غزيرة وفيضانات أسفرت عن مقتل 53 شخصا وتدمير مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية.

إنه حقا صيف ساخن

انهارت الهدنة التي تم عقدها في شهر فبراير (شباط) في الشمال، بين المتمردين الحوثيين والقبائل المتمردة من جهة والقوات الحكومية من جهة أخرى واشتدت وطأة القتال في يوليو، مما أسفر عن مقتل 70 شخصا.

وقد استطاع الحوثيون الاستيلاء على مركزين عسكريين استراتيجيين بالإضافة إلى أسر 200 جندي وجرح أحد الزعماء القبليين المرموقين، والعضو في البرلمان اليمني، الموالي للحكومة. وهو ما مثل ضربة أخرى قاسية للسلطة ولمصداقية نظام الرئيس علي عبد الله صالح.

على الرغم من الحملة المكثفة التي شنتها السلطات اليمنية والجيش الأميركي لتفكيك تنظيم القاعدة اليمني المتمركز في شبه الجزيرة، شن تنظيم القاعدة في اليمن، بداية من يونيو، عدة هجمات استراتيجية على المنشآت الأمنية في الجنوب، مما أسفر عن مقتل أكثر من 50 شخصا وجرح كثير غيرهم. وفي استعراض لقدرتهم على شن عمليات جريئة وقوية، شن تنظيم القاعدة في اليمن هجمات على مقر المخابرات في عدن وأطلقوا سراح السجناء وقتلوا 11 شخصا بالإضافة إلى شن هجمات على مركزين للشرطة في زنجبار أسفرت عن مقتل ثلاثة ضباط.

وأصبح تنظيم القاعدة في موقع الهجوم. وفيما يمثل تغيرا في تكتيكاتها، أعلن تنظيم القاعدة عن حرب شاملة ضد ما أطلقوا عليه حكومة صالح «الطغيانية» وجنودها «الذين يرهبون المسلمين ويؤيدون الحروب الصليبية ضد بلادنا، وهم الصف الأول للدفاع الأميركي في اليمن». وفي رسالة صوتية في أغسطس (آب)، هدد تنظيم القاعدة أيضا بخلع الملكية السعودية «نظرا لمشاركتها في الحملة الصليبية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الإسلام»، ودعا القوات المسلحة السعودية لمهاجمة إسرائيل.

والمنذر بالخطر في ذلك النشاط وتلك الجرأة التي اكتسبها تنظيم القاعدة في اليمن هو تزامنه مع الأزمات السياسية والاقتصادية العميقة التي يرزح تحت وطأتها اليمن والمؤسسات اليمنية المنقسمة وغير الفاعلة. فعلى سبيل المثال، يتلاعب تنظيم القاعدة بصلاته القبلية في الجنوب ويعمل على تعزيزها لكي يحصل على موطئ قدم في الحركة الانفصالية هناك. وتأتي هذه الاستراتيجية في وقت حرج للغاية. فالحركة الانفصالية في الجنوب اكتسبت زخما في ظل مطالبة قطاع واسع من الرأي العام الجنوبي بالانفصال عن الاتحاد الذي فرضه الشمال في بداية التسعينات.

وما حاول تنظيم القاعدة أن يفعله هو التسلل إلى الصراعات المحلية المتنامية خاصة في الجنوب وتحديدا في الشبوة ومحافظة أبين وتزعم المعارضة والمقاومة المسلحة للحكومة المركزية في صنعاء. فعلى سبيل المثال، وقبل عدة أيام، كانت القوات الحكومية تواجه المعارضة وعناصر تنظيم القاعدة في محاولة لإعادة الاستحواذ على السلطة في مدينة لودر في محافظة «أبين» مما أسفر عن مقتل العشرات من كلا الجانبين وأجبر الآلاف على النزوح من منازلهم.

الجذور الاجتماعية الاقتصادية للاضطرابات في اليمن

بالإضافة إلى التمرد السياسي والعسكري المتصاعد في اليمن، لم يحدث قدر كبير من التقدم على الجبهات الاجتماعية والاقتصادية؛ حيث يصل أقل من 10% من المساعدات التي تعهد بها المتبرعون الإقليميون والدوليون إلى اليمن؛ نظرا لضعف التوزيع داخل الدولة وضعف المتبرعين، وبالتالي، ما زالت الظروف الاجتماعية الاقتصادية لمعظم سكان اليمن مستمرة في التدهور.

