الجيش والشعب المصري.. من عرابي إلى السيسي

الجيش والشعب المصري.. من عرابي إلى السيسي

[caption id="attachment_55247092" align="aligncenter" width="620"]لواء بالقوات المسلحة يمسح دموع متظاهر -28يناير2011 لواء بالقوات المسلحة يمسح دموع متظاهر -28يناير2011[/caption]

حين أصدر الجيش المصري في الأول من شهر يوليو (تموز) 2013 بيانا تضامن فيه مع مطالب المتظاهرين في يوم «التمرد» الشهير 30 يونيو (حزيران)، أمهل فيه القوى السياسية للوصول إلى حل يلبي مطالب الشعب المصري مهلة أقصاها 48 ساعة، وإلا فإن الجيش سيقدم خارطة طريق جديدة للشعب، ردت حركة «تمرد» مرحبة ببيان الجيش المصري، وقالت: «هذا هو جيش مصر، هذا هو جيش عرابي، وعبد الناصر، وسعد الدين الشاذلي».

نتذكر هنا، ومن هذه الكلمات الترحيبية الحارة من هذا البيان، تلك الورود والأهازيج التي قدمها ثوار 25 يناير (كانون الثاني) للجيش المصري، حين أصدر بيانه الأول، وقرر عزل الرئيس المصري حسني مبارك، وتقديم خارطة طريق جديدة للمرحلة المقبلة، خرجت فيها الجموع تحيي العسكر، وترحب بالجيش حامي الحصن والدرع الأخير لمصر ولشعبها.

ولكن هذه العلاقة لم تكن كذلك دائما، إنها تعوم بين المحبة والكره، بين المد والجزر، فالمتظاهرون الذين هتفوا من أجل الجيش المصري حين عزل مبارك خرجوا بعد بضعة أشهر يصرخون «يسقط يسقط حكم العسكر، يسقط حكم المشير»، فقرر قرر الرئيس المصري السابق محمد مرسي إقالة المشير طنطاوي، خرجت الهتافات ترحب بهذا القرار، إنه ينتزع مصر من حكم العسكر، إنه يحقق نتائج الثورة، ويعيد مصر جمهورية مدينة حديثة، لطالما هتف من أجلها النشطاء والثائرون «نريدها دولة مدينة، لا عسكرية».

لكن بعد سنة من حكم الإخوان «المدني» الذي سقط في الكثير من الأزمات والانشقاقات والصراعات بين القوى السياسية، خرج المتظاهرون في ثورة ثانية لم تتوانَ أبدا أن تنسى خلافها مع العسكر وترحب وتهتف بحرارة لوزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الذي قرر استجابة لمطالب المتظاهرين عزل الرئيس محمد مرسي.

ما الذي يحدث؟ هل هي دائرة مفرغة يدور فيها الشعب المصري في علاقته مع الجيش؟ يلتف حوله حين تشتد الأزمات، ويصل إلى طريق مسدود، ثم بعد ذلك ينفض منه ويطالب بإسقاطه، ثم بعد ذلك ينسى أو يتناسى ويعود إليه مناشدا ملتفا مترجيا مطالبا؟
علاقة الشعب المصري بالجيش علاقة وجدانية معقدة عميقة، لها جذورها التاريخية التي لم ترتبط بحماية شؤون الداخل فقط، لكنها حملت في ذكراها قصص الاستقلال والمقاومة، وصد الدخيل الأجنبي.

[caption id="attachment_55247094" align="alignleft" width="250"]احمد عرابي احمد عرابي[/caption]



[blockquote]كانت ثورة عرابي جذوة حية في الذاكرة المصرية.. تعكس اللحظة التي تشكلت فيها صورة الجيش المنحاز لرغبات الشعب ضد السلطة الحاكمة[/blockquote]





لحظة عرابي





في تلك اللحظة التي وقف فيها الزعيم المصري أحمد عرابي (1841 - 1911) أمام الخديو توفيق عام 1881، قائلا: «لقد خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نورث، ولا نستعبد بعد اليوم».

