هل تملأ السلطات التقليدية الفراغ الذي خلفته الأنظمة المخلوعة؟

هل تملأ السلطات التقليدية الفراغ الذي خلفته الأنظمة المخلوعة؟

[caption id="attachment_55226297" align="aligncenter" width="640" caption="القبائل.. قد تصنع ليبيا جديدة أو تتسبب في تفكك الدولة"]القبائل.. قد تصنع ليبيا جديدة أو تتسبب في تفكك الدولة[/caption]

في مساء صيفي حار كالمعتاد في شهر يوليو (تموز) الماضي في بنغازي، كان هناك رجل يجول بناظريه على الصور المعلقة على حائط باحثا عن اسم يعرفه لرجل من بلدته.
كان هذا الرجل يحملق في هذا الجدار الممتلء بصور قتلى الانتفاضة التي قامت من أجل التخلص من نظام حكم معمر القذافي.
في نهاية يوليو، اتخذت مجموعة الاتصال الدولية حول ليبيا ـ وهي مجموعة تشمل حلف شمال الأطلسي وأعضاء من الاتحاد الأوروبي وأميركا، وغيرهم ـ خطوة جريئة من نوعها واعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي كسلطة شرعية تتولى زمام الأمور في لليبيا. وهي خطوة شكلت نقطة تحول مهمة تاركة حكومة القذافي جثة هامدة.
وتعكس تلك الخطوة، حتى وإن نظريا، الطبيعة الغائمة للقيادة والسيادة هناك. حيث يثير تمركز المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي العديد من الأسئلة الشائكة حول هويته. فهل أصبحت بنغازي عاصمة ليبيا؟ وفي ظل غياب القذافي، من إذن يحكم فعليا ليبيا؟
هناك العديد من الدراسات المجتمعية التي حاولت تفسير السلوك البشري عبر العديد من التفسيرات التي ركزت، على سبيل المثال، على العوامل الاقتصادية، والتنافس، أو العوامل الجغرافية. وفي الوقت نفسه كان فرانسيس فوكوياما، المنظر السياسي الأميركي الشهير يولي اهتماما خاصا للقبلية. وفي كتابه الأخير «أصول النظام السياسي»، عرض فوكوياما الوضع في ليبيا كدليل على ما اعتبره العوامل الرئيسة للسلوك التنظيمي الإنساني. وهذه العوامل تتمثل في محاباة الأقارب، والإيثار والمحسوبية، ووضع القوانين واتباعها، والميل لشن الحرب على الغير. وعلى الرغم من أن كتابه لم يصل بعد إلى أروقة الأكاديميين نظرا لأنه نشر حديثا، إلا أن توقيته كان مثاليا.
وفي الوقت الذي يرى فيه فوكوياما أن جانبا كبيرا من طبيعتنا يعود للعوامل البيولوجية «فإن السياسة عرضة لأنماط محددة متكررة من السلوك عبر الزمان وعبر الثقافات». وقد دعا العديد من الأفراد الذين يراقبون التغيرات الدراماتيكية في العالم العربي إلى التساؤل حول ما إذا كان فراغ السلطة الذي خلفته الأنظمة المطاح بها سوف يترك فرصة لعودة النظام القبلي.
وفي ظل وجود ما يزيد على 140 قبيلة وعشيرة فيها، تعد ليبيا واحدة من أكثر الدول قبلية في العالم العربي. ودائما ما كان ذلك عاملا جوهريا في الاستقرار السياسي لمعمر القذافي. على الأقل، تلك هي الطريقة التي ينظر بها البعض إلى ليبيا: وهذا ما أكده سيف الإسلام القذافي، في حوار متلفز موجه لليبيين في بداية مارس (آذار) الماضي قائلا: «بخلاف مصر وتونس، حافظت ليبيا على قبائلها وعشائرها وتحالفاتها».

[caption id="attachment_55226298" align="alignleft" width="198" caption="القبائل الليبية.. تحالفات وخلافات"]القبائل الليبية.. تحالفات وخلافات[/caption]

وفي السياق نفسه كان هناك رأي جازم لعالية الإبراهيمي، الرئيسة السابقة لبرنامج شمال أفريقيا في كلية لندن للعلوم الاقتصادية حول أهمية القبيلة وتأثيرها في ليبيا. ففي حوار مع «ذا ناشيونال» قالت: «إن من يحمل ميزان القوى في ليبيا، هو النظام القبلي وليس الجيش»، محذرة من أنه «ربما يكون القذافي قد تمكن من القضاء على البنى العسكرية القبلية السابقة، ولكن ليس من المستبعد أن تحمل هذه القبائل السلاح مرة أخرى».

