القائد المثالي: هل هو موجود ؟

القائد المثالي: هل هو موجود ؟

[caption id="attachment_55246043" align="aligncenter" width="620"]الحبيب بورقيبة و جمال عبد الناصر في قمة الخرطوم العام 1967.. نموذجان لزعيمين دافع كل عن فلسفته في الحكم والقيادة الحبيب بورقيبة و جمال عبد الناصر في قمة الخرطوم العام 1967.. نموذجان لزعيمين دافع كل عن فلسفته في الحكم والقيادة[/caption]





منذ عصر ازدهار الدويلات الإغريقية في الغرب وحتى العصر الحديث، سرى الإجماع على أن القضية تكمن في بناء نظام رشيد. في ظل هذا النظام، لن يستطيع أعتى الطغاة أن يسبب ضررا كبيرا.
في المقابل، في الشرق، كان، وما زال بدرجة ما، الافتراض بأن «المجتمع المثالي» محدد بالفعل إما وفقا للتقاليد القديمة، على سبيل المثال مذهب كونفوشيوس في الصين، أو بفضل العقيدة الدينية كما في حالة العالم الإسلامي. وفي كلتا الحالتين، اكتشف أجدادنا بالفعل المجتمع المثالي وكل ما نحتاج إليه هو العودة إلى عصرهم الذهبي. ونحن في حاجة إلى «قائد مثالي» يرشدنا في هذا الاتجاه.
يتضمن السعي إلى تحقيق مجتمع مثالي خلافات وانقسامات؛ حيث تتنافس آراء مختلفة في الدفاع عن نماذجها المختلفة. وهذا بدوره يستدعي وجود مساحة سياسية محددة لا يتم التعبير فيها عن الآراء المختلفة بشأن «المجتمع المثالي» من جانب ديني، مما لا يثير نزاعات وحروب دينية أو طائفية.



الصين والعالم الإسلامي





في الشرق، لم تكن توجد مساحة سياسية محددة حتى وقت قريب. وعلى الرغم من عدم وجود دين في الصين بالمعنى المتعارف عليه، فإنها حولت مذهب القدماء واتباع تقاليدهم ومبادئهم القديمة إلى ما يشبه العقيدة الدينية. ويعدّ أي انحراف عن الأنماط القائمة في المجتمع محل ارتياب وعداء. كانت هناك طريقة واحدة «صحيحة» لفعل أي شيء. وكانت النتيجة الضعف التاريخي الذي أدى إلى انهيار الصين المؤلم. كذلك يفتقد العالم الإسلامي إلى مساحة سياسية محددة. ونتيجة لذلك أصبح التعبير عن الخلافات السياسية، التي لا بد منها في أي مجتمع بشري، يتم فقط في ساحة دينية. يمكن أن يتهم أي شخص لا يوافق على السياسات القائمة بالهرطقة والكفر.

لا يستطيع المسلمون، مثل كل البشر، أن يعيشوا من دون سياسة؛ إذ ان الإنسان، كما أشار أرسطو، حيوان سياسي بطبيعته، بدلا من أن يكون اجتماعيا. الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع الاختلاف مع رفاقه حول الأشياء التي تتم في المساحة التي يتشاركون فيها. لذلك، في ظل عدم وجود المساحة السياسية والمصطلحات الضرورية لتعريفها والتعبير عنها، أصبحت المجتمعات الإسلامية تسيس الدين. على مدار التاريخ، اتخذت الصراعات على السلطة السياسية غطاء «الانقسامات الدينية»، وهو اتجاه مستمر حتى يومنا.
منذ القرن التاسع عشر، بدأ بعض المفكرين المسلمين في لفت الانتباه إلى الحاجة لوجود مساحة سياسية، يمكن في إطارها مناقشة الخلافات حول كيفية تنظيم المجتمع وإدارته من دون إثارة المشاعر الدينية.



