أكراد سوريا يتعلمون الدروس من مهندس حق تقرير المصير لكردستان

أكراد سوريا يتعلمون الدروس من مهندس حق تقرير المصير لكردستان

[caption id="attachment_55241797" align="aligncenter" width="620"]مقاتلون سوريون في بلدة كردية قرب الحدود مع تركيا يحملون علما كرديا مقاتلون سوريون في بلدة كردية قرب الحدود مع تركيا يحملون علما كرديا[/caption]


يدافع الأكراد القاطنون في حزام ضيق من تركيا والواقع على الحدود مع سوريا عن حقهم في تقرير المصير. وفي هذا الإطار، انسحبت القوات السورية النظامية المنهكة طواعية في شهر يوليو/تموز من السنة الماضية من المناطق الكردية التي كانت ترابط فيها وحل محلها مقاتلو "وحدات حماية الشعب" وهي ميليشيات كردية. لقد أقامت نقاط تفتيش خاصة بها ورفعت أعلاما صفراء وحمراء وخضراء خاصة بمنطقة كردستان الغربية.
تتولى "اللجنة العليا الكردية" تصريف أعمال الحكومة المحلية في عدة مدن وبلدات مثل كوبي وأمودا وأفرين والمالكية ورأس العين والدربسية والمعبدة. تأسست هذه اللجنة في يوليو/تموز 2012 عندما اتفق الفصيلان الكرديان الرئيسيان وهما "الاتحاد الديمقراطي الكردي" و"المجلس الوطني الكردي" على إدارة منطقة كردستان السورية بشكل جماعي.
واليوم تتولى اللجان الشعبية بشكل فعال إمداد المنطقة بكل ما تحتاج إليه سواء على مستوى توفير الأمن أو توفير حاجات السكان المحليين من المواد الغذائية أو الطاقة. لقد نُظمت انتخابات محلية وفُتحت المدارس التي تُدرس باللغة الكردية كما نُظمت مسيرات كردية صاخبة بدون أي حادث يذكر كما كان الشأن من قبل عندما كان من شبه المؤكد أن تعمد قوات الأمن السورية إلى اعتقال الناشطين.
لم تحافظ القوات النظامية السورية على وجودها سوى في مدينتي القامشلي والحسكة وهما مدينتان ذواتا أغلبية كردية لكن حتى في هاتين المدينتين -حيث ظلت صور وتماثيل أسرة آل الأسد على حالها بدون التعرض لها بأذى- يتمتع الأكراد بمستويات من الحرية السياسية والثقافية لا نظير لها خلال السنوات الخمسين من حكم حزب البعث. يدرك الأكراد في المنطقة وعلى نحو خاص أن هذه الحريات جاءت نسبيا بدون تكاليف باهظة بالنسبة إلى نمط حياة الشعب الكردي وممتلكاته. يرى الشعب الكردي أن ما شهدته منطقة كردستان كان تحولا إيجابيا لافتا وخصوصا أن انتفاضة هذا الشعب قمعت بشدة في مارس/آذار 2004 كما أن الكثيرين من أفراده ظلوا محرومين من حق الحصول على الجنسية السورية حتى السنة الماضية.
لقد رفض عرب سوريا المعارضون للنظام قرار بشار الأسد بإلغاء نتائج إحصاء 1962 ومنح حقوق الجنسية السورية لنحو 300 ألف نسمة في أعقاب اندلاع الثورة السورية معتبرين إياه رشوة. ربما كان الأمر كما يقولون. ورغم أن أكراد سوريا لا يؤيدون حملات القمع الشرسة التي يمارسها النظام السوري ضد معارضيه، فإنهم لم يدعموا بشكل كامل المعارضة العربية. لقد بدوا وكأنهم يمسكون العصا من الوسط في خطوة حذرة أملتها ضرورة مراعاة المصالح القومية للأكراد.
لكن تحديد طبيعة هذه المصالح هو الشغل الشاغل للجناح السوري من "حزب العمال الكردستاني" وهو منظمة انفصالية تسعى لاستقلال منطقة كردستان. وفي هذا السياق، يشن الحزب حربا انفصالية ضد الجيش التركي منذ عام 1984 في مسعى لتحقيق هذا الهدف. لقد أنشأ الحزب الأم "حزب الاتحاد الديمقراطي" في سوريا الذي أصبح يضطلع بدور بارز أكثر من أي حزب آخر في مسعى الأكراد لاستثمار الضعف المتنامي للحكومة المركزية في دمشق. يستفيد حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا في استراتيجيته التي ينهجها من تجارب حزب العمال الكردستاني في التعامل مع الحكومات التركية المتعاقبة، إذ استطاع انتزاع تنازل من الحكومة التركية بفضل الجمع بين الضغط العسكري والتنظيم السياسي وهذا هو الأهم.
ولا يسعى حزب الاتحاد الديمقراطي في إقامة دولة قومية خاصة بالأكراد (وهذا شبه مستحيل في الظروف الحالية) ولكن للحصول على نوع من الحكم الذاتي يتعايش مع أي طرف يصل إلى الحكم في دمشق. إنه طريق جديد نحو حكم ذاتي خاص بالأكراد ومن المحتمل جدا أن يكون استقلالا عن الحكم المركزي إلا في الاسم. لكن هذا النوع من الحكم قد ينجح في ظل التفكك والتمزق الذي تعانيه سوريا بسبب الحرب كما كان الشأن في العراق.



