
توثق أعمال هنجامة كلستان أربعة عقود من الحياة في إيران، حتى إنها تعتبر رائدة المصورات الإيرانيات. ولكن الأكثر تأثيرا في صورها هو تناولها لحياة المرأة في الفترة المؤدية للثورة الإسلامية عام 1979 وأثناءها وفي أعقابها.
تزوجت كلستان من المصور الصحافي كاوه كلستان الذي حاز الجوائز، ولقي مصرعه في شمال العراق أثناء مهمة عمل لصالح شبكة «بي بي سي» في عام 2003. أسست كلستان منذ ذلك الحين مؤسسة كاوه كلستان، المخصصة لمنح جوائز للمصورين الواعدين الذين يقدمون أفضل نموذج للعين الواعية والروح الجسورة التي تميز بها زوجها. في حديث إلى «المجلة» في الذكرى العاشرة لوفاة زوجها، تتحدث كلستان عن عملها والشعبية غير المسبوقة التي يحظى بها فن التصوير في إيران اليوم.
الحلم
صرحت كلستان عبر الهاتف من طهران قائلة: «منذ عدة ليال شاهدت حلما أنني ذاهبة لتغطية حدث مهم للغاية ولكن لم يكن لدي سوى فيلم واحد به 30 صورة، وكان علي أن أعد اللقطات التي آخذها بعناية. وشعرت بارتياح بالغ عندما استيقظت في الصباح وتذكرت أن لدي كاميرا رقمية!»
يعكس حلم كلستان القلق الواقعي والحدود العملية التي كانت موجودة في عصر التصوير الفيلمي، عندما كان على المصورين السفر بمجموعة من بكرات الأفلام، وكانوا يحتاجون أيضا إلى العودة بها سالمة إلى المعمل لمعالجتها. يجد معظم الصحافيين المواطنين في الشرق الأوسط اليوم صعوبة بالغة فيما يتعلق بهذه المخاوف، مقارنة بالسهولة والسرعة التي يستطيعون بها رفع صور الحرب والثورة التي التقطوها عبر الهاتف الجوال على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تحصل عليها قنوات الشبكات الإخبارية وتذيعها في جميع أنحاء العالم.
الجودة
كيف تنظر كلستان إلى هذا الانتشار الذي حدث مؤخرا للصور المهتزة قليلة الجودة؟ أجابت: «في الواقع، أصبح استخدام الهاتف هو الوسيلة الوحيدة لنقل أي نوع من الأخبار الآن (في المنطقة) لأن استخدام كاميرا احترافية يجعلك مستهدفا».
عندما اندلعت الحرب بين إيران والعراق في عام 1980، توجه زوج كلستان إلى منطقة الجبهة، حيث عمل على توثيق الذعر والمأساة الإنسانية لصالح عدد من وكالات الصور الدولية على مدار فترة الصراع التي استمرت ثمانية أعوام. حظيت صوره الرمزية المؤرقة بانتشار عالمي وحاز كاوه كلستان جائزة بوليتزر المرموقة بفضل عمله المتميز. في ذلك الوقت منعت هنجامة كلستان من مصاحبته في المهمة.
[caption id="attachment_55247716" align="alignleft" width="300"]

«في أثناء الحرب، لم تكن (السلطات الإيرانية) تسمح للنساء بالذهاب إلى الجبهة. وحتى بصفتي مصورة، حاولت كثيرا أن أذهب، ولكنهم لم يسمحوا لي. وقالوا إنه من الأفضل لي المكوث في المنزل وصنع المربى».
ولكن لم يمنع ذلك كلستان من الاقتراب من الأحداث قدر الإمكان، إذ سافرت إلى بلدة حدودية كانت تعاني من آثار الصراع. تقول كلستان: «كانت صديقة لي تقيم هناك وأردت التقاط صور للجنود وهم عائدون من الجبهة، كيف كانوا يبدون وكيف يؤثرون على أهل البلدة وما إلى ذلك. ولكن من المؤسف أنني في ذلك الوقت لم أكن أعمل لصالح أي مجلة ولم يكن لدي بطاقة هوية صحافية».
