أمين الريحاني: فيلسوف الفريكة.. صديق الملك عبد العزيز

أمين الريحاني: فيلسوف الفريكة.. صديق الملك عبد العزيز

[caption id="attachment_55248010" align="aligncenter" width="620"]أمين الريحاني بالزي السعودي أمين الريحاني بالزي السعودي[/caption]

يستطيع الزائر لمتحف أمين الريحاني (1876-1940) أن يشعر بعبق الماضي، ويعود بالزمن إلى الوراء، لتحكي له كل قطعة موجودة فيه، وكل زاوية من زواياه عن قصص وحكايا جمعته بالريحاني. المتحف الذي تأسس عام 1953 قام بجمع مقتنياته شقيق الريحاني الأصغر "البرت" في مهمة استغرقت منه ما يقارب الأربعة عشر عامًا، احتوى إرث الريحاني على كتب وصور وتذكارات وغيرها.

يقع المتحف في ضيعة "الفريكة" بلبنان التي ولد فيها الريحاني والتي قال عنها في كتابه "الريحانيات" :"وادي الفريكة مهيب أكثر منه جميل، عميق ملتو ينحدر من قرية صغيرة ليغسل رجليه في نهر الكلب. هو صغير ولكنه كثير الزوايا والأسرار، يجمع بين الدلب الذي لا يعيش إلا بالقرب من الماء والصنوبر الذي يكتفى بمشاهدة البحر من أعالي الجبال. وفي الشتاء تنثر الطبيعة تحت قدميه أزاهر الدفلى، وتكلل رأسه في الربيع والصيف بأزاهر الوزال. ومع هذا الجلال والدلال تراه حاملاً على منكبيه كثيرًا من الأطواد التي تخضع صاغرة تحت قدمي صنين”.



فيلسوف الفريكة





ترك أمين الريحاني الملقب بـ "فيلسوف الفريكة" وهو اللقب الذي أطلقه عليه أبناء بلدته "الفريكة" إرثاً كبيرًا و متنوعًا من المؤلفات نجدها في متحفه، نذكر منها: "رباعيات أبي العلاء"، "الريحانيات" ، "كتاب خالد" -رواية- والذي أدرج في عداد البدايات الروائية الطليعية في الأدب العربي الحديث، إضافة إلى "زنبقة الغور"، "خارج الحريم"، و"نبذة عن الثورة الفرنسية"، "ملوك العرب"، "تاريخ نجد الحديث"، "قلب العراق"، "المغرب الأقصى" ،"قلب لبنان" ،"التطور والإصلاح"، "أنشودة المتصوفين"، "المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية"، "سجل التوبة"، "أنتم الشعراء"، "وفاء الزمان". وغيرها الكثير.

[caption id="attachment_55248011" align="alignleft" width="234"]أمين الريحاني عام 1939 أمين الريحاني عام 1939[/caption]

الريحاني الابن البكر لوالدين هما فارس وأنيسة ولإخوة وأخوات هم: سعدي، أسعد، يوسف، ادال والبرت. كان يجهل كل شيء عن بلاد العرب بسبب هجرته وكانت ثقافته غربية بحته يقول في مقدمة كتابه "ملوك العرب" :”كنت في الثانية عشرة من عمري عندما سافرت للمرة الأولى إلى الولايات المتحدة، فلم أكن أعرف غير اليسير من اللغتين العربية والفرنسية، وما كان في ذهني من العرب وأخبارهم غير ما كانت تُسمعه الأمهات في لبنان صغارهن. هس، جا البدوي! -والبدوي والأعرابي واحد إذا رامت الأم "بعبعا" تخوف به أولادها-. هجرت وطني وفي صدري الخوف ممن أتكلم لغتهم، والبغض لمن في عروقي شيء من دمهم. والبغض والخوف توأما الجهل".



من الولايات المتحدة إلى بلاد العرب





عاش الريحاني في فترة كان يكتب فيها تاريخ الأمم والشعوب العربية. استثنائيته وتفرده جعلت له مكانه خاصة ما بين ملوك ورؤساء العرب والغرب على حد سواء. فقلد اجتمع بهربرت هوفر رئيس الولايات المتحدة الحادي والثلاثون، وناقش معه العلاقات العربية- الأمريكية، وكذلك بالسير رامزي ماكدونالد، رئيس وزراء بريطانيا وأول رئيس وزراء من حزب العمل البريطاني. هذا على المستوى الغربي. أما على المستوى العربي فلقد قام برحلته الشهيرة إلى بلاد العرب عام 1922 والتي مكنته من التعرف على البلاد العربية بعد أن كان يجهل كل شيء عنها، وتمكن من خلالها من لقاء شريف مكة الحسين بن علي، وانتقل بعدها إلى لحج، واجتمع بسلطانها عبد الكريم فضل، ومن ثم إلى الحواشب، وفيها التقى بسلطانها علي بن مانع، ومن هناك ارتحل إلى صنعاء والتقى بإمامها يحيى حميد الدين، ثم إلى نجد حيث اجتمع بسلطانها عبد العزيز بن سعود، وبعدها حط رحاله في الكويت فزار شيخها أحمد الجابر آل الصباح، ومن ثم إلى البحرين، وفيها اجتمع إلى شيخها أحمد بن عيسى، وإلى بغداد حيث التقى بالملك فيصل الأول. هذا بالإضافة لزيارته لمصر والمغرب الأقصى. نتج عن هذه الزيارات إرث مهم من الكتب منها "ملوك العرب"، "تاريخ نجد الحديث"، "قلب العراق" ، "فيصل الأول".