نفوذ سياسي فعلي


ومما لا ريب فيه أنه كان للقبائل الليبية دور بارز في مقاومة الحكم العثماني، وإعادة البناء بعد نهاية الاستعمار الإيطالي. وعلى الرغم من أن العديد من الليبيين ما زالوا ينسبون أنفسهم إلى قبيلة ما، فإن نمو المناطق الحضرية في ليبيا يشير إلى أن العديد من الليبيين قد نأوا بأنفسهم عن المناطق القبلية التقليدية. ووفقا لهانز بيتر ماتس وهو باحث بالمعهد الألماني للدراسات العالمية والإقليمية ومتخصص في الشرق الأوسط، فإن هناك نحو 30 قبيلة فقط، من بين القبائل التي يبلغ عددها 140 قبيلة ما زال لها نفوذ سياسي فعلي.
وهناك واحد من بين كل ستة ليبيين ينتمي لقبائل ورفلة النافذة، التي اختارت قيادتها الجانب الذي تنحاز له منذ اندلاع الانتفاضة ضد القذافي. وليس دعم ورفلة للثوار ضد القذافي مجرد تأييد فارغ، بل إن وحدة المجلس الوطني الانتقالي تعتمد على الدعم المستمر لقبيلة ورفلة.
وفي ظل تداعي بقايا نظام القذافي في ليبيا، فإن سلطة القبائل سوف تغدو مصدر قوة المجلس. وهناك مخاوف حول ما يمكن أن يحدث لذلك القدر المحدود المتبقي في ليبيا، إذا ما نشبت النزاعات القبلية داخل المجلس. فقد أثار مقتل زعيم المتمردين عبد الفتاح يونس غضب قبيلته المتنفذة «العبيدات» التي تقيم في بنغازي، ووضع المجلس الوطني الانتقالي في موقف لا يحسد عليه في الوقت الذي كان فيه في أمس الحاجة للتأييد.
ولكن السلطة القبلية أكثر تعقيدا مما يطلق عليه فوكوياما «طغيان أبناء العمومة» والذي لا يعطي مساحة في العادة إلا لأفراد الأسرة المقربين. حيث يؤكد فوكوياما أنه نظرا لأن معظم المجتمعات كانت قبلية في بداية تطورها، يجب الأخذ في الحسبان التنظيم الحالي للقبائل أو حتى امتداداتها. ويرى فوكوياما أن ذلك هو منشأ الأديان أيضا. فمن المحتمل أن يكون هناك شخصان، لا تربط بينهما أية روابط جينية حقيقية، من قبيلة واحدة يصل عدد أفرادها إلى المليون، إلا أنهم يشعرون بأن هناك روابط قوية بينهم، نظرا لأنهم يشتركون في عقيدة واحدة.
ولهذا السلوك جذور في المجتمعات البدائية التي ترعرعت في ظل تقدير الأسلاف واحترامهم، حيث تمثل الأرض والهوية للقبيلة أهمية كبرى، نظرا لأن هؤلاء الجدود مدفونون في تلك الأرض، وبالتالي فإن على الخلف حماية هذه الأرض. ويمثل عامل القربى، رابطة أكثر عمقا من التي تشكلها العوامل الاقتصادية أو التنافس الطبيعي.
ووفقا لفوكوياما، فإن تطور البنى القبلية الموجودة في شبه الجزيرة العربية يرتبط أساسا بالدين الإسلامي، الذي عمل على تشكيل المجتمعات الملتفة حول النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فقد ازدهرت سياسات ملكية الأرض والمشروعات المشتركة والحماية المشتركة في ظل تطور المجتمع. وفي المجتمعات الإسلامية، يعزز إثبات النسب للنبي المكانة الاجتماعية للفرد، ويشير فوكوياما إلى أنه لا يوجد سوى عدد محدود من القوى التي تستطيع توحيد مجموعات متباينة معا كما تفعل الأديان.
وقد أظهر المجتمع الإسلامي الحديث قوة «قبليته» وقدراته التنظيمية والقيادية. حيث تعكس جماعة الإخوان المسلمين في مصر قدرات تنظيمية وقيادية في وقت لا يحظى فيه سوى عدد محدود من المجموعات الأخرى بتلك القدرات. كما تجذب عضويتها عددا من كبرى القبائل في المنطقة وتشارك في منافسة حادة مع الجماعات المشابهة – مثل السلفيين والجماعة الإسلامية – على قيادة مصر الحديثة صوب الإصلاح والازدهار. وبالطبع، تثقل قدرتها التنظيمية العريقة على الجماعات العلمانية الناشئة في صراعهما على النفوذ السياسي.
في يونيو (حزيران) الماضي خرج المصريون إلى ميدان التحرير في ثاني كبرى موجات الاحتجاج، نظرا لإحباطهم من التطور البطيء للإصلاح وتباطؤ الجيش. وقد تحدث ويليام هيغ، وزير الخارجية البريطاني، حول الأزمة في المنطقة محذرا من أن الديمقراطيات الوليدة التي جاءت نتاج موجات شعبية، ربما تكون أضعف من التعامل مع المشكلات المنغرسة بعمق في هذه المجتمعات.
ويتوقع هيغ أن تشهد المنطقة «الكثير من المشكلات بل وحتى الانفجارات.. كما يعد اندلاع النزاعات الطائفية من المخاطر التي تهدد الربيع العربي». وفي ظل بداية انهيار الهوية المركزية للدولة بدأ الناس يبحثون عن وجوه مألوفة، وجوه يعرفونها ويثقون بها. وقد ضمنت القبيلة بديلا جذابا لذلك.