على أي حال منعت كلستان من الاستمرار في عملها وتمت مصادرة وتدمير صورها التي لم تحمض. تعترف كلستان قائلة: «ما زلت أحلم بهذه الصور». وعلى الرغم من هذه الانتكاسات، فإن كلستان كانت تعلم أنها تملك ميزة رئيسة تتفوق بها على قرنائها من الرجال: «في إيران، لا تسمح النساء عامة للرجال بالتقاط صور لهن، لذلك فكرت أنني كمصورة أمتلك فرصة جيدة لدخول منازلهن والتقاط صور للحياة اليومية».
ذهبت كلستان إلى القرى وسكانها، حيث نقلت البساطة القاسية في معيشتهم بصور باللونين الأبيض والأسود. هذه هي إيران القديمة، وبيوتها المصنوعة من الطين والحر الشديد والتقاليد الدينية: تقف الأمهات أمام عدسة الكاميرا في غرف معيشة واسعة خالية من الأثاث. ويحمل راعي أغنام حملا صغيرا ويحدق في الكاميرا، بينما يعكس وجهه الشاب قلقا مخيفا يتجاوز سنين عمره.
وفي صورة أخرى يجلس رجل عجوز مسترخيا على سجاد فارسي محتميا من أشعة الشمس الحارقة.
تتميز لقطات كلستان بالاتساع لدرجة الصور البانورامية في بعض الأحيان. وصممت الصور الشخصية بأسلوب يجعل من الصعب إضفاء طابع رومانسي على مظهر القرويين وفصلهم عن بيئتهم. نرى، على سبيل المثال، فتاة صغيرة جميلة لا يزيد عمرها على أربعة أعوام ممسكة بما يبدو وكأنه باقة من الزهور الذابلة، ولكنها تجلس في حفرة من الوحل وخلفها كومة من العصي والقمامة. في صورة أخرى، يحمل طفل حافي القدمين شقيقته الرضيعة أمام هيكل خزفي يرجع إلى ما قبل التاريخ. يعيش الناس هنا، ولكن تشير الأواني والحاويات الأخرى الموجودة إلى غياب المياه الجارية عن المكان. وفي سلسلة الصور التي جذبت كلستان إلى القرى في الإقليم الكردي في البلاد، يظهر مجموعة من الصبية ومعهم نبل في أرض عطشى تظهر فيها تربة محفورة وصخور وحصى، وتقف بقرة هزيلة ضعيفة في بؤس وكأنها فرد من المجموعة.
تسجيل الواقع
تتشبث كلستان برسالتها المتمثلة في تسجيل الواقع، والتي لا شك في أن كثيرا من الإيرانيين يتجاهلونها، فهي تقدم تناقضا صعبا بين الطفولة وحياة الأسرة والفقر المدقع في القرى. بيد أن هذه الصور تحمل فخامة تشير إلى شيء آخر: تتبنى النساء والأطفال أسلوبا يتسم بالسلاسة والارتياح حيث يمتلئون ثقة. لا تخف الأمهات الشابات شعورهن، ومن خلال ابتسامتهن نلاحظ فضولهن وإعجابهن بالمصورة الشابة التي تحمل الكاميرا وقطعت طريقا طويلا من طهران لتلتقط صورا لهن.
تسترجع كلستان ذكرياتها قائلة: «عندما بدأت التقاط الصور فيما بين عامي 1972 و1973، كان هناك عدد محدود للغاية من المصورات، وهن في الغالب زوجات مصورين. يمكنني القول إننا كنا أربع أو خمس مصورات تحديدا».
ولكن في أثناء أحداث الثورة، عندما نشرت صور مؤثرة في الصحف المحلية والعالمية، انتشر الاهتمام بهذا النوع من الفن. وتضيف: «استوعب الناس قوة الصورة وأهميتها».
أما اليوم، فقد تحول التصوير الفوتوغرافي إلى مجال يحظى بشعبية كبيرة بين الإيرانيين الشباب، وأصبحت مئات الإيرانيات يتخرجن في دورات التدريب على التصوير كل عام. كيف يختلف هذا الجيل مع جيل كلستان؟
تأسف كلستان قائلة: «أصبح التصوير الخبري والوثائقي منتهيا في الوقت الحالي. وأحد الأشياء التي تغيرت هي أن الأشخاص العاديين كانوا منفتحين أمام المصورين ويمكن أن يسمحوا لهم بالتقاط صور لأي شيء. ومن المؤسف أن هذا الأسلوب تغير ويقول لي المصورون الشباب إنهم يواجهون عداء شديدا إذا حاولوا العمل في الشارع».
