حزب الله والولي الفقيه.. الأمس والغد والداخل والخارج

حزب الله والولي الفقيه.. الأمس والغد والداخل والخارج

[caption id="attachment_55240720" align="aligncenter" width="620"]استعراض عسكري لعناصر حزب الله استعراض عسكري لعناصر حزب الله[/caption]


تورطَّ حزب الله، المنظمة الإسلامية المسلّحة، في ذات السلوك السياسي الذي تورطت فيه تلك الحركات الإسلامية التي سبقت نشأته، السياسية منها والمسلحة، وهو تحويل الاسلام ـ كلٌ حسب فهمه ومذهبه ـ إلى إسلام سياسي، أي إلى قوة سياسية ضاغطة وفاعلة في المجتمع، أدت فيما أدت إليه، إلى تعميق الانقسام داخل البنية الإسلامية وتحويلها إلى تنظيمات ومجموعات حركية متصارعة، مرة تتصارع فيما بينها، ومرة تتصارع مع السلطة القائمة وعليها، ومرة تتصارع مع المجتمع. طبعا، هذا التورط هو من جملة الأمور المُهْلِكة التي وقع بها حزب الله، وهو انتقاله مما كان مفترضاً أن يكون عليه، أي كحركة إسلامية توعوية ـ كما شُبِّه للبعض ممن تركوا ساحته لاحقا ـ وظيفتها الإرشاد والتثقيف الديني، إلى تنظيم مسلّح، مرة يقاتل اسرائيل، ومرة يقاتل الدولة القائمة، ومرة يسعى إلى السلطة، ومرة يتدخل في شؤون دول أخرى، ومرات ينفذ مشاريع سياسية لدول خارج الحدود الجغرافية للبلد الذي يعيش فيه.

طبعاً، حين نقول ذلك، فإننا لا نتأدى منه إلى تجاوز المراحل التي مرَّ بها حزب الله، بل نتأدى منه إلى القول بأن المشروع الذي تمَّ نفخُه في رحم هذه المنظمة المسلحة، هو "مشروع رجراج" (1)، ذلك أنه، ومضافاً إلى كونه إشكالياً بالتكوين، لا يشبه البلد الذي قرر أن يستعمله كساحته، أي، وبمعنى آخر، هو مشروعٌ مقطوع النسب عن هذا البلد، وعن مجتمعه المركب والمتعدد، ومقطوع النسب عن دولته بطبيعتها الدستورية الميثاقية.
يتناول هذا الموضوع منظمة حزب الله المسلحة منذ ما قبل النشأة، أي يتناول الظروف التي أدت إلى نشأتها ودور النظام الإيراني في تهيئة هذه الظروف، ولا يتفادى طبعاً، المرحلة التي تلت نشأتها. كما يتناول هذا الموضوع، المهام التي أوكلت بها هذه المنظمة المسلحة، إن في داخل لبنان أم في خارجه، والأولويات غير اللبنانية التي حكمت وما زالت تحكم سياستها. مضافاً إلى ذلك، فإن هذا الموضوع سيهتم بالتركيز على علاقة هذه المنظمة بالدولة في لبنان ومستقبل هذه العلاقة، في ظل المتغيرات التي قد تطرأ على لبنان بعد السقوط المحتمل للنظام في سوريا .