وهناك آراء قوية تؤكد أن جزءا كبيرا من التمرد السياسي والتمرد المسلح داخل البلاد يرجع إلى الأزمات الاقتصادية، ومعدلات البطالة المرتفعة، والفقر المدقع، وانخفاض عائدات البترول، وتفشي الفساد، واستهلاك المياه غير المتكافئ، وانهيار مؤسسات الدولة. وعلى نحو خاص، وجد تنظيم القاعدة بيئة ملائمة في الجنوب نظرا لأنه يعج بالغضب ولارتفاع معدلات البطالة بين شبابه.

ولا تعبر الإحصاءات عن مدى البؤس الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه اليمن؛ حيث يعاني نحو 40% من سكان البلاد، الذين يبلغ عددهم 23 مليون نسمة، من البطالة. كما يعاني أكثر من ثلث السكان من سوء التغذية، ويعيش نحو 50% في فقر مدقع. كما أن اليمن، أفقر الدول العربية، لديها أكثر معدلات الخصوبة ارتفاعا، يصل إلى 3.7%، ويعني ارتفاع معدل الإنجاب بين الشباب أن نحو 60% من السكان الآن تحت سن العشرين.

والمشكلة في ذلك السياق هي أنه، بينما يرتفع عدد السكان بمعدلات غير مسبوقة، تنخفض الموارد بمعدلات أسرع. وخلال السنوات القليلة القادمة، لن يفي بترول اليمن (مصدرها الرئيسي للعملة الصعبة) إلا باحتياجات الاستهلاك المحلي فقط؛ مما يعني أن حكومة صالح لن تتمكن من توفير السلع والخدمات الاجتماعية والدعم الذي يعد من ركائز حكمها. فبعد أكثر من ثلاثة عقود في السلطة، تقلصت قدرة الرئيس صالح على التعامل مع الخصوم والحفاظ على الأصدقاء؛ مما يدفع اليمن إلى مصير مجهول.

دولة ضعيفة ولكنها ليست الصومال أيضا

وفي الوقت نفسه، لا يعني ذلك السيناريو غير المبشر أن نظام صالح على حافة الانهيار ولا يعني أن اليمن منهارة كالصومال، فما زال اليمن بعيدا عن ذلك الوضع. فعلى الرغم من المشكلات التي تواجهها البلاد، يمكن للزائر المتردد على اليمن أن يقر بأن الدولة متوغلة في حياة الأفراد اليومية على نحو عميق، سواء على مستوى الوظائف أو موارد الرزق أو الصحة أو التعليم أو الدعم. كما تقدم الخدمات الأمنية إحدى دعائم استمرار نظام صالح وهي الوظائف والمركز الاجتماعي، رغم تدني الأجور، للكثير من القبائل، التي تمثل حكومات الظل، مما يعزز ويعمق توغل الدولة في المجتمع.

ومع ذلك، تواجه حكومة اليمن تحديات هيكلية متعددة في ظل ضعف مؤسساتها وتهاويها. كما يحد تزامن سوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية السيئة، مع تزايد الأزمات السياسية والقبلية، من قدرة الدولة اليمنية، ويقلل من قدرتها على منع الجماعات الانفصالية من تهديد وحدتها واستقلالها، وهو الطريق لزعزعة الاستقرار الداخلي وما هو أبعد منه.

ومن المستحيل أن يستمر الوضع الراهن في ظل تلك التحديات الهيكلية؛ حيث تشكل الحركة الانفصالية في الجنوب خطرا على مستقبل البلاد. وحتى تتم معالجة أزمات الجنوبيين، مثل الحاجة إلى حكومة محلية، سوف تستمر مساعي الجنوب الانفصالية. وإذا ما حدث ذلك، فإنه سيؤدي، على الأرجح، إلى نشوب حرب أهلية بين الشمال والجنوب.

في الشمال، كان هناك وقف إطلاق نار هش بين الحكومة والحوثيين فيما كانت قطر تستضيف جولة أخرى من المفاوضات بين كلا الجانبين؛ يقول المسؤولون القطريون إن الهدف منها هو تعزيز الهدنة والسلام. وفي الوقت نفسه، كان من الواضح أن كلا الجانبين يستعدان لجولة أخرى من القتال وهي الجولات التي كانت تشتعل وتخبو منذ عام 2004 مما أسفر عن مقتل الآلاف ونزوح مئات الآلاف.