أحلام الإصلاح





أحد هؤلاء المسلمين الأوائل الذين أثاروا هذه القضية هو جمال الدين الأسد أبادي، المعروف أيضا بالأفغاني، وهو مفكر إيراني درس المنهج الغربي في السياسة بعناية. ومن أجل الوصول إلى جمهور عريض في العالم الإسلامي، كان عليه أن يخفي أصوله الإيرانية، وبالتالي انتماءه الشيعي، حتى يبتعد عن الوقوع في شرك الريبة والكراهية الطائفية. وأصبح الأفغاني أحد مؤسسي المحافل الماسونية الأولى في إيران والإمبراطورية العثمانية.

ودون أن يدري، خاض جمال الدين موجة تغيير تاريخي. بعد ظهور الدول الإسلامية المقامة حديثا من تحت أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وبعد ذلك وطأة الحكم الاستعماري الأوروبي، اتفقت هذه الدول مع اعتقاد الأفغاني بأن الإسلام يجب أن يوفر مساحة سياسية محددة كجزء من برنامج إصلاحي أوسع نطاقا.
كما أعرب كثير من المفكرين الآخرين عن أفكار مشابهة، من بينهم ميرزا ملكم خان، وفتح علي أخوند زاده (فتالي أخوندوف) والأمير منوشهر ميرزا قاجار في إيران، وحركات مثل «تركيا الفتاة» في الإمبراطورية العثمانية وجمعيات الإصلاح الإسلامي في الهند الخاضعة للحكم البريطاني. وكانت هناك أيضا حركة إصلاح كبرى تعرف بالمجددين في المناطق الإسلامية من الإمبراطورية القيصرية في روسيا قادها رموز مثل عبد الرؤوف فطرت وأحمد دانش وصدر الدين عيني.

[caption id="attachment_55246045" align="alignleft" width="267"]كمال أتاتورك كمال أتاتورك[/caption]


سمح الظهور التدريجي للمساحة السياسية بنشأة جيل جديد من القادة السياسيين المسلمين الذين يسعون إلى إعادة تنظيم المجتمع من دون إثارة خلافات دينية. ومن المؤكد أنه لا يوجد قائد مسلم يستطيع أن يحقق أي شيء من دون الاعتراف بأن الإسلام هو نظام الاعتقاد الأوسع نطاقا في المجتمع. ولا يوجد مجتمع مسلم مستعد حتى الآن للاختيار، والأهم من ذلك اتباع قائد لا يملك خلفية إسلامية واضحة.
وهكذا يملك القائد المسلم الحديث مساحة ضيقة للغاية يمكنه فيها أن يحدد ذاته وأن يسعى إلى السلطة السياسية.
في إطار هذه المساحة الضيقة، وبعيدا عن الأنظمة الملكية التقليدية التي تملك قواعدها السياسية الخاصة، هل يستطيع المرء أن يرسم صورة للقائد المسلم «المثالي» في العصر الحديث؟



قادة وتحديات





واجه القائد السياسي المسلم في العصر الحديث ثلاثة تحديات رئيسة.
أولها التأكيد أو إعادة التأكيد على استقلال بلاده في عالم جديد من الدول القومية. منذ مائة عام، كان من بين 57 دولة تشكل العالم الإسلامي، هناك أربع دول تقريبا مستقلة. وحتى الدول التي كانت مستقلة شكليا مثل الإمبراطورية العثمانية وإيران، كانت تعاني من وطأة الديون الأجنبية، والمضايقات العسكرية الغربية وفقدان الثقة في الذات.