كانت لحظة فارقة في الوجدان المصري، حيث التف الناس حول هذا الشخص الذي بدأ يصدح بمطالبهم ويقف أمام مظالم الحكام الأتراك والشركس، ويتلمس أحوالهم الاقتصادية، ويعد العدة لمواجهة التدخل الأجنبي القادم من فرنسا وإنجلترا على السواء، أدت المواجهات بين عرابي والخديوي توفيق إلى قيام الثورة العرابية، أو ما عرف حينها بـ«هوجة عرابي»، الذي كان يتقلد منصب «ناظر الجهادية» بما يماثل وزير الدفاع اليوم، ومنذ تلك اللحظة والنهج الذي رسخه عرابي في الضمير المصري أصبح ينظر إلى الجيش المصري وقادته كمرجع وملاذ يمثل مطالب الشعب وينحاز إليها ضد السلطة الحاكمة.

رضخ توفيق لمطالب عرابي في بداية الأمر حين رأى التفات الشعب حوله، وعزل قيادات الشرطة التي كانت تستبد بالشعب، لكن التدخل الإنجليزي ساهم في انهيار الثورة العرابية وتفتتها، ونفي زعيمها إلى سيلان.

كانت ثورة عرابي - على الرغم من فشلها - جذوة حية في الذاكرة المصرية، يتم استحضارها في كل لحظة وطنية تريد استعادة القرار والسلطة إلى الشعب.. يتحدث الكاتب المصري طارق الشيخ في مقال له بعنوان «مصر.. من عرابي إلى السيسي» قائلا: «بيان القوات المسلحة الذي أذيع يوم 1 يوليو وأكد على أن القوات المسلحة المصرية طرف رئيسي في معادلة المستقبل وتتحمل بمسؤوليتها الوطنية والتاريخية في حماية أمن وسلامة الوطن، ذكرتني بالعبارات التي قالها الزعيم أحمد عرابي للخديوي توفيق وقناصل الدول الأجنبية في عابدين حينما أشار إلى أن الأهالي (جماهير الشعب) أقاموه نائبا عنهم في عرض طلباتهم وتنفيذها بواسطة القوات التابعة له والذين هم إخوانهم وأولادهم. فالجنود هم القوة التي تنفذ بها مطالب أبناء الشعب الذين أنابوه عنهم في طلب حقوقهم مؤكدا أنه لن يغادر الميدان حتى تنفذ المطالب».

يشير الكاتب الشيخ إلى أن هذا الموقف يتكرر في الحالة المصرية، حيث قام به الرؤساء الراحلون محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات، ويتكرر أيضا حينما تولى الجيش تنفيذ إرادة الشعب في فبراير (شباط) 2011، وقام بعزل الرئيس حسني مبارك،، وأخيرا الفريق أول عبد الفتاح السيسي في يوليو 2013 الذي تحمل باقتدار إرادة الشعب، وقام بعزل الرئيس مرسي.

وفي جريدة «الوفد»، قبيل مظاهرات 30 يونيو، كتب عباس الطرابيلي، يقارن بين حركة «تمرد» وتمرد عرابي، مقالا بعنوان: «.. وعرابي كان متمردا»، قال فيه: «كان أحمد عرابي باشا فلاحا مصريا من محافظة الشرقية.. وقد يكون أول مصري صميم يصل إلى رتبة العسكرية في الجيش المصري، فعرابي هو الذي ابتدع الوقفات الميدانية الاحتجاجية.. وهو الذي قاد أول مظاهرة عسكرية مصرية ومعه رفقاء النضال في ميدان قصر عابدين... وأدت حركة تمرد عرابي (العسكرية) ونجاحها الأول إلى أن أصبحت المعبر الحقيقي عن أحلام الأمة المصرية.. بل تحولت من حركة تمرد عسكرية إلى حركة شعبية تمردية شملت الشعب المصري».



عرابي وثورة 25 يناير





وعرابي يحضر مرة أخرى في مقارنة سابقة بالطريقة ذاتها، حين عقدت ضمن فعاليات معرض الكتاب بالقاهرة سنة 2012 ندوة بعنوان «ما بين ثورة عرابي وثورة 25 يناير»، أكد فيها المشاركون أن أوجه التشابه كثيرة بين أول ثورة وطنية في مصر (عرابي) وثورة 25 يناير، وأن الثورة العرابية كما فعلت ثورة يناير استطاعت أن تجذب إليها فئات الشعب المصري الذي كان بعيدا تماما عما يجري، فشارك فيها الشباب والشيوخ والنساء والتف الجميع حول عرابي ورفقائه.. «وقد كانت الثورة العرابية هي بداية تاريخ نضالي من مقاومة الظلم والقهر والاحتلال».

