
في عام 1932، سجل التاريخ مولد المملكة العربية السعودية، بعد ملحمة قادها المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، على مدى اثنين وثلاثين عاماً، بعد استرداده لمدينة الرياض عاصمة ملك أجداده وآبائه، في الخامس من شهر شوال عام 1319هـ،الموافق 15 يناير (كانون الثاني) عام 1902، حيث صدر في 17 جمادى الأولى 1351هـ مرسوم ملكي بتوحيد كل أجزاء الدولة السعودية الحديثة، تحت اسم المملكة العربية السعودية، واختار الملك عبد العزيز يوم الخميس الموافق 21 جمادى الأولى من العام نفسه، الموافق 23 سبتمبر (أيلول) عام 1932، يوماً لإعلان قيام المملكة العربية السعودية.
82 عاماً حافلة بالإنجازات على هذه الأرض الطيبة، والتي وضع لبناتها الأولى، الملك المؤسس، وواصل أبناؤه تحقيق الإنجازات المتواصلة سياسياً واقتصادياً وتنموياً، لتجسد مسيرة البناء والرخاء للدولة الفتية، وتتواصل في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ونائبه وولي عهده الأمين الأمير سلمان بن عبد العزيز.
وقد أجمع عدد من الساسة والمفكرين والمؤرخين في العالم، على نجاح الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحمه الله، ونجاح أبنائه الملوك من بعده في إقامة الدولة الحديثة في المملكة العربية السعودية والمجتمع المدني المتحضر، الذي يجمع بين الشريعة الإسلامية والعلم والاقتصاد والمعرفة.
فقد قال مفتي الديار المصرية الأسبق الشيخ محمد حسنين مخلوف، الحائز جائزة الملك فيصل العالمية: "أسس عبد العزيز ملكا شعاره كلمة التوحيد الخالص، وأساسه اعزاز الإسلام، وأهدافه إسعاد الأمة التي لبثت دهورا ترزح تحت أثقال الظلم والجبروت، وتعاني أقسى الشدائد وشر ضروب الفوضى، بل عمل على إسعاد المسلمين الوافدين من أقطار المعمورة لزيارة بيت الله المعظم، ومسجد رسوله صلى الله عليه وسلم، وتأمين السابلة في جميع أنحاء المملكة تأمينا منقطعا في جميع ممالك العالم، حتى أصبح مضرب الأمثال وعنوان الملك العادل". مضيفا : "عندما أعاد الملك عبد العزيز تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في أرجاء الجزيرة، حقق لمجتمعها ما كان يفتقده من الأمن والاستقرار، وقدم نموذجا حيا لصلاحية هذا التطبيق ونتائجه الملموسة، التي تحدثت عنها كثير من الشهادات الصادقة".
وكان لرئيس جامعة الأزهر الأسبق الدكتور محمد الطيب النجار، رحمه الله، حديث عن استتباب الأمن على يدي الملك عبد العزيز، حيث قال: "حسبه أنه استطاع أن يحول المملكة إلى الأمن والاستقرار الشامل، الذي صار مضرب الأمثال وحديث القرون والأجيال، ولا غرو فقد قام بتطبيق الشريعة الإسلامية، وأقام الحدود المشروعة، فلم تأخذه في الحق لومة لائم، ولم يفرق بين شريف وضعيف، بل تأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن الحرب على من يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا".
وأرجع أحد المؤرخين الغربيين أسباب العدالة في عهد الملك عبد العزيز إلى اعتمادها على الشريعة، حيث قال وليمز ارمسترونغ: "العدالة في مملكة ابن سعود قائمة على أساس الشرع الشريف، وهو القانون المقدس عند المسلمين، وهو ذلك القانون المرن الحكيم".
وأشار إلى أن سياسة الملك عبد العزيز لم تغفل أمر الشورى، ونجح في تحقيق نموذج عملي مطبق للشورى لأول مرة في العصور الحديثة، فاجتمع حوله كوكبة من أهل الرأي والعلم والفضل المشهود لهم في عصره.
