
لم يكن الفوز الذي حصلت عليه الأحزاب الإسلامية مؤخرا في شمال أفريقيا في حسبان المتابعين للربيع العربي. فقد اعتقد المراقبون الغربيون أنهم يشهدون صحوة يمكنها أن تطيح الأنظمة السلطوية، وتضع محلها حكومات ليبرالية تميل إلى النموذج الغربي. لكن الواقع أن انتصار المحافظين كان رد فعل للنفوذ الغربي بقدر ما كان احتفاء بالإسلام السياسي.
كما رأى المراقبون الخبراء، الذين عدوا "ثورة الياسمين" بمثابة حرب العالم العربي «الديمقراطي» ضد الدوغماتيقية والبؤس اللذين أسفرا عن كل شيء، من نظام طالبان في أفغانستان إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) على أميركا، وتزايد الأعمال الإرهابية في أنحاء العالم. ومما لا شك فيه أن الملايين من التوانسيين المحررين لم يرغبوا في خلع الطاغية زين العابدين بن علي لكي يستبدلوه بديكتاتورية دينية حولت دولا مثل إيران إلى دولة تعيش في عزلة دولية؟
الإسلام السياسي
وبالطبع، كانت الإجابة هي أن حزب النهضة التونسي والذي انتصر على «الحزب الديمقراطي التقدمي» العلماني لم يعتزم أبدا إعادة إنتاج الحكم السلطوي في أول دولة تحصل على الحرية في الربيع العربي. فهم ليسوا تلك النماذج النمطية المتطرفة التي خلقها الدعائيون المناهضون للمسلمين، بل هم معتدلون التزموا بـ«حكومة وحدة» تعكس الرأي الشعبي. وهذا ما أحدث خللا في الأشهر القليلة اللاحقة، داخل البلدان العربية الأخرى التي قامت إما بعزل طاغيتها أو طرحت إصلاحات لنظمها السياسية للتخلص من التمرد.

فقد ذهب أكثر من 70 في المائة من الأصوات في البرلمان المصري الجديد للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية بما في ذلك حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين. وفي المغرب، هيمن الحزب الإسلامي المعتدل «العدالة والتنمية» على تحالف الحكومة الجديد لأول مرة في تاريخ البلاد؛ حيث فاز بأكبر عدد من المقاعد لأي حزب مفرد (107 من 395 مقعد) في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
وبدلا من كونهم أعداء المرأة والمسيحيين والعلمانيين ومعادين لغيرهم من جماعات الأقليات، التي ترغب في أن يصبح لها رأي في إدارة الأنظمة الجديدة، دعا الإسلاميون المعتدلون في بلدان مثل مصر والمغرب وتونس إلى القضاء على الفساد ونادوا بالعدالة الاجتماعية وتحقيق استقرار اقتصادي. وفي سوريا وليبيا، اللتين شهدتا أكثر الثورات دموية، تتصدر الحركات الإسلامية المسلحة المظاهرات. كما أن الجماعات الدينية المتطرفة تهدد دائما، زعماء بلدان مثل الجزائر.
ولفهم السبب، يجب علينا النظر إلى تاريخ الأحزاب الإسلامية في البلدان العربية فقط. فقد تم حظر حزب الإخوان المسلمين في سوريا لمدة تصل إلى نحو 50 عاما، كما أن العديد من المناصرين لنظام بشار الأسد يفعلون ذلك لأنهم يخشون من عودة التطرف الإسلامي. وفي المقابل، كان الأسد يقمع الإخوان المسلمين دون رحمة. فقد كان الانضمام لحركة الإخوان المسلمين عقوبة تستوجب الإعدام في سوريا منذ بداية الثمانينات، كما كان الأسد يدعم بقوة عقوبة الإعدام. وكان مثل ذلك النوع من القمع سائدا في غيرها من البلدان بما فيها مصر، وليبيا، وتونس. ففي جميع تلك البلدان، كان معظم الإسلاميين يحصلون على منزلة الشهداء إثر القمع الذي يعانون منه على يد الأوتوقراط الذين يدعمهم الغرب، وهي الحقيقة التي يبدو أنها عززت طموحاتهم السياسية.
ومن جهة أخرى، يعكس التأييد الشعبي الواسع للإسلام السياسي الإحباط الدائم من رؤية الغرب المستمرة للمسلمين باعتبارهم متطرفين يتسمون بالعنف. وقد أدت الحرب على الإرهاب التي شنها الرئيس جورج دبليو بوش في عام 2001 مباشرة إلى قمع المسلمين في بلدانهم.
