عام جديد وقرارات تجديد؟ نعم.. ولكن على أساس سليم

عام جديد وقرارات تجديد؟ نعم.. ولكن على أساس سليم

[caption id="attachment_55249387" align="aligncenter" width="620"]بلغت تكلفة احتفال لندن ببدء سنة 2012 مليون و900 ألف جنيه استرليني بلغت تكلفة احتفال لندن ببدء سنة 2012 مليون و900 ألف جنيه استرليني[/caption]

بعد ليل صاخب بأشكال وألوان احتفالات شهدتها معظم أركان المعمورة، تباينت كلفتها (على سبيل المثال، بلغت تكلفة احتفال لندن ببدء سنة 2012 مليون و900 ألف جنيه استرليني)، وتعدَّدت بهرجتها، وتنافست عبر الآفاق في أيها سيُعتبَر الأجمل، أفاق العالم فجر اليوم (الأربعاء) على عام ميلادي جديد، يأمل أغلب الناس أن يأتي بأفضل مما رحل به، أو خلّفه وراءه، ذاك الذي مضى، وذلك أمر طبيعي، بل يصعب قبول أي سبب يحول دون تفاؤل المرء بحلول عام جديد. بالطبع، عوامل التشاؤم موجودة دائمًا، إنما الأمل هو الأصل في ما طُبِع عليه البشر: "تفاءلوا بالخير تجدوه".

على مستوى فردي يقرر كثيرون أن السنة الجديدة هي سنة تنفيذ كذا وكذا من خطوات تأجل تنفيذها طوال العام الراحل، أو منذ بضع سنين. ربما يكون ذلك في سياق قرارات من العيار الثقيل، كما في بيع المنزل والانتقال إلى آخر أوسع، أو أضيق – حسب الظروف – وربما تتعلق الخطوة بالعمل، سواء من حيث المكان، أو جهة الاستخدام، وربما الاستقالة من الوظيفة حتى قبل توفر بديل، أو الاستسلام لمتطلبات العمر، والتعايش مع وصول سن التقاعد، ثم البدء بتعويد النفس على كآبة ما بعد الإحالة إلى المعاش.

هناك أيضًا أمنيات تكون ساكنة في قرارة نفوس البعض منذ زمن، لكنها بقيت في حالة كُمون، ثم اتخذت شكل النيّات، حتى بلغت درجة القرارات، فعقد أصحابها العزم على تنفيذها هذا العام، وتلك عادة من العيار الثقيل كذلك، كما في حالة أبغض الحلال، سواء كان الزوج نوى الطلاق، أو أن الزوجة هي من بيّت نيّة الخلع، ومغادرة بيت الزوجية.
ثمة قرارات فردية تكون في العادة أقل وطأة من حيث تبعاتها مما سبق ذكره، كما في تبديل السيارة بغيرها، أو التخلص منها كليًّا، وكما في الإقلاع عن تدخين السيجارة أو الأرجيلة - حسناَ يفعل من يقرر ذلك ويلتزم به - أو إصرار رجال ونساء على أنها سنة تخفيف الوزن باتباع نظام حمية صارم، بينما على النقيض منهم ومنهن ربما يرى البعض أن الجسم بحاجة إلى بعض الشحوم، فيعلن أنه نوى الإكثار من تناول اللحوم، ولعل بين الآنسات والسيدات من ترى أن الوقت قد حان للتخلص من هزال عارضات الأزياء، ومبالغات رشاقتهن الزائدة عن اللازم، فإذا بالقرار الصادم لكل من تسمع به من الصديقات: وقف التمرينات ورفع الوزن.

