
نظرا لتلك المكانة التي يحظى بها الدستور في تنظيم شؤون المجتمع والدولة، فقد أولى المواطن جل تفكيره واهتمامه في كيفية الوصول إلى دستور توافقي يحقق الإجماع الوطني ويرسي قواعد الدولة العصرية، أي السعي نحو صياغة عقد اجتماعي يحقق التوازن بين حماية حقه وصون حرياته من جانب، وضمان حقوق بقية أفراد المجتمع وحرياتهم من جانب آخر، وكذلك ضمان دور الدولة وقيامها بمسؤولياتها من جانب ثالث. وينطبق هذا الرأي على الحالة المصرية التي ظلت على مدار ثلاث سنوات منذ قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) عام 2011 والتي أسقطت دستور 1971، في البحث عن آلية وطنية تضمن وضع دستور توافقي يحقق شعارات الثورة وطموحات المواطنين وتطلعاتهم إلى الغد. وجدير بالذكر أنها ليست المرة الأولى التي يؤكد فيها المصريون حرصهم على أن يكون لديهم دستور يصون حقوقهم ويحمي مكتسباتهم. ولعل المطلع على تاريخ مصر الحديث ما قبل الاستقلال يتأكد من أن الحركات الوطنية كافة التي شهدتها مصر كان الدستور من أبرز مطالبها، فصحيح أن مصر عرفت دستور عام 1882 الذي أنشئ بمقتضاه مجلس النواب (معين بالكامل) وبيان العلاقة بينه وبين الحكومة (المسماه آنذاك بمجلس النظار)، إلا أنه لم يتطرق إلى حقوق المواطنين وحرياتهم.
ولذا، لن يكون مبالغة القول إن أول دستور حقيقي عرفته مصر كان في أعقاب ثورة 1919 وما ترتب عليها من إلغاء الحماية البريطانية على مصر إثر صدور إعلان 28 فبراير (شباط) 1922، حيث صدر هذا الدستور في 19 أبريل (نيسان) عام 1923، وبمقتضى هذا الدستور انعقد أول برلمان مصري (منتخب) عام 1924. وقد ظل العمل بهذا الدستور إلى أن جرى إلغاؤه في 22 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1930، ولكن سرعان ما أُعيد العمل به مرة أخرى بعد ذلك، ليستمر العمل به حتى قيام ثورة يوليو (تموز) 1952.التطور الدستوري في مصر ما بين 1952 وحتى مشروع تعديل دستور 2012:
الإعلانات الدستورية
شهدت الحياة السياسية المصرية العديد من الدساتير والإعلانات الدستورية، فعقب قيام ثورة يوليو 1952، صدر ما سُمي الإعلان الدستوري في 10 ديسمبر (كانون الأول) 1952، والذي جرى بمقتضاه إلغاء دستور 1923. وبعد انتهاء الفترة الانتقالية التي حددتها لجنة وضع مشروع الدستور بثلاث سنوات بدءا من 15 يناير (كانون الثاني) 1953، صدر الإعلان الدستوري النهائي في 16 يناير 1956، ليستمر العمل به حتى صدور أول دستور لجمهورية مصر العربية في 23 يونيو (حزيران) 1956 بموجب الاستفتاء الشعبي الذي أجري في ذلك اليوم، ويذكر أنه كان قد صدر في أعقاب إصدار قرار بإلغاء النظام الملكي في 18 يونيو 1956. وظل العمل به قائما حتى إعلان الوحدة بين مصر وسوريا في 22 فبراير 1958 ليصدر دستور الوحدة في مارس (آذار) من العام ذاته مع قيام الجمهورية العربية المتحدة. ولم يستمر طويلا مع انفصال سوريا عن مصر في سبتمبر (أيلول) 1961، حيث صدر الدستور المؤقت في 25 مارس 1964 واستمر العمل به حتى بعد وفاة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر وتولي الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، حيث شُكلت لجنة لوضع مشروع الدستور والذي صدر في 11 سبتمبر 1971 وأُطلق عليه الدستور الدائم، وقد أدخل عليه العديد من التعديلات في الأعوام التالية: 1980 (شمل التعديل خمس مواد مع إضافة باب جديد هو الباب السابع