وكان التحدي الثاني هو تحديد المساحة السياسية الناشئة وحدود الخطاب والعمل السياسي. هل يتم التعامل مع بعض القضايا، مثل دور رجال الدين أو مكانة المرأة، بصفتها محظورات لا يمكن مطلقا أن تثار علنا؟ وقد فشل مؤتمر إسلامي ذو أهمية كبيرة عن الإصلاح، كان منعقدا في أوفا في روسيا القيصرية، عندما أثارت بعض الوفود قضية المساواة بين الرجل والمرأة في فرص التعليم، مستلهمين تعاليم إسماعيل أغا غاسبرينسكي. ما هي الآيديولوجيا الأجنبية، أو أي صورة منها، يجب أن يسمح لها بالدخول في المساحة السياسية الجديدة في الدول الإسلامية؟ كان هذا السؤال مهما أيضا بسبب الصعود والتوسع الحاد للآيديولوجيات الأوروبية مثل القومية والاشتراكية وبعد ذلك الشيوعية. تبنى بعض الزعماء، مثل عرابي باشا في مصر، ومصطفى كمال أتاتورك في الإمبراطورية العثمانية، ورضا خان بهلوي في إيران، القومية في مجملها لتكون آيديولوجيتهم. وفي مطلع القرن العشرين، كانت هناك أيضا أحزاب ديمقراطية اجتماعية في إيران والإمبراطورية العثمانية. وفي الإمبراطورية الروسية، أصبح بعض المثقفين المسلمين شيوعيين متحمسين، مثل سلطان عليف.

وكان التحدي الثالث هو بناء مؤسسات الدولة. أنشأت جميع المجتمعات الإسلامية عبر القرون نوعا من البيروقراطية تلبية للاحتياجات الإدارية الأساسية. ولكن هل تستطيع هذه الأنظمة البيروقراطية مواكبة طموحات الدول الحديثة الناشئة مع ميلها إلى التدخل في جميع مظاهر الحياة.



زعماء وسجلات





إذا حكمنا على كيفية تعامل القادة السياسيين في العصر الحديث مع التحديات الثلاثة التي تناولناها فيما سبق، سوف نجد أن سجلاتهم تقدم لنا عددا من المفاجآت.
من الذي برز في تحدي السعي إلى الاستقلال أو إعادة تأكيده؟
في مصر لدينا شخصية سعد زغلول، أحد تلاميذ الأفغاني، الذي أصبح رمزا للنضال المصري نحو الاستقلال. وعلى الرغم من قصر مدته في المنصب، وزير تعليم ووزير عدل ثم في النهاية رئيس وزراء، فإن السياسات التي ساعد على نشرها سادت الحياة العامة المصرية على مدار ثلاثة عقود تقريبا. ويمكن اعتبار استبدال اللغة الإنجليزية باللغة العربية كلغة التعليم في المدارس الحكومية، وإصلاح الأزهر، وإثارة قضية حقوق المرأة من إنجازاته الرئيسة.
وفي الهند تحت الحكم البريطاني، اعتبر محمد علي جناح الزعيم السياسي البارز في المجتمع الإسلامي في شبه القارة. ولكن لا يجب تجاهل نواب زاده لياقت علي خان الذي عمل وزيرا للدفاع ثم رئيسا للوزراء في باكستان عندما تأسست.

وفي إندونيسيا، يعدّ أحمد سوكارنو «بطل» حركة الاستقلال والرجل الذي جمع ما يزيد على 17000 جزيرة من أجل إقامة أكبر دولة مسلمة تعدادا في العالم.
وفي تونس، أصبح الحبيب بورقيبة، المحامي الذي تلقى تعليمه في فرنسا، أبو الاستقلال بلا منازع. وكان إنجازه المميز هو الخروج ببلاده من تحت وطأة الاستعمار من دون صراع مسلح مكلف كما حدث في الجزائر، التي ظهر بها أحمد بن بلا كرمز لإقامة دولة قومية.
وفي المغرب، كان القائد السياسي الذي ارتبط اسمه بالنضال من أجل الاستقلال هو محمد علال الفاسي الذي استعد في مرحلة ما لحمل السلاح من أجل محاربة الفرنسيين.
وفي مالايا، التي أصبحت ماليزيا فيما بعد، قاد تونكو عبد الرحمن فوترا الحاج بلاده إلى الاستقلال عن الاستعمار البريطاني.