فوائد متبادلة
وبالتالي، كان لدى الطغاة عذر سهل لضخ الملايين في ميزانية أمن الدولة. كما كان التعاون بين الولايات المتحدة وحلفائها يعني أن يتم اعتقال «الإرهابيين» بعد صلوات الجمعة، وتعذيبهم، بل وقتلهم في بعض الأحيان، أو إجبارهم على السفر للخارج. فعلى سبيل المثال، قضى حمادي الجبالي، الأمين العام لحزب النهضة التونسي ستة عشر عاما في السجن، فيما قضى راشد الغنوشي، رئيس الحزب 22 عاما في المنفى. وهو ما أدى إلى تأييد الجماهير المسلمة للأحزاب الإسلامية في الانتخابات.
ولا مفر من حقيقة أن حسني مبارك الرئيس السابق لمصر، وبن علي الرئيس السابق لتونس، والعقيد القذافي الرئيس السابق لليبيا كانوا يشترون أسلحتهم بانتظام، بما فيها أسلحة مكافحة الشغب، وتكنولوجيا التجسس من الشركات الغربية فيما كانوا يبقون شعوبهم تحت السيطرة. وفي الوقت نفسه، كانت هذه الجماهير تعيش في حالة مزرية، ولا تحصل على أي قدر من عائدات البترول والطاقة، أو من السياحة التي كان المسؤولون عنها يقدمون الشواطئ وغيرها من مناطق الجذب للزائرين الأجانب الأغنياء.

وكانت الفنادق والمطاعم تلخص كل ذلك، حيث كانت محظورة على الفقراء، الذين كانوا يعانون البطالة ويحصلون على قدر متدنٍ من الرعاية الطبية والتعليم، بل وفي العديد من الحالات، كان يتعذر عليهم الحصول على الموارد الرئيسية مثل المياه الجارية أو الكهرباء. وفي الوقت الذي ركز فيه الطغاة جهودهم على نخبهم فائقي الثراء، خففت الأحزاب الإسلامية من ظروف الفقراء ومعاناتهم وكذلك المقموعين. فقد استثمرت جماعات مثل الإخوان المسلمين قدرا هائلا من الوقت والجهد والتمويل لتوفير السكن والرعاية الطبية والطعام لكافة أنواع الجماعات المستضعفة بما في ذلك الطلاب الريفيون، الذين شقوا طريقهم للمدن الكبيرة. كما استثمروا في جماعات المرأة؛ حيث قدموا حفلات زواج جماعية لمن كانوا لا يستطيعون توفير نفقات الزواج. ولم ينس الناخبون تلك الأعمال الخيرية بعد التخلص من الأنظمة الطاغية.
ومن الأسباب الأخرى لبزوغ الإسلام السياسي، كان رد فعل الشباب العرب تجاه الطمع، والعنف والإذعان التي ربط بينها شباب العرب بالغرب. وعندما تم تخييرهم بين القواعد العسكرية وسلاسل الطعام الجاهز، عاد العديد إلى تفضيل التوجهات المحافظة من القيم الإسلامية التقليدية. وعلى حد قول صلاح إبراهيم، 23 عاما، وهو طالب تكنولوجيا معلومات في القاهرة: «هناك عدد قليل للغاية من الشبان العرب الذين يرغبون في أن يصبحوا غربيين عاديين. فعلى الرغم من إدراكنا لحاجتنا لاستخدام أدوات العالم المعاصر مثل الإنترنت، فإن العرب أساسا شعوب محافظة ومتدينة. وكان ذلك دائما هو الحال، فالسياسيون المحدثون الذين يتغافلون عن ذلك لن تكون لديهم فرصة للفوز بالانتخابات». باختصار، فالأحزاب الإسلامية تمكن هؤلاء الشباب من تأكيد هويتهم. حيث إن العرب الذين يحتفون بالنموذج الغربي والذين يتنقلون بسيارة مرسيدس مستوردة، ويرسلون أبناءهم وبناتهم إلى الجامعات في لندن وباريس كانوا دائما قلة قليلة.
أسلوب متعال
وما علينا سوى النظر للأسلوب المتعالي السمج الذي تعامل به العديد من الغربيين مع بشائر نجاح الربيع العربي. ففي ذلك الوقت، اقترحت وزيرة الخارجية الفرنسية، ميشيل إليوت - ماري (التي استضافتها أسرة بن علي في رحلتها) إرسال قنابل غاز مسيل للدموع وخبراء من الشرطة إلى تونس. كما أرادت الولايات المتحدة أن تقدم المزيد من الرصاص المطاطي إلى مبارك في مصر.
