رغم ادعائهم أنهم يقاتلون دفاعًا عن النفس تارة، وتارة أخرى بأنهم يقاتلون من أجل أهداف تتعلق بـ "حقوق" تدفع عنهم التهميش داخل الدولة اليمنية، فإن حركة الحوثيين – كغيرها من حركات التمرد والمعارضة المماثلة – لا تعطي أدنى قيمة لمعنى الدولة نفسه.
والواقع أن الدافع وراء تحوّل الحركة الحوثية- التي تنتمي إلى الطائفة الزيدية ولها أصل هاشمي ممتد وتتميز بكونها حركة إحيائية تؤمن بأن الهوية الزيدية باليمن في خطر- إلى جماعة معارضة للنظام اليمني نابعٌ من شعور "الزيديين الجدد"، وعلى رأسهم الحوثيون، بالغربة عن الدولة التي جردتهم من منزلتهم السابقة ولم تعر تطورهم الأمني والاقتصادي أي اهتمام.
صحيح أن ثورة عام 1962 استبدلت نظام الإمامة الهاشمية بالجمهورية وأعادت هيكلة البلاد سياسيًا واجتماعيًا، وغيّرت نظاما ارتبط به الزيديون طوال ما يربو على ألف ومائتي عام، إلا أن الزيديين الإحيائيين يعتبرون أن النظام الجمهوري معاديًا للهاشميين والزيديين معًا. والملاحظ أن المكوّن الهاشمي الأساسي في الحركة الحوثية جعلها لا تستمد شرعيتها من التحالف مع قبيلة معينة، ورغم تأقلم معظم الهاشميين مع النظام الجمهوري الجديد الذي أتت به الثورة اليمنية ودعمهم له وقبولهم بانحدارهم السياسي، فإن مناداة العلامة بدر الدين الحوثي، والد حسين الحوثي مؤسس الحركة الحوثية، بإحياء الزيدية منذ سبعينيات القرن الماضي، أتاحت النظر إلى الحرب المستمرة في صعدة بوصفها امتدادًا لعملية بدأت مع ثورة أيلول/ سبتمبر 1962، وشهدت تراجع وانحدار فئة اجتماعية ينتمي إليها الحوثيون.
وعلاوة على هذا، ثمة عوامل أخرى ضاعفت، إلى حد ما، من سطوة الحركة الحوثية والزيديين الإحيائيين؛ فالأزمة التي واجهت علماءهم جراء سقوط نظام الإمامة لجهة إحياء شرعيتهم في ظل غياب إمام يمثلهم، سرعان ما تم الخروج منها إثر نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، والتي زودت شيعة العالم بمثال إيجابي، وسهّلت من عملية التكيّف العقائدي.
وفوق هذه السطوة، نجحت قيادة التمرد – حتى اللحظة على الأقل - في إدارة المعركة لصالحها وبكفاءة واضحة، بالتوازي مع وجود ارتباك واضح في إدارة الدولة اليمنية للصراع مع المتمردين. والملاحظ هنا أنه في كل مرة تعلن فيها الحكومة اليمنية عن نهاية الحرب، كان المتمردون الحوثيون "يحترمون" قراراتها ويتوقفون عن القتال فورًا. ومما ساعد الحوثيين في الحصول على مصداقية أكبر، تمكنهم من الإفلات مرارًا من محاولات الحكومة اليمنية انتزاع موقف غربي أو دولي يُضفي على هؤلاء صفة الإرهاب، إذ تبين أنه ليس من أهدافهم – حتى الآن على الأقل - شن هجمات إرهابية ضد المصالح الغربية والأجنبية سواء داخل اليمن أو خارجه. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه ما من أدلة ملموسة وقطعية تربط بين جماعة الحوثيين وأي جماعات إرهابية أخرى في اليمن، رغم الكلام الكثير حول وجود علاقة وثيقة بين الحوثيين وتنظيم القاعدة الإرهابي الناشط في البلاد.
كما أنه من المثير جدا أيضًا أن نعرف أن حركة التمرد الحوثية ليست متجانسة تمامًا وهذا الأمر أعطاها بُعدًا هلاميًا وصعَّب كثيرًا من محاولات تفكيكها وتدميرها كليا. فالحركة الحوثية تجمع تحت لوائها جماعات سياسية واجتماعية مختلفة كانت ستتنافس وتتواجه في ظروف سياسية مختلفة؛ إذ يتشكل المتمردون من أربع مجموعات: جماعة تعتنق مذهبًا فكريًا واضحًا وتقيم صلات سياسية مباشرة وغير مباشرة مع إيران وتحتشد حول الشعارات المعادية للغرب، وطائفة صغيرة، ولكن بارزة تسعى للذود عن الهوية الزيدية والهاشمية، ومجموعات من المسلحين الذين تحركهم دوافع مالية محض، ومجموعة ذات ثقل واضح تتكون من رجال القبائل الذين انخرطوا في حركة التمرد كرد فعل على العنف الذي استهدفهم من قبل الدولة، كما يقولون، الأمر الذي جعلهم يدافعون عن عائلاتهم وقراهم في مواجهة العنف العشوائي الذي تلجأ إليه القوات النظامية اليمنية في جولات الصراع المختلفة مع المتمردين.
لكن حرص الحوثيين على تأكيد أنهم يقاتلون "دفاعًا عن النفس" يبدو أنه قد فَقَدَ في الآونة الأخيرة معناه، وجدواه تاليا، في ظل توسيعهم لرقعة القتال وفتحهم جبهات جديدة، تمتد إلى محافظة الجوف غرباً وتتجاوز الحدود اليمنية إلى الأراضي السعودية المحاذية شمالاً. كما أن تحالفهم الواضح مع إيران أفقدهم الكثير من رصيدهم السياسي، داخل اليمن وخارجه.
ومع ذلك، يمكن القول بأن الحوثيين قد استفادوا - ولا يزالون - من دون شك من أخطاء النظام في تعامله معهم، وعدم قدرته على حسم المواجهة العسكرية التي طال أمدها في صعدة. ومادامت الدولة اليمنية ضعيفة وغير قادرة على بسط نفوذها على كل أراضي البلاد، لاسيما في ظل تنامي مزيج مُهلِك فعلًا من الأزمات والتوترات الأمنية والسياسية، ناهيك عن التحديات الاقتصادية الصعبة التي تواجه اليمن اليوم، فإن قدرتها على حلحلة أزمة التمرد الحوثي بشكل تام ستظل محل شكوك عميقة، حتى وإن نجحت في حسم الحرب لصالحها عسكريًا. وهذا يعني أن جذور التمرد ستظل باقية، حتى وإن خسر التمرد الحوثي هذه الحرب واختفى من الساحة، ومن المحتمل جدًا – والحالة هذه - أن يتشكل تمرد جديد وينهض معلنًا عن وجوده، الأمر الذي سيدفع الدولة اليمنية إلى الدخول في غمار مواجهة أخرى، الله وحده يعلم لمن ستكون الغلبة فيها هذه المرة.