[caption id="attachment_55246046" align="alignleft" width="238"]مهاتير محمد مهاتير محمد[/caption]

وفي بنغلاديش، يظل الشيخ مجيب الرحمن قائدا بلا منازع للحركة التي حولت شرق باكستان إلى دولة مستقلة للمسلمين في شرق البنغال.
وفي إيران، لم يكن الصراع على الاستقلال نظرا لأن البلاد لم تكن محتلة من قوى استعمارية. ولكن على مدار معظم القرنين التاسع عشر والعشرين، كان الاستقلال لا يزيد عن كونه مجرد ظل. لذلك كانت هناك حاجة إلى الصمود وإعادة تأكيد سيادة الدولة واستعادة ثقتها. وقد بذل أبناء العمومة أحمد قوام ومحمد مصدق أكثر من غيرهما من أجل تحقيق هذه الأهداف. عندما كان قوام رئيسا للوزراء في الأربعينات من القرن الماضي، استطاع التفاوض من أجل إجلاء الاحتلال السوفياتي الذي يؤثر على الأقاليم الواقعة في شمال غربي إيران. وفي الخمسينات، كان الدور على مصدق ليعزز القومية الإيرانية بتأميم موارد النفط الإيرانية ومواجهة المضايقات البريطانية.



مشاركة شعبية





حاول معظم الزعماء المذكورين فيما سبق أيضا مواجهة التحدي الثاني الذي يكمن في تحديد المساحة السياسية الناشئة حديثا. أثار ذلك التعريف درجة المشاركة الشعبية في صناعة القرار. وفي هذا الإطار، لا يمكن وصف أي زعيم بالديمقراطي الحقيقي. بيد أن جميعهم تقريبا حاولوا أن يقللوا من الجوانب الاستبدادية التقليدية في الثقافة السياسية لدولهم. لم يكن جناح ولياقت علي ديمقراطيين بالمعنى المعتاد، كما لم يتصرفا مثل النواب والشاه والمهراجا الذين كانوا يحكمون شبه القارة في عصر ما قبل الاستعمار.

في البداية نصب ذو الفقار علي بوتو من نفسه بطل التحول الديمقراطي في باكستان، ونجح إلى حد ما في توسعة القاعدة الشعبية في بلاده بالتودد إلى الجماهير الفقيرة والمضطهدة.
وعلى الرغم من أن تونكو عبد الرحمن تلقى تعليمه في بريطانيا، فإنه يصعب وصفه بالديمقراطي أيضا. ولكنه أدرك هو الآخر أن دولة متعددة العرقيات والأديان مثل ماليزيا لا تستطيع العمل دون درجة من المشاركة الشعبية في صناعة القرار. ماذا عن بورقيبة؟ من المؤكد أنه لم يكن ديمقراطيا، ولكنه أيضا لم يسع إلى العودة إلى الوراء بأن يحكم مثل الباي العثماني.

وفي إيران، أدمن قوام ومصدق، على الرغم من كونهما مستبدين بالطبيعة والخلفية العائلية، اللعبة السياسية، بصورها المختلفة، التي تتطلب بعض المشاركة على الأقل من النخبة.
ولكن فيما يتعلق بتعريف وترسيخ مساحة سياسية جديدة، حقق زعيمان نجاحا بارزا. أحدهما هو عدنان مندريس، الذي نجح عندما كان رئيسا للوزراء في إدخال جماهير الفلاحين الأتراك في النظام السياسي. ومع احترامه للإطار العلماني الذي وضعه أتاتورك للدولة، حاول أن يقلل من الجوانب المعارضة للدين لدى الجيش.

وعلى نطاق أكثر اعتدالا في أفغانستان، حاول محمد موسى شفيق أيضا أن يوسع من قاعدة الدولة، وعندما كان رئيسا للوزراء شجع على حرية الصحافة وحاول أن يمنح الشعب فرصة أكبر للمشاركة في صناعة القرار من خلال هيئات شعبية تقليدية وحديثة. وفي ماليزيا، عمل تونكو عبد الرازق على تعزيز النظام التعددي ليكون جزءا لا يتجزأ من برنامج طموح يستهدف التحديث السياسي والاقتصادي.
يستحق بورقيبة التقدير على إنجازه الوحيد في منع تونس من السقوط تحت وطأة الحكم الأمني العسكري لمدة ثلاثة عقود. وظلت تونس لمدة طويلة من بين كثير من الدول العربية غير التقليدية التي لا تخضع لحاكم عسكري. وحتى بعد ذلك عندما استولى زين العابدين بن علي ضابط الشرطة على الحكم، إثر انقلاب عسكري على بورقيبة، لم يكن يحظى بقاعدة له بين صفوف الجيش، وهي الحقيقة التي اتضحت بعد أن رفضت القوات المسلحة مساندته ضد الانتفاضة الشعبية التي اندلعت ضده.