وهكذا فكل طرف يتمسك بخيط «عرابي» ويجره إلى ناحيته، على الرغم من اختلاف وتضارب الاستشهادات فإنها تؤكد وتوضح كم كانت «لحظة عرابي» مرحلة فارقة في الذاكرة والخارطة والتاريخ، وتأسيس طبيعة علاقة الشعب بالجيش.


عرابي وعبدالناصر





الأمر ذاته تكرر من قبل من ثورة يوليو، ففي كتاب له يحلل ظروف وطبيعة ثورة عبد الناصر، كتب صلاح منتصر في مقدمة كتابه «من عرابي إلى عبد الناصر.. قراءة جديدة للتاريخ» قال فيها: «لقد وجدت من الضروري حتى يفهم أي شاب أسرار ثورة يوليو، أن يتعمق في تاريخها وجذورها، إنها تعود إلى تلك اللحظة التي رفع فيها أول فلاح مصري فأسه ليحفر قناة السويس، في أول لحظة بدأت المطامع الأجنبية توجه أنظارها نحو مصر، في تلك اللحظة التي وقف فيها عرابي بثورته ضد كل الطامعين والمنتفعين، ومنذ ذلك التاريخ بدأت مسيرة مصر في بحثها عن استقلالها وحريتها.. فأكمل مشوارها وحمل رايتها عبد الناصر في ثورته ضد الظلم والإقطاع».

[blockquote]حين تصل القوى السياسية إلى طرق مسدود على حافة الصدام والانهيار، يمثل الجيش صمام الأمان والملاذ، لكنه ما يلبث أن يتحول إلى مشكلة وأزمة أخرى[/blockquote]


وهكذا مع عبد الناصر يتجدد مشهد القائد العسكري الذي يقوم بانقلاب يلتف حوله الناس، ويهتفون باسمه، وهو يتلمس مطالبهم وينحاز لرغباتهم، ويهتف في خطبه باسم الشعب، يتحدث سامح عاشور رئيس الحزب الناصري، في ذكرى ثورة يوليو قائلا: «إنه رغم مرور 60 عاما على ثورة 23 يوليو فإن أغلبية المصرين ما زالوا يقدرون هذا الحدث المهم الذي يعد امتدادا لثورة عرابي».

ولكن إجماع البدايات مع هذا الزعيم العسكري يتحول مع مرور الوقت إلى صراع ومواجهة في كل مرة، يتذمر الشعب ويشتكي من تلك اللحظة التي شجع فيها هذا القائد، ويبحث من جديد عن وسيلة للخلاص من طوق النجاة الذي استعان به أولا، فكثير من المحللين والكتاب يرون أن «هوجة» عرابي التي أشادوا بها أولا وفرحوا كانت سببا في أن يقع الشعب المصري تحت الاستعمار الإنجليزي لمصر عام 1882 - وإن بغير قصد - أما ثورة يوليو 1952 التي خرجت هتافات الجماهير باسم زعيمها عبد الناصر في يوم ثورته ويوم مماته فقد ساهمت في ترسيخ حكم العسكر الذي رزح الشعب المصري تحت وطأته قرابة الستين عاما وخرج ثائرا على منتجاتها في 25 يناير 2011، ولكن هذه الثورة ضد حكم العسكر أفرزت حكم الإخوان، واستبدل المصريون «مرسي» بـ«مبارك»، فخرجوا عليه بعد أقل من سنة له رافضين، وجدوا أنفسهم قد استبدلوا بمستبد عسكري آخر مدنيا، وعادت الحلقة المفرغة دورانها من جديد حين أعلن وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي بيانه في الثالث من يوليو 2013، مقررا استجابة لمطالب المتظاهرين عزل الرئيس محمد مرسي وبدء مرحلة انتقالية.. مرحلة لا ندري إلى أين ستتجه هذه المرة، هل ستكرر المشاهد كالمعتاد ويخرج الشعب الذي كان يهتف «يعيش جيش مصر العظيم»، ليقول كما كل مرة: «يسقط.. يسقط حكم العسكر»؟!



-
font change