الذي تضمن أحكاما جديدة تخص إنشاء مجلس الشورى وسلطة الصحافة)، 2005 (تعديل المادة 76)، 2007 (تعديل 34 مادة). وقد ظل العمل بهذا الدستور حتى 13 فبراير 2011 بعد تنحي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وتجميد العمل به، لحين صدور أول إعلان دستوري بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير في 30 مارس 2011 بعد استفتاء شعبي على تعديل بعض مواد دستور 1971، وقد جرى في ظل هذا الإعلان إجراء الانتخابات البرلمانية وكذلك الرئاسية التي أفرزت نجاح الرئيس السابق محمد مرسي المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين وقد أصدر إعلانا دستوريا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 أي بعد انتخابه بخمسة أشهر، وقد ترتبت على صدوره حالة من الانقسام داخل المجتمع نظرا لمّا تضمنه من نصوص تمثل ارتدادا إلى ما قبل ظهور مفهوم الدولة. وفي خضم هذه الحالة، صدر دستور 2012 الذي وضعته لجنة جرى اختيارها من البرلمان المصري عُرفت بـ«لجنة المائة»، ولم يستمر الأمر طويلا في ظل حالة الاستقطاب التي واجهها المجتمع المصري تحت حكم الإخوان، لتأتي الموجة الثانية من الثورة المصرية في الثلاثين من يونيو 2013، وأعقبها إصدار الرئيس المؤقت المستشار «عدلي منصور» إعلانين دستوريين في 5 و8 يوليو 2013، جرى بمقتضى الأخير تعطيل دستور 2012، وتشكيل لجنتين لتعديل دستور 2012: إحداهما سُميت «لجنة العشرة» ضمت ستة من القضاة وأربعة من أساتذة الجامعات في القانون. أما اللجنة الأخرى وعُرفت بـ«لجنة الخمسين» فضمت بين عضويتها مختلف فئات المجتمع وأطيافه، وانتهت من تعديلاتها خلال الستين يوما التي حددها الدستور للانتهاء من تلك التعديلات، لنصبح إزاء مشروع تعديل لدستور 2012 يجري طرحه لحوار مجتمعي دعا إليه رئيس الجمهورية قبيل الدعوة إلى الاستفتاء المزمع إجراؤه في الرابع عشر والخامس عشر من يناير 2013.
الوثيقة الدستورية وثورتا التغيير
ليست مبالغة القول إن الوثيقة الدستورية جاءت معبرة عن الكثير من الشعارات التي رفعتها ثورة يناير وتلك التي طالبت بها موجتها التصحيحية في يونيو، ومن أبرز ما جاء في هذه الوثيقة ما يلي:
1- تعد ديباجة الدستور جزءا لا يتجزأ من الوثيقة الدستورية، بما يعني أن كل ما ورد فيها يعبر عن إرادة المشرع الدستوري، وقد جاءت الديباجة منصفة لكثير من الزعامات الوطنية التي ربما غفل دورهما التاريخ، كما جاءت الديباجة ضامنة في نصها على تعريف مبادئ الشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الرئيس للتشريع، حيث أقرت بأن المرجع في تفسيرها هو ما تضمنته مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن، ومؤكدة أيضا على إيداع هذه الأحكام في مضابط الجلسة كمرجع عند التفسير أو الحكم بدستورية نص من عدمه.
2- حرص المشرع الدستوري على تحقيق العدالة الاجتماعية في أكثر من موضع، نذكر منها إقرار مبدأ تعدد الشرائح الضريبية وتصاعد معدلاتها بالاتساق مع المقدرة التكليفية للممولين، أي لمن يدفعون الضريبة، وﻫذا ﻫو الأساس الرئيس لأي نظام ضريبي عادل يعفي الفقراء ومحدودي الدخل من دفع الضرائب، ويتدرج في معدل الضريبة تبعا لحجم الدخول. كما تجسدت العدالة أيضا في إلغائه للاستثناء من الحد الأقصى للأجر للعاملين لدى الدولة والذي كان موجودا في دستور 2012، وهو ما يعني فتح الباب لإصلاح نظام الأجور.