ولكن يظل تورغوت أوزال، الذي كان رئيس وزراء ثم رئيسا لتركيا، أبرز نموذج بين القادة المسلمين المعاصرين بفضل جهوده في توسعة نطاق المساحة السياسية الجديدة وتدعيمها. أصبح أوزال أول رئيس غير عسكري في تركيا، واستطاع أن يخرج بلاده من دائرة الأزمات المفرغة التي تخللتها انقلابات عسكرية.



مؤسسات الدولة الجديدة





ماذا عن التحدي الثالث، بناء مؤسسات الدولة؟
من جديد، قليل من القادة المذكورين استطاعوا اجتياز هذا التحدي. من بينهم مندريس وبورقيبة وعبد الرازق وأوزال. وفي مصر، لا يمكن تجاهل إنجازات محمود فهمي (النقراشي باشا)، الذي استطاع في فترة قصيرة للغاية أن يقيم مؤسسات الدولة الحديثة. فرض النقراشي باشا نظام الضرائب على الطريقة الغربية، وأنشأ المستشفيات في بعض المناطق الريفية وأسس بنكا لتمويل الصناعة وطبق أول قانون مدني حديث في البلاد.

وفي إيران، يستحق رئيس الوزراء أمير عباس هويدا الذي مكث في منصبه لفترة طويلة أكثر من إشادة. طوال ما يقرب من 13 عاما، حقق هويدا نموا اقتصاديا غير مسبوق ودعم مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى تحقيق نظام رخاء اجتماعي طموح. كما عمل على تحديث النظام البيروقراطي الذي يرجع إلى 500 عام في إيران وقدم برنامجا شاملا للإصلاح في قضايا شائكة مثل مكانة المرأة.
كما يجدر بنا تذكر بوتو في باكستان، حيث ورث دولة هشة مزقتها حرب عام 1971 مع الهند وانفصال شرق باكستان. ولكنه في غضون أعوام قليلة نجح في جمع شتات بلاده ليسلم دولة ذات فعالية إلى من خلفوه.

[caption id="attachment_55246049" align="alignleft" width="220"]سوهارتو سوهارتو[/caption]


في مواجهة التحدي الثالث، نجح مهاتير محمد في فترة رئاسته لوزراء ماليزيا. تمكنت ماليزيا تحت قيادته من تعزيز مكانتها كقوة صناعية ذات مؤسسات إدارية وقانونية تنعم بها الدول الحديثة.
وفي العراق، على الرغم من قصر مدة توليه رئاسة الوزراء، كان عبد الرحمن البزاز أول رئيس وزراء عراقي غير عسكري منذ تحول العراق إلى جمهورية. حاول البزاز ترسيخ سلطة القانون بينما يعمل على تحرير النظام الاقتصادي تحت اسم «الاشتراكية الحذرة». كما أنهى أيضا الصراع مع الأقلية العرقية من خلال الوصول إلى اتفاق مكون من 12 نقطة يعترف بتعدد العرقيات في العراق.
ولا يمكن نسيان سوهارتو، الجنرال الذي حكم إندونيسيا لمدة 31 عاما، حيث كان الزعيم الذي أخرج بلاده من حرب أهلية دموية في حين كان يبني مؤسسات الدولة التي لم تكن موجودة تقريبا.
وعلى الرغم من أن سوهارتو في بدايته كان يبدو نموذجا لديكتاتور عسكري من العالم الثالث، فإنه عمل كزعيم سياسي بدلا من أن يكون حاكما مستبدا.