في افتتاحية كتابه "ملوك العرب" يقول الريحاني "أعرف سادتي ملوك العرب بعضهم إلى بعض تعريفًا يتجاوز الرسميات والسطحيات، وغايتي تمهيد السبيل إلى التفاهم المؤسس على العلم والخير اليقين.. "فتعالوا اسبحوا معي إلى بلاد عجيبة على فقرها، إلى شعب كريم على آفاته، وإلى أمة حرة أبية على ذنوبها".

في شخصيته المميزة جمع الريحاني ثقافة الشرق والغرب هو الذي كانت أولى قراءاته لـ "وليام شكسبير وفيكتور هيغو"، أصبح شخصية عامة فكرية وقومية، وأدبية وسياسية، وإنسانية واجتماعية وبالإضافة إلى الألقاب التي حملها أصبح يعرف بالمصلح القومي "كما أطلق عليه الملك عبد العزيز آل سعود" حين قال فيه "أجد في المصلح القومي العظيم، صديقي أمين الريحاني اهتمامًا حقيقيًّا بالعرب وبوحدتهم، وأنا معجب إلى أبعد حد بأدبه وعلمه ووطنيته الصادقة".



رسائل مع الملك عبدالعزيز



[caption id="attachment_55248012" align="alignleft" width="208"]صورة تجمع أمين الريحاني والملك عبدالعزيز عام 1922 صورة تجمع أمين الريحاني والملك عبدالعزيز عام 1922[/caption]

يقول الريحاني : "الصداقة الحقيقية هي التي يشترك فيها العقل والقلب والضمير". وربما هذا كان سر قربه من الملوك والأمراء والرؤساء، وخصوصًا في صداقته مع الملك عبد العزيز آل سعود" توثقها الرسائل المتبادلة ما بينه وبين الملك، والتي تم جمعها لاحقًا في كتاب حمل اسم "الملك عبد العزيز آل سعود وأمين الريحاني: الرسائل المتبادلة" وهو أمر نادر الحصول ما بين أديب وبين ملك، فالمتعارف عليه هو تبادل الرسائل ما بين الملوك والرؤساء، وليس ما بين ملك وأديب. هذه الرسائل التي امتد تاريخها ما بين عقدين من الزمن كما يشير جامع هذا الرسائل، وهي الفترة ما بين نيسان/أبريل1922 وآذار/ مارس 1939 تكشف لنا عمق العلاقة ما بين الملك والأديب، وقربهما وصداقتهما الحقيقة التي لا تشوبها شائبة. وكذلك الوجه السياسي للرحالة أمين الريحاني، الذي كان لقاؤه الأول بالملك عبد العزيز في العقير، وفي وصف هذا اللقاء يقول: "وكانت المشاهدة الأولى على الرمل، تحت السماء والنجوم، وفي نور النيران المتّقدة حولنا.. كان يلبس ثوبًا أبيض، وعباءة بنية، وعقالاً مقصّبًا في كوفية من القطن حمراء، أين أبّهة الملوك وفخفخة السلطان؟.. إنك لا تجدها في نجد وسلطانها، وإن أول ما يملكه منه ابتسامة هي مغناطيس القلوب، لست أدري كيف حييته وأنا في دهشة وابتهاج من تلك المفاجأة الكبيرة. ولكني أذكر أنه حياني باسمًا بالسلام عليكم، وظل قابضًا على يدي حتى دخلنا الخيمة فجلس والكور إلى يمينه يستند إليه، والنار قبالته تنير وجهه".