1- ولاية الفقيه تهبطُ في طائرة: ولادة الدولة الخمينية






في اليوم الأول من شهر شباط (فبراير) عام 1979، حطّت طائرة في مطار طهران الدولي، وكان على متنها السَّيد الخميني ومعهُ عِدَّة الثورة، فحلّت الثورة الإسلامية في إيران، ضيفا ثقيلا على المنطقة. يومها، بدأ السَّيد الخميني رحلة إلزام الأمة بولايته، والدعوة، وبحرارة استثنائية، إلى تحقيقها وتصديرها وتعميم نموذجها. نجح السيّد الخميني في تأطير مجموعة من الشيعة في إيران بسياج الرهبة والهيبة، كما نجح في تجييشهم بخدمة، وتحتَ راية "قيادة الفقيه العادل المتقي العالم بأمور زمانه، الشجاع الكفؤ في الإدارة والتدبير" (2) . إذن، ومنذ تلك اللحظة، بدأ الولي الفقيه، السيد الخميني، وبمساعدة ما يسمى بمجلس الخبراء، إعطاء نفسه صلاحيات وصلت حدود "تعيين المسؤولين الكبار الآخرين، والموافقة على المرشحين لمنصب الرئاسة، وعزل الموظفين غير الأكفاء وتولي القيادة العامة للقوات المسلحة، مع تعيين قادة الجيش النظامي والحرس الثوري أو عزلهم، وتنظيم مجلس الدفاع الأعلى الذي يعتبر أعلى هيئة لصنع القرار في القوات المسلحة الإيرانية" (3) . هذا في ما خصَّ العلاقة بمؤسسات الدولة، أمَّا العلاقة بالأمة، فقد أعطى الخميني نفسه، وكل ولي فقيه يأتي بعده، صلاحيات وصلت حدوداً تجاوز فيها صلاحيات الإمام الغائب المعصوم، فمنح نفسه سلطة "التصرف في الدماء والأموال" (4)، في محاولة رهيبة لإسكات كل صوت مخالف للنظام وقائده الفقيه، عبر القتل أو السجن أو النفي، فقتل نظامه كثيرين، وسَجَنَ ما يكفي لتمتلئ سجون إيران بالمظلومين، ونفى عدداً غير قليل. وفي فترة حكمه، أي السيد الخميني، لم يسلم الفقهاء والعلماء ورجال الدين من السطوة التي "متَّع" الولي الفقيه نفسه فيها، فنكّل نظامه بالسيد شريعتمداري بعد أن أعلنه خائناً سياسياً، ومن ثم جرجره الى التلفاز كسيراً ليستغفر الله على انتقاده النظام، الى أن أقعده في بيته ليموت بعد مدة. وكذا حصل مع الشيخ منتظري الذي بقي في الإقامة الجبرية في مدينة قم حتى تاريخ وفاته، ممنوعاً من أي نشاط يُذكر.

[blockquote]

صبحي الطفيلي - انتخب أول أمين عام لحزب الله اللبناني في العام 1989. خاض الحزب في عهده معارك دامية ضد حركة أمل اللبنانية في منطقة إقليم التفاح. ترك الأمانة العامة في 1991 وتفرغ للعمل الدعوي. أعلن في العام 1997 العصيان المدني على الدولة اللبنانية وقيام ما سمي بثورة الجياع. وقد عارض حزب الله رسميا هذه التحركات. وفي 24 يناير/ كانون الثاني عام 1998 اتخذ حزب الله قرارا بفصل الشيخ الطفيلي من صفوفه.
[/blockquote]


ولعل الفريد في الولي الفقيه وحكايته، ما يذهب إليه هو وبعض المنظرين لولايته والتابعين لها، من إسباغ القدسية والشرعية الإلهية على عمله ووظيفته ودوره، وفي هذا المجال يقول السيد الخميني نفسه: "لقد مرَّ على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من الف عام، وقد تمر ألوف الأعوام قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المهدي المنتظر، فهل تبقى أحكام الإسلام معطلة يعمل الناس من خلالها ما يشاؤون؟ إذن، فإن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام، وبالتالي فهو يدعو الى تعطيلها وتجميدها وهو بالتالي ينكر شمول وخلود الدين الإسلامي"(5). ويتابع السيد الخميني قائلاً: "فالله جعل الرسول ولياً للمؤمنين جميعاً ومن بعده وكلت الإمام ولياً، ومعنى ولايتهما أن أوامرهما الشرعية نافذة على الجميع.. ونفس هذه الولاية والحاكمية موجودة عند الفقيه" (6). وفي ذات المجال كتب الشيخ آذري قمي، اليميني المتشدد، كتب يقول: "ليس لدى الولي الفقيه أية مسؤولية أخرى غير إقامة نظام الحكم الإسلامي، حتى لو اضطره ذلك إلى أمر الناس بالتوقف مؤقتاً عن الصلاة والصيام والحج، أو حتى الإيمان بالتوحيد" (7). أما الشيخ نعيم قاسم، نائب أمين عام منظمة حزب الله المسلحة، فكتب يقول: "من الواضح حجم الصلاحيات المنوطة بالولي الفقيه، فهو أمين على تطبيق الأحكام الإسلامية، واتخاذ القرارات السياسية الكبرى التي ترتبط بمصالح الأمة، وهو الذي يملك صلاحية قرار الحرب والسلم" (8).