وبعد ذلك بست سنوات، ما زالت الدولة اليمنية عاجزة عن قمع المتمردين الحوثيين الذين يشتكون من التهميش السياسي والاجتماعي والديني. وتنكر حكومة صالح مزاعم الحوثيين وتتهمهم بمحاولة إسقاط الجمهورية وإحياء الإمامة (نظام حكم ديني يعتمد على مبادئ ومعتقدات الزيدية؛ إحدى الفرق الإسلامية) التي تم إسقاطها في الستينات. كما يسعى المسؤولون اليمنيون لتصوير التمرد الحوثي باعتباره امتدادا للمساعي الإيرانية الشيعية لنشر نفوذها في قلب الدول العربية السنية.

ومن الواضح أنه لا يوجد حل عسكري لتمرد الحوثيين، وقد أقر نظام صالح بتلك الحقيقة من خلال فرض القيود العسكرية واستدعاء ثلاثة نواب عن الحوثيين على الأقل للمشاركة في الحوار الوطني المتعلق بالتحالف الحاكم في اليمن ومجموعة من أحزاب المعارضة. وهذه بداية طيبة لإنهاء إراقة الدماء والصراع في الشمال.

وعلى الرغم من خطورة تنظيم القاعدة، فإنه يشكل واحدة من أقل التحديات التي يواجهها اليمن؛ حيث إنه مجرد كائن متطفل يعيش على الفوضى الاجتماعية والسياسية والقلاقل. ومرة أخرى، فإن تنظيم القاعدة أثبت أنه هو أقوى أعدائه في ظل ميله للتدمير الذاتي. ويتراوح العدد الحالي للعملاء بين 100 و300 من العملاء الأساسيين، يفتقر معظمهم للمهارة والخبرات القتالية على خلاف الجيل الأفغاني السابق.

ويبدو أن بنية وتركيبة تنظيم القاعدة في اليمن قد تغيرت نظرا لاندماجه مع العناصر المسلحة في المملكة العربية السعودية خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، وتشكيل فرع «القاعدة» في شبه الجزيرة، مما ساعد على إحياء فرع اليمن؛ حيث قدم بعض المقاتلين العائدين من مناطق الحرب في العراق وباكستان التدريب العسكري والتحفيز الآيديولوجي، بالإضافة إلى القيادات. خاصة أنور العولقي (رجل الدين اليمني الأميركي الذي اعتبرته إدارة أوباما في أبريل (نيسان) هدفا مشروعا للاغتيال) الذي وفر لأعضاء تنظيم القاعدة بشبه الجزيرة الإرشاد الديني والآيديولوجي والعملياتي.

والسؤال الأهم هو: هل يمتلك نظام صالح الإرادة السياسية لتفعيل العملية السياسية ولدمج المعارضة في الشمال والجنوب؟ وهل سيقيم انتخابات حقيقية تشارك فيها كل الأحزاب على نحو متساوٍ؟ أم سيصر على الاحتكار السياسي واستبعاد الآخرين من صناعة القرار؟

إن أزمات اليمن الهيكلية لا يمكن التعامل معها إلا من خلال بذل جهد مكثف على مدار عدة سنوات من خلال حكومة وطنية موحدة، تتسم بالشفافية والنيابية التي تضع نهاية للفساد المتفشي والتسلط الأمني.

ولدول الخليج التي تجاور اليمن والمجتمع الدولي مصالح في مساعدة البلاد على التغلب على التحديات المتعددة التي تواجهها وتحويل اليمن من مصدر محتمل للاضطرابات الإقليمية إلى مكسب استراتيجي. ويعد حجر الأساس لإعادة ترتيب البيت اليمني هو إعادة بناء مؤسسات الدولة المتهاوية السياسية والاقتصادية، وتعزيز القاعدة المعرفية للبلاد.

 

*فواز جرجس - الأستاذ ورئيس السياسات الشرقية والعلاقات الدولية بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن. وقد أجرى أبحاثا مكثفة في اليمن. وكتاب جرجس القادم هو «صناعة العالم العربي: من ناصر إلى نصر الله».

font change