وقبل أربع سنوات من بداية التمرد الليبي، دعا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي العقيد الراحل معمر القذافي لزيارة باريس، لقي فيها معاملة «الأخ الزعيم» كما حاول ساركوزي أن يبيعه طائرات مقاتلة بقيمة ملايين اليوروات. وفي الوقت نفسه تقريبا، كان رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير ما زال يسعى لـ«انفتاح» ليبيا على شركات الطاقة من بريطانيا، كما احتفت الولايات المتحدة بالقذافي كـ«صديق». وكان ذلك حتى تغيرت الموجة الدبلوماسية (والتي عنت في حالة ساركوزي، قرار القذافي شراء طائرات روسية بدلا من الفرنسية)، وسحبت كل من فرنسا وبريطانيا دعمهما، ووقعا على تصريح قتل القذافي.

والأهم من ذلك، أن كثير من الشباب العربي يشعر بمرارة تجاه ما يقوم به الغرب ضد الإخوة المسلمين. حيث تعد التفجيرات اليومية في أفغانستان التي يقوم بها جيش لديه إمكانات تكنولوجية متطورة هو مجرد جزء من هجوم يتعامل دائما مع الناس العاديين باعتبارهم «أضرارا عرضية». فحتى هؤلاء الذين ليس لديهم تلفزيون كانوا يعلمون بالهجمات الليلية على المدن الليبية بصواريخ كروز، والطائرات البريطانية والفرنسية، فيما كانت قوات القذافي تمحو أي شخص يقع في طريقها. في يونيو (حزيران) 2011، على سبيل المثال، قتل 15 مدنيا بما في ذلك ثلاثة من الأطفال في هجمات لحلف الناتو على أبنية تقع غرب طرابلس. ثم أقر الناتو لاحقا بما يطلق عليه إخفاق أسلحة، قائلا إن الهدف الرئيسي كان «مركزا إداريا تابعا لنظام القذافي».
ومن جهة أخرى، لعب التدخل الأجنبي، خاصة ذلك النوع من الرعب المدمر الذي رزح العراق تحت وطأته، دورا هائلا في المساعدة على تزييف الوعي العربي خلال العقود القليلة الماضية. وفي ظل مواجهتهم لما يطلق عليه «القيم الغربية» من القتل السهل وتدمير الممتلكات، كان المحافظون العرب يفضلون اللجوء إلى الخيار الآمن والموثوق به من الأحزاب الدينية المحلية.
ومن النقاط الأخرى المهمة بشأن الأحزاب الإسلامية الجديدة أن الأحزاب المنتصرة كانت أميل دائما لأن تصبح أحزابا ديمقراطية. فقد أكدت كل من حركة الإخوان المسلمين في مصر، والنهضة في تونس أن المهارات التكنوقراطية ضرورية لمعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة في العالم العربي. توفير فرص العمل، الإسكان الحديث، أنظمة الصحة والتعليم، والخدمات العامة الكافية؛ جميعها تتطلب قدرا من الجهود المشتركة التي يمكن تلخيصها في «حكومة وحدة».
فقد تعهد راشد الغنوشي، بتوفير 600 ألف فرصة عمل جديدة في تونس، وبالتالي خفض معدل البطالة من 19 في المائة إلى نحو 8 في المائة فقط. وفي إشارة إلى معدل البطالة بين المتخرجات الحديثات من النساء الذي كان يتجاوز 35 في المائة، قال الغنوشي: «نحن نرغب في نموذج اقتصادي مثل السويد، فنحن نرغب في تعزيز حقوق المرأة، ومعالجة قضايا التحرش بالمرأة في محل العمل، والعنف الأسري، وتوفير رعاية أفضل للأطفال حتى تستطيع المرأة الاستمرار في أعمالها».
ومن خلال اتخاذ الأحزاب العلمانية كحلفاء، ستكتسب أحزاب مثل النهضة الثقة في قدرتها على تأسيس البنية التحتية للبلاد، وتشجيع الأعمال، والسيطرة على خدمات الأمن التي كانت من قبل فاسدة ووحشية. ومما لا شك فيه، أن الإسلاميين التوانسة يدركون أن الأحزاب العلمانية يمكنها أن تعمل ككابح لذلك النوع من التطرف المشابه، لما حدث عندما ارتكز الدستور الليبي الجديد على الشريعة في أعقاب سقوط القذافي.
سوف يتم الحكم على الأحزاب الإسلامية أساسا عبر قدرتها على إعادة الكرامة إلى حياة المواطن العربي العادي. فإذا ما نجحوا سوف تتم إعادة انتخابهم، وإذا ما فشلوا سوف يتم رفضهم. وسوف تنطبق قوانين الأحزاب الديمقراطية على الأحزاب الإسلامية بقدر ما تنطبق على أي أحد آخر، وذلك هو السبب في أن كلا من العالمين العربي والغربي لديهما كافة الأسباب في الاحتفاء بهما.