كونفيدرالية ديمقراطية





قال زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم إن "خلال الخمسين سنة الماضية، لم يستطع الحزب تقديم شيء يذكر إلى السياسة الكردية أو إلى الشعب الكردي في كردستان الغربية".
وأضاف قائلا "لقد أنشأنا حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يختلف عن الأحزاب التقليدية في سوريا. نهلنا من فسلفة أوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني)، لقد كيفنا أفكاره مع ظروف ووضع كردستان الغربية".
خضعت فلسفة أوجلان لتغييرات بارزة منذ القبض عليه من قبل عملاء أتراك عام 1999. وأبرز هذه التغييرات هو تخليه عن مطلب إقامة دولة خاصة بالأكراد في تركيا واستبدال هذا المطلب بتبني "نموذج اجتماعي غير الدولة".
ودعا أوجلان في كتيب يحمل اسمه إلى فكرة كبيرة تقوم على الكونفيدرالية الواسعة، وقد تأثر بشكل فضفاض بالميثاق الأوروبي للحكم الذاتي المحلي. وورد في الكتيب الذي ألفه في زنزانته في تركيا " تهدف الكونفيدرالية الديمقراطية في كردستان إلى الدفاع عن مصالح الشعب الكردي من خلال تشجيع الديمقراطية في جميع أجزاء كردستان بدون التشكيك في الحدود السياسية الموجودة".
ومضى للقول "تهدف هذه الحركة إلى إقامة بنى فيدرالية في إيران وتركيا وسوريا والعراق تكون مفتوحة لجميع الأكراد وفي الوقت ذاته تكون مظلة كونفيدرالية لأجزاء كردستان الأربعة".

[caption id="attachment_55241799" align="alignleft" width="300"]طالبات في مدرسة كردية ليلية بسوريا طالبات في مدرسة كردية ليلية بسوريا[/caption]