إذن، هذه الآراء التي سوَّقت للولي الفقيه ليولد، والتي لا زالت تُسَّوق الآن للولي الفقيه ليبقى، تُظهر حجم الصلاحيات المعطاة له، والتي ومن خلالها يحاول الولي القائد جعل الشيعة أداة طيعة له، يضحي بهم من أجل مصالحه ومشروعه في ساحات الحروب مرة، وفي ساحات المحن والبلاءات مرات أخرى، وهذه الآراء نفسها، والتي إن أدت إلى شيء غير البلاء الناتج عن شهوة الإمساك بكل مفاصل السلطة السياسية، فإنها أدت وتؤدي، على حدّ ما يقول كثير من فقهاء الشيعة، إلى إحداث بدعٍ وتجاويف في المذهب الجعفري، بدعٌ وتجاويف لا تخدم، بحسب الظاهر، سوى مصالح الفقيه القائد ومتفرعاته، كل متفرعاته.



2 - دفاعاً عن دولة الحق: ثورة برسم التصدير






إذن، عام 1979، وبحسب ما أصطُلِحَ على تسميتها في إيران، وُلِدتْ دولة الحق، وَوُلِدَ معها تكليفٌ شرعي يقول بوجوب الدفاع عنها، على قاعدة أنَّ دولة الحقَّ إن وُجِدتْ وجبَ الدفاع عنها، وإذا وجبَ الدفاع عنها ولَزم، وجبَ حينها إنشاء أدوات الدفاع. وبناءً عليه، بدأ فريق تصدير الثورة في تلك الدولة، والذي يؤمن بأن تصدير الثورة هو أحد سبل حمايتها من الداخل، بدأ التفكير بالسبل الآيلة لحماية النظام، وعمل على خطين متوازيين: الأول يقول بالبحث عن أحزاب إسلامية متطرفة، شيعية كانت أم سنية، تخضع للقيادة الإيرانية، والثاني يقول بالعمل على إنشاء منظمات شيعية مسلحة يكون ولاؤها ولاءً خالصاً للنظام، ولاءٌ، يحتم عليها القيام بوظائف أساسية: إشغال أعداء الثورة الإيرانية ونظامها عن أي اعتداء قد يطالها، ومنعُ أي تدّخل قد يحصل في شؤونها. ذهب السيد الخميني، الولي الفقيه آنذاك، الى دعم هذه النظرية، وراح يقول بأن للثورة الإيرانية دوراً عالمياً يتمثل بقيادة المستضعفين في الأرض، باعتبارها، أي الثورة، النموذج الثوري الإسلامي الوحيد في العالم، مما يجعل تصديرها واجباً دينياً يعكس أهدافاً سياسية وعسكرية تتلخص في دعم الحركات الإسلامية عبر تقديم المساعدات المالية والعسكرية، بالإضافة إلى التدريب العسكري والتلقين العقائدي والثقافي لهذه الحركات وعدم الاكتفاء بالدعاية الخارجية للثورة.


3 ـ أمل الإسلامية: فشلٌ يبعث حزب الله






وعلى هذه الأساس، بدأ النظام الإيراني مشروع ربط الأقليات الشيعية في العالمين العربي والإسلامي بالثورة والإمام ومن ضَعُفَ من السنة، فتارة كانت محاولة الربط هذه عبر فتنة مختلقة (الخمينيون ضد الشورى في أفغانستان ولاحقاً أمل وحزب الله في لبنان)، أو عبر تَبْيِئَةٍ طبيعية مع الثورة ومبادئها وتصوراتها ومشروعها العام.

عام 1982، وفي الجمهورية اللبنانية، الجمهورية الأكثر أهمية لإيران من حيث الموقع الإستراتيجي، تحولت السفارة الإيرانية في بيروت إلى ما يصح وصفه بمقر قيادة أركان إيراني، وظيفته تمركزت حول محاولة ربط شيعة لبنان في بنية إيرانية محضة، عبر إحداث تخلٍ شيعي كامل ومنسق عما كان قد تبقى آنذاك من مرجعية وطنية، وكان ذلك عبر محاولة اختراق جسد منظمة "حركة أمل"، المسيطرة حينها على المناطق الشيعية. فشلت السفارة بإحداث اختراق كامل في صفوف "أمل"، اختراق يكون على قدر طموح مشروعها المرسوم، فقررت إحداث شرخ داخل هذا التنظيم، متعاونة في ذلك مع أحد مسؤولي"أمل آنذاك، حسين الموسوي (حالياً ، هو نائب عن حزب الله في البرلمان اللبناني)، الذي أخذ على عاتقه إحداث هذا الشرخ عبر الانسحاب من أمل مع نفر قليل من مؤيديه وتأسيس منظمة "أمل الإسلامية". إلا أن تلك الخطة الإيرانية فشلت، بعدما تبين أن "أمل الإسلامية" لم تقدم للخطة الإيرانية ما هو على قدر الطموح، فعمدت الى الانتقال لخطة بديلة تقول بضرورة إنشاء تنظيم عسكري يغلب عليه طابع الإستقلالية عن أمل ولو في التسمية، فأسست ما سمي حزب الله وأمنت له كل مستلزمات العمل الثوري والجهادي، معتمدة في ذلك على قسم من رجال الدين وجناح المتطرفيين ذي الذهنية الثورية الذي كان استقال من أمل، ومعاينة مباشرة من الحرس الثوري الإيراني.