في هذه الرسائل نستطيع أن نقرأ لغة الود والحنين ما بين الصديقين الريحاني والملك عبد العزيز الذي كان يخاطبه فيها بالصديق المخلص، الكريم، المكرم، كانت أولى هذه الرسائل رسالته التي يطلب فيها من الملك أن يزوره فكان رد الملك مرحبًا فقال: "كيف نرد من يبغي زيارتنا وهو من صميم العرب؟ قالوا إنك أمريكي جئت تنشر الدين المسيحي في البلاد العربية. وقالوا إنك تمثل بعض الشركات، وجئت تبغي الامتيازات، وقالوا إنك قادم من الحجاز وإنك شريفي تسعى لتحقيق دعوة الشريف. وقالوا غير ذلك. فقلنا إن كان في الرجل ما يضر فنحن نعرف كيف نتقيه، وإذا كان فيه ما ينفع فنحن نعرف أيضًا كيف ننتفع، ونحن أعلم يا حضرة الأستاذ بمهمتك.. بارك الله فيك".
وفي كتابة ملوك العرب كتب في وصف الملك عبد العزيز آل سعود "ها قد قابلت أمراء العرب كلهم فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل. لست مجازفًا أو مبالغًا فيما أقول، فهو حقًّا كبير: كبير في مصافحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظراته، وفي ضربه الأرض بعصاه. يفصح في أول جلسة عن فكره ولا يخشى أحدًا من الناس، بل يفشي سره، وما أشرف السر، سر رجل يعرف نفسه ويثق بعد الله بنفسه. (حنّا العرب) إن الرجل فيه أكبر من السلطان، وقد ساد قومه ولا شك بالمكارم لا بالألقاب". ويضيف: "جئت ابن سعود والقلب فارغ من البغض، ومن الحبّ، كما قلت له، فلا رأي الإنكليز، ولا رأي الحجاز، ولا الثناء، ولا المطاعن أثّرت فيّ، وها قد ملأ القلب، ملأه حبًّا في أول جلسة جلسناها.. إنّي سعيد لأنّي زرت ابن سعود بعدما زرتهم كلّهم، هو حقاً مسك الختام".



كتبوا عن الريحاني





كتب عن الريحاني ولا يزال الكثير من الكتاب والأدباء والمؤرخين، وذلك لأهمية تجربته ودوره نذكر من هذه الكتب (رجالات من بلاد العرب) لـ د. صالح زهر الدين، (أعلام نهضة العرب في القرن العشرين) لـ جميل عويدات، ـ (مجلة تاريخ العرب والعالم)، (موسوعة أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين)، ـ (أمين الريحاني) لـ عيسى ميخائيل سابا، (خمسة رواد يحاورون العصر) لـ محمد دكروب. وفيه كتب زكي نجيب محمود فقال:" كان الريحاني للأمة العربية ما كان طاغور للهند، وأمرسون وثوروا للولايات المتحدة، وجو لإنكلترا، وروسو لفرنسا".

[caption id="attachment_55248013" align="alignleft" width="255"]كتاب الرسائل المتبادلة بين الملك عبدالعزيز وأمين الريحاني كتاب الرسائل المتبادلة بين الملك عبدالعزيز وأمين الريحاني[/caption]

من أهم وصايا الريحاني قوله : "لم تكن حياتي حياة القديسين والأولياء، والحمد لله، ولا حياة أولي الثروة والسيادة، والحمد ثم الحمد لله؛ إن ما فاتني الحياة اللامعة غربته خلال الحياة الدامعة تأبطت كتاب الآلام ثلاثين سنة، حملت في جيبي كتاب الوحشة على الدوام، وحاولت أن أحرق كتاب الإثم، وأمزق كتاب الحاجة فأخفقت، وما استسلمت.. أوصى إليكم إخواني في الإنسانية: البيض والصفر والسود على السواء شرقًا وغربًا.. إن حق الشعب في تقرير مصيره لحق مقدس، فأوصيكم بالجهاد في سبيله، أينما كان. إن الأمة الصغيرة وهي على حق لأعظم من الأمة الكبيرة وهي على باطل. إن الأمة القوية الحرة لا تستحق حريتها وقوتها ما زال في العالم أمم مستضعفة مقيدة".


ربما يطول الحديث عن الأديب، والفيلسوف أمين الريحاني، وتتعدد الجوانب التي من خلالها نستطيع الإضاءة على حياة هذا الشاعر، الباحث، المؤرخ، الكاتب، الروائي، القصصي، المسرحي، الرحالة، السياسي، المربٍ، عالم آثار، الناقد، الخطيب، رسام كاركتير، الداعية إلى الإصلاح الاجتماعي، من عمالقة الأدب العربي، ورجال الفكر.. ولكن عزاءنا بالإرث الذي تركه للأجيال التي أتت من بعده لينهلوا من معين تاريخ حافل لهذه الشخصية الاستثنائية.

الريحاني -الذي حتى وفاته لم تكن عادية- استمر شغفه بالترحال واختاره رفيقًا له حتى في ساعة موته الأخيرة، توفي في الرابعة والستين من عمره في 13 أيلول عام 1940 حين سقط من على دراجته الهوائية التي يستقلها قرب منزله في الفريكة. لتذكرنا حادثه موته بمقولته الشهيرة "السير في شوارع المدن الكبرى يذكر الإنسان بالإنسان، وأما السير في الوادي أو الغاب فيذكر السائر بالخالق العظيم".
font change