قد تكون الكونفيدرالية الديمقراطية بمنزلة آلية لاستقلال كردستان من خلال الباب الخلفي. إن استبدال الهدف الإشكالي المتمثل في الانفصال باستراتيجية أقل تهديدا لوحدة البلدان التي يوجد بها الأكراد وطويلة الأمد بناء على المطالبة بالحقوق السياسية والثقافية المحلية هو تفكير منطقي لكن الكونفيدرالية تعني في الحقيقة تجريد الحكومة المركزية من سلطاتها وتفويضها إلى الهيئات المحلية في الأطراف التي تسيرها منظمات لا تكن الولاء أو تكن ولاء محدودا للدولة القومية القائمة. يتسبب هذا الوضع في بعض الإشكال بالنسبة إلى بلد مثل تركيا.
سعت حكومة حزب العدالة والتنمية التي يقودها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إلى استثمار ما تراه براغماتية متزايدة من قبل الأكراد. إن بروز منظمات مثل اتحاد الجماعات المحلية في كردستان وحزب السلام والديمقراطية وكلاهما يستفيدان من المبادئ التوجيهية التي وضعها عبد الله أوجلان- أضفى على النضال الكردي نكهة سياسية ومدنية أكثر من ذي قبل.
وفي إشارة إلى تغيير السلطات التركية لموقفها تجاه القضايا الكردية، سمحت بإقامة الصلوات باللغة الكردية في المساجد التركية وذلك لأول مرة كما سمحت بتغيير أسماء المدن من الأسماء التركية إلى الأسماء الكردية كما كانت تُسمى في الأصل. وعلاوة على ذلك، سمحت بتدريس اللغة الكردية في المدارس.
بل إن حكومة "العدالة والتنمية" أنشأت قناة تلفزية رسمية ناطقة باللغة الكردية وهي قناة TRT 6 كما أطلقت مبادرة تسمى خطة العمل "جاب" بهدف تحويل المساعدات والاستثمارات إلى المناطق الكردية في جنوب شرقي تركيا التي تعاني الحرمان الاقتصادي. ويبدو أن الهدف من وراء هذه الخطوة هو بناء جسور الثقة بغرض تعبيد الطريق أمام التوصل إلى تسوية مع حزب العمال الكردستاني عن طريق المفاوضات.
ويتفق المراقبون المخضرمون على أن الانفتاح التركي على الأكراد الذي بدأ في أوائل 2009 اصطدم بعراقيل معينة. ورغم الرشى التي قدمها أردوغان إلى الأكراد، فإن "حزب العمال الكردستاني" يظل نشطا في الساحة التركية. ورغم المبادرات الانفتاحية التي قامت بها الحكومة التركية تجاه الأكراد، فإن الجنود الأتراك لا يزالون يموتون في جنوب شرقي تركيا.
إذا لم يقطف أردوغان ثمارا كثيرة لجهوده، فلا يمكن أن ينطبق هذا الكلام على الأكراد. لقد أتاحت لهم هذه المبادرات تجديد الهدف الذي يسعون إليه إذ أصبحوا أكثر ثقة بالنفس من أي وقت مضى بفضل تخليهم عن العنف على نطاق أوسع وبناء قدراتهم السياسية إلى جانب قدراتهم العسكرية. خلال الانتخابات العامة في يونيو/حزيران 2011، ضاعف "حزب السلام والديمقراطية" عدد مقاعده في البرلمان التركي وذلك من 16 إلى 36 مقعدا، ما ضمن له إسماع دعواته بشأن الحكم الذاتي بصوت عال وواضح في دهاليز صنع القرار بأنقرة.
يسعى قادة الأكراد في تشجيع الشباب على العمل في مجموعات المجتمع المدني والمنظمات الأخرى التي تسيطر على المشهد السياسي الكردي بدلا من الاكتفاء بالانضمام إلى "حزب العمال الكردستاني" في الجبال. عندما سمح حزب العمال الكردستاني للأكراد بالمشاركة السياسية بدون تعريض حياتهم للخطر بسبب الصراع المسلح، استقطب أنصارا جددا وحظي بالاحترام.
قال أحد زعماء حزب السلام والديمقراطية في إقليم ديار بكر يسمى زبيد زمروت: "أصبح حزب العمال الكردستاني جزءا من الشعب. لا يمكن الفصل بين الاثنين من الآن فصاعدا. يعني هذا الكلام أنك إذا أردت حل هذه المشكلة، فينبغي أن تأخذ في الاعتبار حزب العمال الكردستاني".