4 ـ حزب الله وليداً





إذن، تم تأسيس حزب الله، ومع تأسيسه تم تأمين كل مستلزمات العمل الثوري والجهادي. ومع بدء المدد العسكري والمادي بالوصول اليه، ذهب بعض مؤسسي حزب الله لتأكيد تدخل كل الأجهزة الإيرانية في تحديد الدور الوظيفي لحزب الله عبر القول صراحة (بأن) "الأجهزة الإيرانية كافة، من حوزات قم إلى حرس الثورة إلى وزارة الداخلية، تسهر على الشأن اللبناني وتعمل رأيها فيه" (9)، (وبأن) "الأساس في لبنان بالنسبة إلينا أن يبقى ساحة وموقعاً للصراع مع إسرائيل.. إن الإسلام هو في أن يكون لبنان كذلك"(10).


[blockquote]

عباس الموسوي - ثاني أمين عام لحزب الله اللبناني. درس العلوم الإسلامية في النجف في العراق. ساهم سنة 1982 في تأسيس حزب الله، وأصبح في سنة 1985 مسؤول الشورى للحزب في جنوب لبنان. انتخب أميناً عاماً للحزب سنة 1991 خلفا للشيخ صبحي الطفيلي. في عام 1992 اغتالته إسرائيل إثر عودته من احتفال بذكرى اغتيال الشيخ راغب حرب أقيم في قرية جبشيت في جنوب لبنان.

[/blockquote]

إذن، بدأ حزب الله، وبدعم إيراني صريح وواضح، بدأ قتال إسرائيل، ولكن سرعان ما اكتشف أن الحالة الثورية التي هو ركيزتها، والمجتمع الجهادي الذي هو عماده، تتهددهما أخطار تتعدى الحالة الإسرائيلية لتصل إلى كل شيء في الداخل اللبناني. وعليه، بدأ مخطط الهجوم على كل شيء، فقام حزب الله بضرب القوات المتعددة الجنسيات عام 1983 وأصاب منهم مقتلاً كبيراً، فما كان من هذه القوات إلا أن انتقلت الى موقع الدفاع والتوقي، قبل أن تنسحب من لبنان. واستمر ذات المشهد، لقناعة حزب الله ومن ورائه النظام الإيراني، لقناعتهم بأن الحالة الثورية لا تستطيع العيش إلا من خلال الحرب على العدو العام، أي كل مخالف، وأن الحرب وحدها، هي الكفيلة في توسيع الحالة الإيرانية بعد ولادة معقلها، فتم العزم على محاربة كل شيء، محاربة العدو الإسرائيلي قبل القوات المتعددة الجنسيات، جيش العميل لحد، الجيش اللبناني، حركة أمل، الفلسطينيين، الحزب الشيوعي اللبناني، قوات حفظ السلام الدولية، وكثيرين غيرهم.



5 ـ تطويع اللبنانيين الشيعة





في أواخر ثمانينات القرن الماضي، خرجت مظاهرة في جنوب لبنان، وتحديداً في مدينة صور الساحلية، تطالب النظام الإيراني بسحب حرسه الثوري من لبنان، أي حزب الله، واصفة هذا النظام بأنه وإسرائيل، وجهان لعملة واحدة.
أدرك حزب الله، الخارج لاحقاً منتصراً من حربه مع منظمة أمل، بأن الانتصار لا يصير ناجزاً، إلا عبر تحقيق شرط آخر، ألا وهو، تطويع الشيعة في لبنان.

