
الفردانية من القيم الأساسية للنظرية الليبرالية، ومن أكثر القيم تداولاً في الأدبيات الليبرالية، وهي المبرر أيضًا لكثير من الليبراليين السعوديين عندما تسألهم عن السبب وراء عدم ظهور مواقفهم بشكل جماعي حيال الكثير من القضايا. فالفردانية بالنسبة لهم تمنع بالضرورة أي توجُّه "حركي" منظَّم، كما يفعل البعض. وهنا نتساءل: هل بالفعل هذا ما تعنيه الفردانية، وما ترمي إليه؟
الفردانية أو الفردية (Individualism) بحسب أشهر التعريفات هي "الفلسفة السياسية، ووجهة النظر الاجتماعية التي تشدِّد على فكرة الاستقلالية، واعتماد الفرد على نفسه في اتخاذ قراراته". ولفهمها أكثر لا بد من الإشارة للنقيض منها، وهي ما تُعرف بالجماعية (collectivism)، والتي "تشدِّد على أن قيم وأهداف المجتمع والدولة يجب أن تأخذ حقها قبل حق الفرد".
تبعًا لهذا التعريف، الفردانية تدعو لحق اتخاذ مواقف فردية، ولكنها لم تبحث أبدًا في طريقة عرض هذه المواقف أو صدها، بما فيها الموقف الضدي منها مسبقًا، من قبل "الجماعية" ومن يتبنونها، تحت أي توجه أممي، إسلامي سياسي أو قومي عروبي، والذي يجعلنا نتفهم (دون أن نبرر) هذا الانزواء من قبل الفردانيين، فالفردانية بالنسبة لبعض الجماعيين تهمة بحد ذاتها، وقد يصل الأمر للتخلص من أي موقف فردي بتخوينه وطنيًّا، أو تكفيره عقائديًّا، أو بردّه مُجملاً باعتباره موقفًا غير طبيعي، فالجماعيون لا يؤمنون بـ "اللا انتماء" لأي جماعة أو تنظيم، وهذا مفهوم نفسيًّا ومعرفيًّا، ولا يمكن مؤاخذتهم عليه، وإلا فإن الأرضية الأساسية والمشتركة التي يقفون عليها ستهوي بهم جميعًا.
اللا انتماء لحزب أو جماعة، لا يعني أن لا يكون لديك موقف فردي مستقل تجاه الكثير من القضايا الوطنية والإنسانية، ولكنه أيضًا لا يمنع أن يكون هناك ما يلم شتات هذه المواقف المبعثرة هنا وهناك. وهنا تكمن المعادلة الصعبة، معادلة غير مفهومة لكل "جماعة" تبحث عن هُوية مشتركة، وعن حلول وعن خلاص جماعي بأي طريقة كانت، ولكنها مفهومة نوعًا ما، بالنسبة لفرد يعرف حدوده الجغرافية (القُطرية) جيدًا، ولا تعنيه الهوية الأممية المشتركة كنتيجة، بقدر ما يبحث في الطريقة ذاتها. لذلك تجده يتأمل في كل طريقة اجتماعية أو نظرية سياسية محاولاً أخذ ما يناسبه منها، وترك ما لا يناسبه، وهذا ما يجعلنا نتفهم لماذا الفردانيون يختلفون فيما بينهم أكثر حتى من اختلافهم مع جماعة أخرى.
[blockquote]الجماعيون لا يؤمنون بـ "اللا انتماء" لأي جماعة أو تنظيم، وهذا مفهوم نفسيًّا ومعرفيًّا، ولا يمكن مؤاخذتهم عليه، وإلا فإن الأرضية الأساسية والمشتركة التي يقفون عليها ستهوي بهم جميعًا[/blockquote]
ولفهم الطرفين مجال البحث هنا، لا بد من الإشارة لبعض خصائص كلٍّ منهما، التي نلحظها من خلال "تويتر" في السعودية تحديدًا. فمن خصائص الجماعيين أنهم لا يجدون أيَّ تعارض بين حاجات الفرد وحاجات الجماعة، ويشدّون من أزر بعضهم البعض في كل موقف، مهما كان بسيطًا، من أجل تماسك الجماعة، كما أنهم يهبون هبة فرد واحد تجاه أي فكرة مضادة، أو مقالة معارضة. بينما الفردانيون لا يزالون في شكٍّ من أمرهم حتى حيال أفكار بعضهم البعض. وهذا ما يجعل الانتماء لجماعة أكثر إغراء وراحة نفسيَّة مقارنة بالفردانية. فهو باستمرار يجعلك كفرد تشعر بجدوى عملك وتوجهاتك. وهو في المقابل ما يجعل الفرداني على العكس من ذلك يُشكّك بكثير من أفكاره لمجرد أنها حصلت على مباركة الجماعة، فيخشى -كرد فعل طبيعي لمثله- أن يكون قد وقع في المحظور الأكبر، ألا وهو مباركة "القطيع"!
ولكن ماذا أيضًا، عن الجدل الضائع في تويتر السعودي؟ وماذا عن تخوين الأفراد المختلفين ومطالبتهم -ضمنًا وعلنًا- بالصدح بكل ما استحسنته الجماعة وإلاّ .. ! وماذا عن تطور الأمر لدى بعض الجماعات الثورية لمحاسبة الفرد على صمته أكثر من حديثه؟! بكل تأكيد هنا يصبح المرض الجماعي قد استفحل مهما كانت حداثة ما تعتقده هذه الجماعة، وما تدعو إليه من قيم الديمقراطية والعدالة والحرية.
لستُ مع تطرف الجماعة، كما أنني لست مع التطرف المضاد فردانيًّا، فالجماعة لا تحيا بلا فرد، والفرد لن يحيا بدون جماعة. ولكني في حالة الضغط والتأثير على الرأي العام - خصوصًا- مع التوازن في الأخذ والعطاء، ومع ضرورة الاعتراف بوجود مسافة بين الفضائين، الخاص والعام، بين حقوق الفرد (رجل، امرأة، طفل) كل على حدة ومجموع حقوق الجماعة.
وكذلك مع الاستمرار في نقد المسلمات الجماعية، وضد التخوف المبالغ فيه من كل ما هو جماعي، وكأن التفرد لا يكون إلا باتخاذ موقف مضاد ومخالف، ينسف به الفرد كل ما توافق عليه الآخرون ليعيد البناء وفقًا لتصوره الفردي، وبالمناسبة فإن هذا الموقف الفردي المخالف لا يخص الفردانيين فقط تجاه الجميع، بل يحدث –وبكثرة- من قبل أفراد تجاه جماعاتهم الضيقة أيضًا.
وهذا الأمر –تحديدًا- لا يصب في مصلحة الفردانية أو الجماعاتية بقدر ما يصب في مصلحة "الجدل الفارغ" الذي لا يسعى إلا لبناء مجد شخصي مُتوهَم، على أنقاض كل ما راكمه وأنتجه الأفراد والجماعات -معرفيًّا- لأزمان طويلة.