كونفدرالية قبلية نافذة


وفي اليمن، كان للقبيلة أهمية كبرى بالنسبة لتطور الدولة. فقد كان تحكمها كونفدرالية قبلية نافذة حتى القرن الخامس عشر. وقبل توحد اليمن في عام 1990، كانت السلطة القبلية تهيمن عليها ولكنها كانت متأثرة بطبقة وسطى نافذة ومنظمة. أما الشمال، الذي يقوده الرئيس علي عبد الله صالح، فقد قدم نموذجا للجميع، حيث استطاع الحفاظ على مزيج من القبيلة والدولة. وقد أدى انهيار ذلك التناغم اليمن إلى حالة من التداعي القوي في 2011.

[caption id="attachment_55226305" align="alignright" width="230" caption="اليمن.. قبائل مسلحة ومتناحرة"]اليمن.. قبائل مسلحة ومتناحرة[/caption]

واليوم، دفع ارتياب القبائل اليمنية في النخبة السياسية إلى القضاء الكامل على نظام صالح. وتدرك الحكومة المحاصرة مدى خطورة ذلك التحول القبلي. ففي نهاية يوليو (تموز)، قصفت القوات الجوية اليمنية وحدة مقاتلة قبلية، تتكون مما يزيد عن 200 فرد، وقتلت العشرات. وهو ما كان يشير إلى أن ما تبقى من حكومة صالح منشغل بإحكام سيطرته على القبائل التي خسر تأييدها.
وما زال النفوذ العالمي للقبائل في دول مثل ليبيا واليمن بحاجة إلى التقييم. فقد أصبحت بعض القبائل التي كانت تعمل كوسيط بين المجتمعات رسميا جزءا من الحكومة الجديدة أو أنها تندمج تدريجيا في المجال الخاص في الوقت الذي تحاول فيه الحكومات في مصر أو ليبيا مواجهة الأزمات التي تواجهها.
وقد أخبر أحد القادة المرموقين في المجلس الوطني الانتقالي بليبيا «المجلة» بأن القيم القبلية ما زالت منحى حيويا في البنية الاجتماعية للمجتمع الليبي، «ومع ذلك، فإن المسألة القبلية تتعلق دائما بالمكاسب وبمن يسيطر على الحكومة المركزية». مؤكدا أن الحكومة التي سوف تقر بسلطة القبائل سوف تحظى بتأييدها. وكما ظهرت السلطات الانتقالية في ظل التطورات التي شهدتها تلك الدول بحلول الربيع العربي، أخليت قصور السلطة وأصبحت هناك مساحة على الطاولة لوجوه جديدة وأصوات جديدة. وفي ظل التغيير الفوضوي، عادة ما يحتاج الاستقرار إلى وجوه مألوفة سواء كانوا يجلسون على الطاولة أم لا.

 

مريم ايشاني
font change