ذهب حزب الله إلى تطبيق آلياتٍ مُعَقمةٍ بأيديولوجيا مُحَنطَة، وأدرك بأن العقيدة السياسية كي تتغلل في عقول الناس وتفعل فعلها في التأثير في سلوكهم السياسي والثقافي والنفسي والاجتماعي، فإنها تحتاج إلى رافعة دينية، أي إلى عقيدة دينية متطرفة، خلاصتها، في حالة حزب الله، انتاج عقلية شيعية لا تتلقى سوى عقائد الاضطهاد ومشاهد الماساة. وبعد سنوات من بذل جهد ثقافي استثنائي، نجح حزب الله في جذب مجموعة من اللبنانيين الشيعة، لا يُستهان بعددها، واستطاع أن يحولها إلى مجموعة متوحدة تبحث عن كينونة خاصة بها، حالمة بمشروعين، الأول يقول بانفصالها عن الآخرين المختلفين في لبنان، أما الثاني فيقول باتصالها مع باقي المستضعفين في الأرض بدولة العدل الإلهي المزعومة. هكذا، ومن خلال هذه الآلية التي حولت هذه المجموعة الشيعية إلى مجموعة تابعة، خرج حزب الله، الذي يصفه أمينه العام الحالي السيد حسن نصر الله بأنه "أكبر بكثير من الطائفة التي ينتمي إليها مناصروه، وأكبر من أي طائفة أخرى، بل هو أكبر من أي كيان سياسي قائم، (وبأن) مشروعه لا تنتهي أهدافه عند حدود لبنان مع فلسطين"، خرج مرتاحا إلى الدائرة الأوسع، أي إلى "المجموعات المُضطَهدَة" الأخرى في العالمين العربي والإسلامي، واستطاع، وبدعم مالي وسياسي إيراني هائل، وجهد ثقافي استثنائي، لا أن يروج لنفسه فحسب، بل أن يحفر عميقاً في جزء لا يُستهان منها، وأن يزرع بذوراً لعقائد سياسية حزبية ومذهبية ضيقة، لم تنتج إلا مزيدا من عدم الاستقرار.



6 ـ حزب الله والدولة: التساكن بمستلزماته الهشَّة





شكل اتفاق الطائف النهاية الفعلية للحرب اللبنانية، إلا أنه، ولعوامل كثيرة، منها الداخلية ومنها الخارجية، لم يستطع إلا تأمين عودة نظرية للدولة، التي، وبحسب اتفاق الطائف نفسه كان عليها أن تستوعب اندراج "المقاومة" فيها، أي اندراج الجناح العسكري لحزب الله فيها. ما بدا عملياً وما حصل، وبفضل وصايات أنظمة الخارج، أي النظامين الإيراني والسوري، وقوة حزب الله وتمسكه بمشروعه المرسوم، هو اندارج الدولة في المقاومة (11). هكذا، انتهى الأمر بحرمان الدولة ولايتها على حزب الله ما أسس لاستحالة حصول تعايش بشروطه الطبيعية بين مشروعين نقيضين.
وهنا، ولحل هذه الأحجية، لا مانع من أن نسوق، في مسعى متواضع، إلى توضيح المقاصد والمعاني لهذا التساكن الهش، أو الانفصال الذي بدأ وما زال قائما بين المشروعين، أي مشروع الدولة ومشروع حزب الله. لعل انفصال حزب الله ـ بما يمثل من ذراع ستراتيجية للنظام في ايران ـ عن الدولة، لم يكن مصادفة تاريخية لها شروطها السياسية، بل جوهرا ثابتا وتلقائيا، اي متأسسا في الأساس على استقلال مطلق في الأمن والأيديولوجيا والسياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد والفهم والسلوك والعادات.