كل ما سبق من أمثلة ما يوصف بقرارات السنة الجديدة، وغيرها مما يماثلها، أو يناقضها، يظل في حكم القفز نحو المجهول. وتلك حالة تنسجم مع طبيعة توق البشر لكل جديد، رغم أنها تصطدم بغريزة طبيعية أيضا هي التخوف من غير المعروف، وهذه كثيرًا ما تقعد المرء عند منعطف الكسل، فيفضل الوقوف على تقاطع الطرق، أسير وهم المثل الفاسد: "شيطان تعرفه خير من آخر لا تعرفه"، أما ذو العزم فيسير في طريق قد يخاطر بوضع مستقر اعتاده، لكنه يأمل تحقيق ما هو أفضل، ولو كانت نسبة القفز نحو المجهول تفوق احتمال بلوغ المأمول.

بيد أن ما يجوز على المستوى الفردي، لجهة المغامرة وركوب مخاطر القفز نحو المجهول، غير مقبول على مستوى الدول، وفي ما يخص مستقبل الشعوب. ربما بوسع الفرد أن يغامر في لحظة نزق بترك وظيفة قبل توفر فرصة عمل بديلة؛ فقط لأنه لم يعد يطيق متطلباتها، أو بعض عوامل استمراره في أدائها، مع علمه المسبق بما قد يترتب على خطوته من نتائج عليه أن يتحمّل تبعاتها، وربما ليس وحده، بل يدفع آخرون ثمنها معه، لكن الحكومات تتحسب في العادة لردود الفعل الغاضبة إزاء أي إجراء يُعرّض وظائف بضع مئات فقط من مواطنيها للضياع.

ذلك مجرد مثال بسيط، فما بالك بما هو أكثر تعقيدًا منه بكثير. مثلاً، هل يجوز أن تقرر حكومة ما أن ميزانية العام الجديد تقوم على ربط الأحزمة، وضغط الإنفاق العام من دون أن تدرس تأثير قرارها ذاك على متوسطي ومحدودي الدخل من عموم الناس؟ لست خبيرًا في الاقتصاد، لكنني سمعت وقرأت طوال عام مضى ما خلاصته أن تصحيح المسار الاقتصادي لأي مجتمع يتطلب أحيانًا من الإجراءات ما يوجع. قيل ذلك في شأن أزمات اليونان وقبرص والبرتغال، وغيرها، وهو قول لعله صحيح نظريًّا، لكن نتائج التطبيق العملي غالبًا ما تأتي كارثية من حيث تأثيرها على النسيج الاجتماعي، الأمر الذي يبرر المطالبة بعلاج أكثر إنسانية لكل وضع اقتصادي يحتاج المعالجة.

إذا كان هذا حدث ويحدث في دول لها منظومتها الاقتصادية والسياسية (الاتحاد الأوروبي) التي تتيح المسارعة للتدخل ومد يد العون، فكيف هو الحال مع شعوب العالم غير الصناعي، حيث تتراجع فرص العمل وترتفع نسبة الفقر؟! المشكلة هنا أكثر تعقيدًا، ويزيد من تعقيداتها تزايد حالات الفساد المالي المستفيدة من سوء الإدارة وغياب الشفافية، وربما انعدام مبدأ المساءلة. ترى هل يشهد العام 2014 جديدًا على هذا الصعيد يفتح أمام شعوب الدول الفقيرة نافذة أمل؟ حسنًا، لنتفاءل خيرًا، إنما التفاؤل لمجرد الرغبة بالأمل (WISHFUL HOPE) ليس كافيًا، بل يتوجب على النخب الواعية في مجتمعات العالم الثالث أن تعمل لا أن تكتفي بالتمني، ثم إن على النخب السياسية التي تدعو للتغيير وتعمل لأجله في غير بلد عربي، أن تتوقف عن بيع الأماني غير الواقعية، خصوصًا منها ما يخص الواقع الحياتي للناس. نعم، التجديد ضروري ومطلوب، بل هو من نواميس الحياة، لكنه يجب أن يكون موضع درس وبحث أولاً، سواء تعلق بالشخص، أو كان يخص مستقبل أسرة أو مؤسسة، ناهيك من بلد بأكمله.

في كل الأحوال، تمنيات بعام ميلادي جديد يحقق للجميع المرجو من أمنيات الخير الخاصة والعامة.
font change