يعكس هذا التحول الحذر الذي انتاب الإيرانيين القلقين من الوقوع في المشاكل بسبب التقاط صور لهم. وفي ذلك تناقض صارخ مع عام 1979، عندما كان المصورون يُعتبرون أصدقاء. وتذكر كلستان: «في أثناء الثورة، كنت إذا تعرضت للخطر (من شرطة الشاه)، كان الناس يساعدونني ويحمونني».
في ظل هذه الروح المتعاونة بين الناس في الشوارع ومن يحملون الكاميرات استطاعت كلستان تصوير مظاهرة ذات أهمية تاريخية فريدة. كان ذلك في 11 مارس (آذار) عام 1979، عندما خرجت سيدات في مسيرة في شوارع طهران احتجاجا على قرار الخميني بفرض ارتداء الشادور على جميع النساء في الأماكن العامة. وكان المثير للاهتمام هو وجود نساء في الصور يرتدين الحجاب، ولكن كما تشير كلستان: «لم يكن الأمر يتعلق بالدين، بل بالحرية وكانت السيدات اللاتي يرتدين الشادور اتباعا للدين أو التقاليد يعبرن عن تضامنهن معنا في الدفاع عن حقنا في حرية الاختيار».
وعلى الرغم من تأييد رجل الدين البارز محمود طالقاني الذي أرسل رجالا مسلحين من أجل حماية النساء، كانت نهاية المسيرة دموية حيث تعرضت المتظاهرات للضرب والطعن في الشوارع. وقع هذا في اليوم السابق على تنفيذ القانون الجديد، وهكذا توثق صور هنجامة آخر يوم صورت فيه النساء في الجمهورية الإسلامية دون حجاب. تشير كلستان إلى القيمة التاريخية لجميع الصور التي التقطتها في هذه الفترة بتواضع مثالي، وتقول: «هناك أحداث وقعت وكنت حاضرة فيها، مثل مظاهرات النساء». ولكنها اعترفت بعد التأكيد عليها: «لا يملك كثير من الناس صورا لهذا الحدث».
بغض النظر عن انحسار فن التصوير الخبري والوثائقي الاحترافي، ما زالت كلستان تنظر إلى الأمر بإيجابية. تؤكد كلستان على ازدهار صناعة المعارض، وافتتاح قاعات العرض، وتنظيم دورات تدريبية في الجامعات وانتشار إصدارات فن التصوير الفوتوغرافي. «ما زال التصوير أكثر حيوية مما كان عليه. يتسم الإيرانيون الشباب بالبراعة، فهم ينتجون أعمالا إبداعية مجردة في ورشهم يعبرون من خلالها عن أفكارهم، أو يصورون صناعة السجاد التقليدي والحرف الأخرى، وهم أحيانا يبيعون صورهم في الخارج حيث يجدون سوقا أوسع».
أما بالنسبة لها، لا تفارق كلستان كاميرتها الرقمية مطلقا، وتركز جهودها في الوقت الحالي من أجل نشر كاتالوغ ضخم لها. وتعمل أيضا على إصدار النسخة الفارسية من كتاب زوجها الراحل عن التصوير الفوتوغرافي: «كاوه كلستان: توثيق الحقيقة في إيران 1950 - 2003»، والذي يغطي فترة كبيرة من التغيرات في تاريخ إيران الحديث تضم الثورة الإسلامية وحرب إيران والعراق.
وعن الحلم الذي تحدثت عنه في بداية الحوار، يشعر المرء بالفضول بشأن ما إذا كانت كلستان تعتقد أن الواقع التكنولوجي في عصر جيلها عزز من مستوى المهارة والانضباط والحساسية بقدر لم يعد لازما في ظل الكاميرات الاحترافية الحديثة. تضحك كلستان وتعترف بأنها عندما تخبر الموهوبين من الشباب أنهم مصورون جيدون يقولون لها: «حسنا هذا ليس صعبا، فنحن نلتقط مئات الصور في كل موضوع ويجب أن يكون أحدها جيدا».