هذا على الأقل، ما تقوله التراكمات التاريخية التي تكونت منذ نشوء حزب الله، والتي تتمثل واقعا وحقيقة في الضاحية الجنوبية لبيروت، التي عاشت، بل كانت مسرحا، إلى جانب الجنوب اللبناني، كانا مسرحا لتراكم أمني وسياسي واجتماعي ونفسي وثقافي واقتصادي صارا من خلاله امرا واقعا، أي "دويلة واقعة" تعصى على التجاهل. هذه الدويلة، والتي أسسها حزب الله طبعا، كان الهدف من تأسيسها واحدا من أمرين، أو، الاثنين معا: إما "تنغيص" عيشة الدولة الطبيعية، أو الانطلاق من شبه دولة تحتل لاحقا كل الدولة. في الأول، فإن "استحباب" تنغيص عيشة الدولة، ينطلق من الحاجة إلى وجود دولة لبنانية قابلة للاهتزاز أبدا، لا بل مهتزة مهترئة هرمة، ذلك أن حزب الله لا يستطيع العيش، بسبب تركيبته والأهداف، لا يستطيع العيش إلى جانب دولة طبيعية مستقرة. اما في الثاني، فإن وجوب السيطرة والتوسع والاستئثار، مثلثُ النظرية الإيرانية، يستدعي الانطلاق بهيكلية دولة مصغرة، تكون معبرا للامساك لاحقا بكل مفاصل جارتها، أي الدولة اللبنانية.

وكي تكتمل صورة الدولة بهدفيها، متحدين أو منفصلين، خلق حزب الله لدويلته اسُسَ وجودها واستمراريتها المادية، وقام محاولا يصنع لمناصريه هوياتٍ ثقافية خاصة في معمله الأيديولوجي تفرقهم عن إخوانهم من اللبنانيين، معملٌ، اقل ما يُقالُ فيه، مُتْقَنُ الأداء. لم يقتصر المعملُ الأيديولوجي هذا على صنع هويات مختلفة عن اللبناني الآخر، بل توسَّع لكي يصبح معملا أمنيا بذراعين طويلتين، واحدة تغلق الضاحية، تنظم أمنها، وتحولها إلى ثكنة عسكرية ممنوع على أجهزة الدولة دخولها، والأخرى تسرق حرية الناس وتمتد خارج حدود الدويلة لتعتدي على هيبة الدولة متى استدعتُ الحاجة فعل ذلك. هذا المعملُ توسَّع أيضا ليصير معملا اقتصاديا يُوَّزعُ مغانم "اقتصاد الضاحية السيادي" على المنتسبين اليه من الناس، وذلك عبر المصالح الاقتصادية الكبرى التي انشأها بحجة دمج فئات المكتدحين من الناس وإدخالهم في دورة اقتصاد حلال يستفيدون من خلالها.



[blockquote]

حسن نصر الله - ثالث أمين عام لحزب الله اللبناني. انتخب على رأس الحزب في عام 1992 بعد اغتيال عباس الموسوي. في عام 1997 فقد نصر الله إبنه البكر هادي في مواجهات ضد الجيش الإسرائيلي في منطقة الجبل الرفيع جنوب لبنان. بعد اندلاع الثورة في سوريا تعرض الى كثير من النقد بسبب مواقفه المعلنة والداعمة للنظام السوري، و ما تردد عن إرسال عناصر من حزبه إلى جانب الحرس الثوري الإيراني للمشاركة في قمع الشعب السوري.

[/blockquote]



هذه المشهدية، التي أراد لها حزب الله أن تكون، خلقت وزرعت في نفوس مناصري حزب الله، وعن قصد طبعا، جوا معاديا حتى لفكرة اسمها دولة، كما أغرقتهم وطمرتهم في مستنقع مذهبي وطائفي ضيق يملأ عليهم وعيهم والتصرف. هكذا، تحولت هذه "المعامل الثلاثة" لتصبح حقائق تفرض نفسها بقوة، بل، تهدد وجود الدولة اللبنانية، ناهيك عن عبثها الواضح بالسيادة وضربها عرض الحائط بمكون أساسي من مكونات الدولة الطبيعية، ولعل هذه "المعامل" الثلاثة تفيض عن حاجتنا للاستدلال على أن حزب الله يساكن مكرها الدولة اللبنانية، بل ينفصل عنها من دون إشهار، مستعيناً بحقائق دولته ومرسخاً لوعي اجتماعي وثقافي وسياسي وأمني جديد يكون بمثابة تجسيد أبدي لهوية لقيطة يحفرها على جباه اللبنانيين.