وهنا يجدر بنا أن نذكر رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا الذي أصبح صاحب أطول مدة في المنصب، على الرغم من الشكوك الأولية من جميع الأوساط. في خلال عشر سنوات من القيادة، استطاع تقديم برنامج إصلاح يتسم بأنه الأكثر طموحا في تركيا منذ تأسيس الجمهورية في العشرينات من القرن الماضي. وفي هذا الصدد يمكن اعتبار أردوغان الوريث السياسي الحقيقي لأوزال على الرغم من أن الرجلين تربيا في وسطين آيديولوجيين مختلفين.



أخطاء القيادة





عندما يتعلق الأمر بمنح وسام، يظهر لنا لأسباب مختلفة أن كثيرا من القادة المسلمين في العصر الحديث فاشلون.
السبب الأول هو العنف الاستثنائي في الحياة السياسية في العالم الإسلامي. ففي هذه المنطقة، تتجاوز المخاطر التي تحدق بالزعيم السياسي مجرد خسارة انتخابات أو الطرد من معسكره. أحيانا ما يواجه الزعيم السياسي النفي أو الاعتقال أو حتى الموت. وتطول قائمة القادة السياسيين المسلمين الذين تم اغتيالهم أو إعدامهم على يد أعدائهم بما لا يسع ذكره في هذا المقال. ولكن من بينهم: لياقت علي في باكستان، والنقراشي باشا في مصر، وبوتو وابنته بي نظير بوتو في باكستان، وضياء الحق في باكستان، وموسى شفيق ومحمد داود في أفغانستان، ومجيب الرحمن وضياء الرحمن في بنغلاديش، ومحمد بوضياف في الجزائر. وفي إيران وحدها، في ثلاثة عقود، اغتيل أربعة رؤساء وزراء هم عبد الحسين هزير، وحاجي علي رزم آرا، وحسن علي منصور وأمير عباس هويدا.

وربما يواجه القادة السياسيون الذين ينجحون في الهرب من الموت مشاكل أخرى. أولها الإصابة بالغرور. حاول عدد قليل من الزعماء المسلمين في العصر الحديث الهروب من طبيعة ثقافتهم التي يرسخ فيها الاستبداد. على سبيل المثال، في بداية مشواره كان سعد زغلول بطل الدفاع عن الحرية، وسريعا ما أطلق على ذاته «زعيم الأمة» ليصبح فوق برج عالٍ يتطلع إلى الأسفل لرؤية تابعيه. وكان مصدق يحب أن يطلق عليه اسم «بيشوا»، وهي الكلمة الفارسية المقابلة لكلمة فرير الألمانية. وفي آخر عام له في رئاسة الوزراء، تأثر مصدق كثيرا بجنون العظمة لدرجة أنه رفض عقد اجتماع واحد كامل لمجلس وزرائه. وكان يعتقد أنه نظرا لكونه الأكثر ذكاء ووطنية وإخلاصا بين جميع الإيرانيين، فهو لا يحتاج إلى أي شخص ليتم «مهمته التاريخية».
وفي أثناء وجوده في الحكم، اتخذ تونكو عبد الرحمن لذاته لقب «بابا ماليزيا». ولكنه عندما تقاعد في السبعينات من القرن الماضي، كان يتقبل المزاح بشأن ذلك. وصرح لي في إحدى المرات قائلا: «أعترف بأنني أب لبعض الماليزيين».

ولم يكن بورقيبة ليقبل بأي شيء أقل من أن يطلق عليه «المجاهد الأكبر». قمت ذات مرة بزيارته في قصره بقرطاج، واصطحبني في جولة استمرت أكثر من ساعة لمشاهدة الصور واللوحات التي تسرد قصة «حياته البطولية». وقال متباهيا فيما يشبه الدعابة: «لولاي لما كانت هناك تونس».
وقبل عام من إسقاط بوتو وإعدامه، كان الزعيم الباكستاني يفكر في «أعوامه العشرين المقبلة» كقائد لمصير باكستان. وكان «أسفه الوحيد» هو عدم وجود أشخاص يملكون قدرة كبيرة لمساعدته على بناء مستقبل عظيم لباكستان.
بمساعدة التابعين ولاعقي الأحذية المحترفين، يتأثر الزعيم بجنون العظمة، حتى يقتنع بأنه وحده الأكثر حكمة وبطولة وذكاء وإخلاصا من الجميع. ويجب أن يفوز في جميع المناقشات وينتصر في كل معركة، حتى أكثرها تفاهة. عندما يفقد القائد الشعور بنسبية الأمور، ينسى أن السياسة مثل الحياة لا تستحق أن يخوض المرء جميع معاركها.