آفاق جديدة في سوريا





تشير التقارير الواردة من تركيا هذا الأسبوع إلى أن الحكومة التركية لا تزال تعتقد أن هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية المسألة الكردية مع حزب العمال الكردستاني. ويعزى هذا الأمر إلى رغبتها في الحد من تنامي نفوذ "حزب الاتحاد الديمقراطي" في سوريا أكثر من كونها ترغب حقا في تقديم تنازلات ملموسة. ربما أثبتت فلسفة أوجلان أنها ناجعة في إرباك الدولة التركية على المدى البعيد، ولاسيما لو مضت حكومة "العدالة والتنمية" في محاولاتها لتحويل تركيا إلى دولة متعددة الإثنيات. ستظل تركيا على المديين القصير والمتوسط دولة قوية ومركزية جدا بحيث لن تترنح تحت ضغط الاحتجاجات الكردية الصاخبة.
تطرح سوريا أفقا أكثر واقعية فيما يخص تطبيق الكونفيدرالية الديمقراطية. بادئ ذي بدء، سوريا أضعف من تركيا ولها أقلية كردية بما يكفي لدعم دعوات الحكم الذاتي. ثم هناك الوضع الجيوسياسي الذي يعني أن كلما فقد الأسد السيطرة على مقاليد الأمور وأصبح ضعيفا، فإن قوى متباينة المصالح مثل إيران والولايات المتحدة ستخطب ود الأكراد في محاولة لإيجاد ثقل موازن لنفوذ الإسلاميين السنة. يطرح أكراد العراق نموذجا يمكن تطبيقه على أرض الواقع لأن المنطقة العراقية تجيد تسيير أمورها بنفسها بمعزل عن سلطات بغداد. وفي هذا الإطار، استطاعت هذه المنطقة تجنب الاقتتال الطائفي الذي شهدته باقي أجزاء العراق. هناك أيضا عامل آخر يتمثل في أن ميليشيا "وحدات حماية الشعب" توفر الأمن بسلاسة فيما يخص تسيير منشآت النفط في محافظة الحسكة. إن كون سوريا دولة لها حدود اصطناعية وضعتها بريطانيا وفرنسا (في إشارة إلى معاهدة سايس بيكو) بدون مراعاة الاعتبارات الإثنية والقبلية يطرح سببا تاريخيا آخر بشأن إمكانية نجاح الكونفيدرالية الديمقراطية في سوريا وإخفاقها في تركيا.
لكن هناك منطقا أكثر بساطة وعمليا أكثر يقف وراء فلسفة أوجلان ألا وهو أن أنصاره في سوريا أبلوا بلاء حسنا في تطبيق مبادئه في حين لم يحقق أنصاره في تركيا نتائج طيبة. إن المهارات التنظيمية التي يتمتعون بها فضلا عن الفطنة السياسية التي يحظون بها مكنتهم من الاستعاضة عن الانخراط في المعارضة المسلحة ضد النظام السوري في مقابل الدفع في اتجاه تكريس الحكم الذاتي الفعلي، ما أتاح لهم تجنيب المدن والبلدات والسكان الأكراد مصير المدن السورية الأخرى مثل حمص وحلب. كما أنهم أدركوا وهم محقون في ذلك أن ممارسة ضغوط على أنقرة التي لها موطئ قدم صلب في سوريا ضروة لا يمكن الاستغناء عنها. ومهما كانت نتائج الثورة السورية في نهاية المطاف، فليس من المرجح أن تفقد كردستان الغربية قريبا حقوق تسيير أمورها بنفسها.
وفي المقابل، جلبت المعارضة العربية في سوريا الموت والدمار إلى البلدات والسكان الواقعين تحت سيطرتها بدون أن تكون ثمة ضمانات بالنجاح في ثورتها أو أن تكون لها القدرة المطلوبة لتسيير المناطق الواقعة تحت نفوذها بفعالية. هناك شكوك تحيط بمسألة الثمار التي سيجنيها العرب السنة وهم الأغلبية إذ إن التضحيات التي قدموها قد لا يمكن مقارنتها مع المكاسب المنتظرة عندما ينهار النظام في دمشق. لقد حصل أكراد سوريا على مكاسب فورية لفائدة قضيتهم في حين أجلوا البت في باقي المطالب الأخرى حتى إشعار آخر.
font change