7 ـ الأمس والغد.. الداخل والخارج وحزب الله





في وثيقته الثانية التي أعلنها عام 2009 في بيروت، اعترف حزب الله بلبنان، ولكنه اعترف به لا كوطن تحكمه دولة سيدة مستقلة يعيش الجميع وفق شروطها، بل كوطن يحكمه الحزب ويلتزم الجميع، ومن ضمنهم الدولة، بشروطه، واعترف بوطنٍ، يظهر في أفضل الأحوال، أشبه بقطعة أرض لا يعيش عليها مواطنون لبنانيون أحرار متساوون، بل أهلٌ وأجدادٌ ومجاهدون وشهداء. منذ إعلان تلك الوثيقة، لم تبرز في شعارات الحزب وخطاباته، أية إشارة تقول بأن الحزب جاهز للتراجع عن تلك النظرة إلى لبنان، أو على الأقل، إجراء مراجعة بخصوصها، مراجعةٌ، تصادق على حق هذا البلد ومواطنيه، بدولة سيدة مستقلة وحرة. لم يحصل أن ظهر حزب الله يوماً بمظهر يساعدنا على اتهامه بالارتجال، بل دائماً، كان وما زال صاحب مشروع واضح المعالم والنسب، مشروع، لم يبرأ، وباعتراف قادته، من دعم ورعاية خارجية. إلا أن الأهم من ذلك هو تمسك هذا الحزب، وبحسب خطابه المعلن، تمسكه حتى اللحظة الراهنة بعدم الإنقطاع، لا هو ولا مشروعه السياسي، عن التزامات النشأة والتطور المُشار إليهما في الأقسام التي سبقت، التزامات تحتم عليه البقاء متموضعا في ذات الشكل الذي هو عليه، والذي لا يتحقق مشروعه إلا فيه.

أما بخصوص علاقته مع داعميه الأساسيين، أي النظام الإيراني والنظام السوري المتهالك، فبقي حزب الله، وحتى تاريخ كتابة هذا الموضوع، محافظاً على ارتباطه العضوي بهما، من دون إظهار أي إشارة تقول بأنه جاهز للارتفاع إلى مستوى إجراء مراجعة شاملة لمعادلاته العقلية وطرائق تصرفه، وبالتالي تحديد نوع صلته بهذين النظامين، والتوقف عن توظيف ثقله لمصلحتهما. ففي الاتجاه السوري، لا يبدو هذا الحزب محتشماً في دفاعه عن هذا النظام، ولا مسلّماً بأنه في دفاعه هذا، إنما يدافع عن نظام متهالك لفظه شعبه، والحزب، إنما يقوم بدفاعه هذا، لا ترفاً ولا تسيباً، بل التزاماً منه بما تمليه عليه المدرسة السياسية والفكرية التي يتنمي إليها. أما في الاتجاه الإيراني، فإن الحزب وبصفته ربيب هذا النظام، ليس في وارد التحلل من مسؤولياته اتجاهه، أي ليس في وارد التحلل من مسؤولية الدفاع عنه وعن مصالحه العليا، من موقعه في لبنان، على شاطئ المتوسط، وعلى مرمى صاروخ من فلسطين، وهذا الالتزام، كما أشرنا سابقاً ليس تحالفاً، بل تبعية عمياء، وترجمة لعلاقة عضوية مع النظام الإيراني (12).



[blockquote]

(1) شمس الدين، محمد حسين، "المقاومة بين لبنان "الساحة" و "الوطن"، تحرير مركز المسبار للدراسات والبحوث، في "بندقية الولي الفقيه، حزب الله في لبنان"، دبي، ص 263
(2) المادة 107 من الدستور الإيراني
(3) المادة 110 من الدستور الإيراني
(4) الأمين، السيد علي، "ولاية الدولة ودولة الفقيه"، دار مدارك، دبي، ص 26
(5) السيد الخميني، "الحكومة الإسلامية"، الدار الإسلامية، بيروت
(6) المصدر ذاته
(7) نور بخش، مهدي، "الدين والسياسة والاتجاهات الأيديولوجية في إيران المعاصرة"، في "إيران والخليج، البحث عن الاستقرار" ص48
(8) قاسم، الشيخ نعيم، "حزب الله، المنهج، التجربة، المستقبل"، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ص 74
(9) شرارة، وضاح، "دولة حزب الله.. لبنان مجتمعاً إسلاميا"، دار النهار، بيروت، ص 336
(10) كاتزمان، كينيث، "الحرس الثوري الإيراني نشأته وتكوينه ودوره"، ترجمة: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ص 104
(11) شمس الدين، محمد حسين، "المقاومة بين لبنان "الساحة" و"الوطن"، تحرير مركز المسبار للدراسات والبحوث، في "بندقية الولي الفقيه، حزب الله في لبنان"، دبي
(12) المصدر ذاته
[/blockquote]

font change