في حشد انتخابي في وهران، ثار غضب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، عندما قام شاب من الحضور ليشكو من عدم عثوره على عمل رغم أنه خريج جامعة.
سأله الرئيس: ما هي دراستك؟
أجاب الشاب: الشؤون الدولية.
رد الرئيس: حسنا! أخبرني ما هي عاصمة مانغوليا؟
عندما أجاب الشاب أنه لا يعرف، انفرجت أسارير الرئيس شعورا بالانتصار.
وصاح في مكبر الصوت: أرأيتم إنه لا يعرف أن عاصمة مانغوليا هي أولان باتور.
وضحك الجميع في حين امتقع لون الشاب.

يمكن أن تصبح قصة سقوط مهاتير محمد في هاوية الغرور موضوعا لقصة إغريقية مأساوية. كان على خليفته المختار أنور إبراهيم أن يدفع الثمن بعد أن أطلقت عليه وسائل الإعلام الغربية «مهندس المعجزة الاقتصادية في ماليزيا». وكان يجب سحق إبراهيم ليس فقط سياسيا ولكن إنسانيا أيضا. بعد تقاعده، حاول مهاتير محمد أن يقدم ذاته كفيلسوف ومؤرخ بإطلاق تصريحات قليلا ما يكون صاحبها. يذكر عزم مهاتير محمد على تدمير إبراهيم كراهية بورقيبة المرضية لوريثه المختار أحمد بن صالح.


[caption id="attachment_55246051" align="alignleft" width="220"]رجب طيب أردوغان رجب طيب أردوغان[/caption]



أحد الأخطار الأخرى التي يواجهها كثير من الزعماء تتعلق أيضا بالغرور، فهم يرغبون في اكتساب الشعبية بأي ثمن حتى عندما تكون هناك حاجة إلى اتخاذ قرارات لا تحظى بشعبية. كان مصدق يفضل الموت على أن تطلق الجماهير ضده صيحات عدائية، لذا كان أحيانا ما يرتكب أخطاء سياسية كبرى. ولم يسلم سياسي متزن مثل هويدا من فتنة الشعوبية. عندما كنت أنقل أخبار إحدى حملاته الانتخابية في السبعينات، فوجئت باستخدامه المتكرر لموضوعات تتعلق بكراهية الأجانب للحصول على تهليل الجماهير.



مخاطر الفساد





وكما هو الحال دائما، يبقى الفساد تهديدا آخر يواجه كثير من الزعماء. في الأعوام الأخيرة، دار كثير من الجدل حول «الفصل بين السياسة والدين» في الدول المسلمة. ولكن ربما تكون الحاجة إلى الفصل بين السياسة والعمل التجاري أكثر إلحاحا. حتى عندما لا يكون الزعيم شخصيا متورطا في ممارسات فساد، أحيانا ما ينتهي به الحال كمحور أساسي في لعبة استغلال النفوذ والمحسوبية والتحيز الحزبي وحتى سوء استغلال المال العام.
من المؤكد أن هويدا شخصيا لم يكن مستفيدا من ممارسات الفساد. وفي الوقت الذي قتل فيه على يد الخميني، كان يملك فقط شقة مكونة من غرفتين بعقد إيجار لمدة 20 عاما. ولكن كان هناك تصور بأن فترة رئاسته للوزراء سمحت بانتشار الفساد على نطاق واسع.