[caption id="attachment_55238674" align="alignleft" width="271"]

وقال السياسي البريطاني انتوني ناتنغ آنذاك في سياق حديثه عن إنجازات الملك عبد العزيز التنموية، "نجح الملك عبد العزيز في تحويل مجتمع الجزيرة العربية من قبائل مقتتلة، إلى شعب يعي معنى المواطنة والاستقرار، والتحول من طور البداوة والرعي والارتحال، إلى الزراعة والأسرة، كما نشر روح المعرفة وطلب العلم، بل وتطوير مفاهيم مجتمع برمته والانتقال به من التخلف إلى مرحلة جديدة تماما من الحضارة البشرية رقيا وتقدما".
وأشار إلى أن الملك عبد العزيز أدرك بحسه أن الاستقلال التام لدولته يتطلب الاعتماد على الذات في الغذاء أولاً، فحرص على بذل الجهد لتوفير المياه للزراعة، وحقق في ذلك نجاحاً استقطب أكبار معاصريه من المفكرين.
وتناول المؤرخ الانجليزي كنت وليمز، اهتمام الملك عبد العزيز باستثمار وإصلاح وزراعة الأراضي الجرداء بالمملكة، قائلاً: "إن الجهود التي يبذلها ابن سعود في استثمار هذه الأراضي الجرداء، هي فوق قدرة البشر"، كما تناول اهتمام الملك عبد العزيز بالتعليم، مبينا أن: "ابن سعود يقدر أكثر من غيره، أنه بعد أن يوفق في تحضير البدو وترغيبهم في الزراعة وحرث الأرض، ينبغي له أن ينشر التعليم وهو ما فعله مع شعبه".
وأضاف على هذا الجانب المؤرخ ارمسترونغ، حيث بيّن أن الملك عبد العزيز أنشأ المدارس في الكثير من القرى وتعاقد مع عدد من المدرسين من سوريا ومصر الذين كانوا يدرسون المواد الشرعية والتطبيق العملي لهذه الدراسة في الحياة وقد أضاف إليها القليل من التدريب على الأمور الدنيوية والفنية.
أما في مجال الطرق والمواصلات، فكان لابد بعد أن استطاع الملك عبد العزيز توحيد المملكة العربية السعودية على مساحة شاسعة، أن يربط أجزاء هذه المملكة المترامية الأطراف بوسائل المواصلات الحديثة، فبدأ التأسيس للمواصلات في البلاد، واستمر التطور لهذا القطاع فيما بعد، حتى وصلت المواصلات والاتصالات إلى مستويات جيدة.
وفي ذلك السياق تحدث المؤرخ تويتشل قائلاً: "لقد تم في عهد الملك ابن سعود، تعبيد مجموعة من الطرق البرية كطريق جدة/ مكة التي أنشئت سنة 1938، وطولها 46 ميلا، وعبد طريق الرياض/ الطائف/ مكة، وطريق آخر بين الرياض/ الهفوف/ الظهران/ القطيف/ الجبيل".
من جهته، تحدث ارمسترونغ عن تطور استعمال السيارات في عهد الملك عبدالعزيز، قائلا: "لقد اشترى السيارات بنفسه، وشجع الآخرين على الاقتداء به، ففي عام 1926،لم يكن هناك أكثر من اثنتي عشرة سيارة في البلد بأسرها، وما أن حل عام 1930، حتى كان هناك 1500سيارة تجول ما بين جدة ومكة، وكلها كان يمكن توظيفها عند الضرورة".
وكتبت شركة الزيت العربية الأميركية آنذاك (أرامكو) عام 1950، تقريراً عن المواصلات بالمملكة، ابرزت فيه الاهتمام البالغ الذي يبديه الملك عبد العزيز نحو نهضة البلاد ومستقبلها وتقدمها، مشيرة إلى أن ذلك تجلى في السنوات الأخيرة فيما خطاه الملك عبد العزيز من خطوات في سبيل إنشاء خط حديدي من الخليج إلى مدينة الرياض.