[caption id="attachment_55249493" align="alignright" width="226"]

3- على العكس مما يدعيه البعض، فقد قدمت الوثيقة الدستورية ضمانات قوية تصون حقوق العمال والفلاحين، وتحظر الفصل التعسفي وتعمل على بناء علاقات متوازنة بين العمال وأصحاب العمل. كما ألزمت الدولة بشراء المحاصيل الأساسية من الفلاح بأسعار عادلة، وأن يكون له نصيب محدد في الأراضي المستصلحة وفي الحصول على ضمان اجتماعي يحفظ كرامتهم. كما خصصت مادة مستقلة لأول مرة في دساتير مصر لحماية الصيادين وتمكينهم من مزاولة أعمالهم دون إلحاق الضرر بالنظم البيئية والتي أولتها الوثيقة اهتماما خاصا في أكثر من مادة، بل وأفردت لها مادة خاصة (مادة 46) بجعل حق الفرد في بيئة صحية وسليمة وحمايتها واجب على الدولة بما يحقق المعادلة بين الاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة من جانب، وضمان حقوق الأجيال المقبلة من جانب آخر.
4- في ضوء المكانة الثقافية التي تشغلها مصر بتراثها وآثارها، فقد خصصت الوثيقة فصلا مستقلا للمقومات الثقافية ألزمت الدولة بمقتضاه الحفاظ على الهوية الثقافية لمصر بروافدها المتنوعة، مؤكدة على أن الثقافة حق لكل مواطن، مع تشجيعه لحركة الترجمة من العربية وإليها، فضلا عن إلزام الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها وجعل الاعتداء عليها جريمة لا تسقط بالتقادم. كما أفردت مادة خاصة بتراث مصر الحضاري والثقافي المادي والمعنوي وألزمت الدولة بالحفاظ عليه وصيانته.
5- في خضم ما واجهته مصر على مدى العقود الماضية من تفشي الفساد وانتشاره بين ربوع الوطن، فقد حرص الدستور من خلال النص في مواد منفصلة وبصورة واضحة على مكافحته، فقد ألزم الدولة في مادة (218) على وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد واجتثاث جذوره وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، وإلزام أجهزة الرقابة المتعددة خاصة الجهاز المركزي للمحاسبات والهيئة العامة للرقابة المالية التنسيق بينهما حفاظا على المال العام، وإبلاغ سلطات التحقيق بما تكتشفه من دلائل على ارتكاب مخالفات وجرائم، دون انتظار الحصول على إذن أية سلطة أخرى. كما ألزم هذه الأجهزة بنشر تقاريرها الدورية والسنوية على الرأي العام، مع مطالبة مجلس النواب باتخاذ الإجراءات المناسبة حيال هذه الجرائم خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر من صدور التقارير. كما حرص الدستور على إزالة كل العقبات التي تحول دون تمكين أجهزة الرقابة من القيام بواجبها على أكمل وجه، باعتبارها شخصية اعتبارية قائمة بذاتها، تتمتع بالاستقلال الفني والمالي والإداري. كما كفل لها ضمانات استقلالها والحماية اللازمة لأعضائها بما يمكنهم من الحفاظ على حيدتهم واستقلالهم، فلا يجوز إعفاء أي من رؤساء هذه الأجهزة من مناصبهم إلا في الحالات التي يحددها القانون، كما تصدر قرارات تعيينهم من رئيس الجمهورية بعد موافقة أغلبية مجلس النواب، لمدتين كل منهما أربع سنوات فقط.
6- فتح الدستور الباب أمام المصالحة الوطنية، فلم يقص أحدا ولم يعزل فصيلا أو فئة أو حزبا كما فعل دستور 2012، بل جعل الأمر كله موكولا إلى القضاء في تأكيده على ترسيخ دولة القانون وسيادته.
7- رسخ الدستور لفكرة المساواة بين المواطنين كافة، حيث نصت المادة (35) على أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر. كما جعل التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون، والأهم من ذلك هو التزام الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز، من خلال إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض. ويتأكد هذا المسعى إذا ما نظرنا إلى المادة (14) التي تنص على مبدأ إتاحة الوظائف العامة للمواطنين كافة على أساس الكفاءة دون محاباة أو وساطة.