وكان بورقيبة أيضا غير فاسد بشخصه، ولكن ماذا عن زوجته الطموح وسيلة وابنه المندفع حبيب الابن؟ كذلك لم يكن أوزال متورطا في أي صفقات فاسدة، ولكن ماذا عن حاشيته وبخاصة شقيقه وبعض الشخصيات البارزة في حزبه الوطن الأم؟
وفي مفارقة، يمكن أن يقبل المسلمون الصفح عن زعيمهم إذا ارتكب أي خطيئة أو فشل، وإن كان هزيمة نكراء في الحرب، ولكنهم نادرا ما يسامحونه على فساده.

وأخيرا، ربما ينتهي الحال بالقائد إلى الفشل بسبب سوء التوقيت. يبلغ موعد مغادرة السلطة في الوقت المناسب أهمية بالغة تتساوى مع موعد وصوله إليها عندما تسنح الفرصة. تخيل لو تنحى مصدق عن الحكم في عام 1952 بعد تطبيق قانون تأميم النفط. ولو تنحى بورقيبة في عام 1983 لكان ترك وراءه قصة مختلفة. بعد هذه الفترة بدا مثل المطرب الذي قدم أغنيته ولاقى استحسان الجمهور وتصفيقه، ولكنه رفض النزول من فوق خشبة المسرح.
ينتهي الحال بالقائد الذي يتمسك بالسلطة لمدة طويلة بعد أن حقق دوره التاريخي بمعاناة الملل أو السخرية. قبل نهاية فترة رئاسته للوزراء، استسلم هويدا إلى هذه السخرية التي كانت في بعض الأحيان تفوق احتماله. في اجتماعاتنا الأسبوعية في صباح أيام الجمعة، كان يكرر: «ماذا بعد؟ ما التالي؟» وقبل وفاته المأساوية، أصيب مجيب الرحمن بالملل وهو ما اتضح في حديثي معه في أكثر من مناسبة.

وكان علال الفاسي يعلم أنه بمجرد انتهاء دوره كداعية للاستقلال، لن يكون حريصا على التمسك بالسلطة. وقد أخبرني ذات مرة أنه طلب منه قبول رئاسة الوزراء كإشارة على الوحدة الوطنية في غرب الصحراء الكبرى، قائلا: «فعلت ما أستطيع فعله».
قد يصاب الزعيم الذي يطيل البقاء في السلطة بميول استبدادية. على سبيل المثال، وصل زغلول إلى إصدار أوامر بشن حملة كبيرة لفرض الرقابة على الصحف وتشكيل جماعات إنفاذ القانون لترويع خصومه السياسيين. وحل مصدق البرلمان وأعلن الأحكام العرفية وعرض مكافأة لمن يعتقل خصومه السياسيين. وقبل وفاته بفترة، استسلم بوتو إلى ميوله الاستبدادية.
في بعض الأحيان قد يكلف عدم معرفة بالموعد المناسب للاعتزال حياة القائد ذاته. قبل عام من اغتيال بي نظير بوتو، دعوتها إلى الإفطار في فندق في واشنطن العاصمة، لأشجعها على الترشح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة. وكان ذلك دور آسيا لتولي المنصب، وكانت بي نظير، السيدة المسلمة التي تملك خبرة سياسية واسعة وتتحدث عدة لغات، مرشحة مثالية.

انتهى لقاؤنا بتأكيدها أنها لا ترغب سوى في أن تصبح رئيسة لوزراء باكستان لفترة ثالثة لتسجل بذلك رقما قياسيا. وبعد عام بدا أنها سوف تحقق هذا الهدف، ولكن القدر لم يحقق لها ما تريد.
أما أوزال، فقد نجا من هذا المصير السياسي بوفاته المفاجئة. هل كان هو الآخر سيبقى في منصبه لمدة طويلة بعد إتمام مهمته التاريخية؟ لا أحد يدري. ولكن من خلال معرفتي به على مدار أعوام، أعتقد أنه كان سيتصرف على نحو مختلف.
قضى العديد من الرجال وبعض السيدات أعواما يشكلون نماذج مختلفة للقائد المسلم الحديث. وعلى الرغم من أن جهودهم لم تذهب هباء، يجب اعتبار عملية تشكيل النموذج المثالي لم تنته بعد.
font change