ولما كان الملك عبد العزيز في أشد الحاجة إلى وسائل الاتصال الحديثة، كضرورة من ضرورات التنمية، ووسيلة من وسائل الأمن الداخلي والخارجي، فقد اهتم بها أيما اهتمام، وذلل الصعوبات والمشاكل التي واجهته في سبيل ذلك بالكثير من الحكمة والصبر.
وعودة إلى كنت وليمز، فقد قال عن بداية الاتصالات اللاسلكية بالمملكة، "إن ابن بن سعود تعاقد سنة 1930، مع شركة "ماركوني" في لندن لجلب عدة أجهزة لاسلكية لبلده".
وهناك جانب آخر من جوانب التنمية الشاملة أولاه الملك عبد العزيز اهتماماً بارزاً، وهو جانب الصحة والعلاج فقد كانت صحة الإنسان في المملكة مسؤولية نفسه وأهله، وليس هناك التزامات من أحد أمام المواطنين.
فلما جاء الملك عبد العزيز وأراد النهوض ببلاده، كان لابد أن يعنى بصحة الإنسان الذي يعد عماد التنمية الأول، وبدأ بتطبيق الطب الحديث على نفسه، حينما عالج طبيب أميركي إحدى عينيه.
وتوسع بعدها في استخدام الطب الحديث فأقام أربعة مستشفيات سعة كل منها 400 سرير، وأربع محطات غيار للعمليات الجراحية، سعة كل منها خمسة وعشرون سريرا، كما أدخل التطعيم ضد الجدري ونشر المصحات والمستشفيات المتنقلة والصيدليات والمستوصفات، وشجع المواطنين على اتخاذ الاحتياطات الصحية والأساليب الحديثة للوقاية من الأمراض.
ولم تكن هذه العناية مقصورة على المواطنين وحدهم، وإنما كانت أيضا ميسرة لحجاج بيت الله الحرام، وقد ترك هذا أثره مع استخدام مياه الشرب النقية التي وفرها الملك عبدالعزيز للحجاج في تخفيض عدد الوفيات بين الحجاج.
كما تحدث كثيرون عن جهود الملك عبد العزيز في إنشاء أساس صحي في المملكة، ومن هؤلاء ارمسترونغ التي سبقت الإشارة إليه، حيث قال: إن الملك عبدالعزيز قد أنشا عددا من المستشفيات، وأرسل صيدليات ومستشفيات متنقلة بين القبائل والقرى، كانت تضم الأطباء الذين يرشدون الناس إلى استخدام الأدوية البسيطة.
وعند الحديث عن وسائل المدنية الحديثة في عمومها وسعي الملك عبد العزيز للاستفادة منها، وتسخيرها لصالح الأمة، فقد أدرك، رحمه الله، أن الذي يعيش هذا العصر لابد أن يأخذ بوسائله، وأدرك أن معركة التحديث والتطوير صعبة قاسية، ولكنه صمم على خوضها مهما كانت النتائج، وقد خاضها بكل اقتدار، ولم يفرط في مبدأ واحد من مبادئه، فقد كان يعي تماما ما الفرق بين الوسائل المادية والقيم الروحية، وكان على يقين أنه من الممكن أن تأخذ بكل وسائل العصر المادية، من دون أن تفقد من خصوصيتك شيئا. ومن هنا راح يخوض معركة الأصالة والمعاصرة بكل قوة، ومضى بثبات في مسيرة اللحاق بركب العصر.
وفي هذا الصدد، قال المؤرخ الألماني داكوبرت فون ميكوش: "أثبت ابن سعود أن بالإمكان إدخال وسائل الحياة الحديثة إلى الصحراء، مع مراعاة عادات شعبه وتقاليده وتفكيره".