8- أكد على حرية الإعلام وضماناتها، فقد نص في المادة (212) على إنشاء هيئة مستقلة للصحافة تقوم على إدارة المؤسسات الصحافية المملوكة للدولة وتطويرها، وتنمية أصولها وضمان تحديثها واستقلالها وحيادها والتزامها بأداء مهني وإداري واقتصادي رشيد، وبذلك تنزع الصحافة القومية من أحضان الأنظمة الحاكمة أيا كان اسمها أو انتماؤها لتتحول إلى صحافة قومية مستقلة تؤدي دورها بعيدا عن سلطة الدولة والنظام الحاكم، وتتكامل هذه المادة مع ما ورد في المادة (27) التي أكدت التزام الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحافية ووسائل الإعلام المملوكة لها بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة، وتكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام.
الحاجة إلى التعديل
لا يعني ما سبق أن الوثيقة الدستورية تحظى بالقبول الكلى أو الموافقة المطلقة، وإنما تعني أنها حققت نسبة معقولة من الشعارات المرفوعة في ثورتي التغيير، بما يعني أن الموافقة عليها في الوقت الراهن أمر حتمي، مع الاحتفاظ ببعض الملاحظات واجبة المراجعة أو في حاجة إلى التعديل مع أول برلمان منتخب من الشعب، ومن أبرز هذه الملاحظات ما يلي:
1- في إطار ما نظمه الدستور من علاقات بين السلطات الثلاث، برزت ملاحظات عدة، أهمها:
- صحيح أننا ننادي وندافع عن استقلالية القضاء كرمز من رموز دولة القانون التي ننشدها جميعا، ولكن لا تعني الاستقلالية جعله سلطة فوق الجميع، فحينما ينص الدستور على أن تدرج موازنة الهيئات القضائية كرقم واحد في الدستور وأن تختص كل هيئة بتنظيم شؤونها، فهذا الأمر لا يعني الاستقلال بالمعنى المهني وإنما يعني الانفصام عن بقية أجهزة الدولة ومؤسساتها، فالبرلمان المنتخب من الشعب والمعبر عن إرادته حينما يطالع تفاصيل موازنة الهيئات القضائية لا يعني التدخل في شؤون العدالة، وإنما يعني الرقابة والمتابعة لأموال الشعب ومستحقاته. وهو ما يتطلب أن يعاد النظر فيها مرة أخرى.
[caption id="attachment_55249494" align="alignleft" width="300"]

- نظم الدستور العلاقة بين البرلمان ورئيس الجمهورية فيما يخص تشكيل الحكومة، فقد نص أنه في حالة إذا ما كلف رئيس الجمهورية الحزب أو الائتلاف الفائز بالأكثرية داخل مجلس النواب بتشكيل هذه الحكومة، فقد منح لرئيس الجمهورية الحق بعد تشاوره مع رئيس مجلس الوزراء اختيار وزراء الدفاع والداخلية والخارجية والعدل، وهو أمر مستحدث لم نره في نظم حكم مشابهة أو مماثلة. فضلا عن أنه من المهم أن يرسي المجتمع المصري ما بعد ثورتين أنه لا يوجد ما يسمى وزارات سيادية وغير سيادية. فلم يعرف العالم مثل هذه التفرقة في وزاراته، فمن أين جاء بها المشرع الدستوري المصري؟
- نصت المادة (207) على أن يُشكل مجلس أعلى للشرطة يضم في عضويته أقدم ضباط هيئة الشرطة ورئيس إدارة الفتوى المختص بمجلس الدولة، مع تحديد بعض اختصاصات هذا المجلس على أن يحدد القانون بقية الاختصاصات. وإذا كانت الإضافة المعتبرة في هذا النص أن جعل هناك عنصرا قانونيا من هيئة قضائية يشارك في أعمال هذا المجلس، إلا أن هذه الإضافة تتعارض مع نص المادة (239) الواردة في باب الأحكام الانتقالية والتي تلزم المشرع بإصدار قانون ينظم قواعد ندب القضاة وأعضاء الهيئات القضائية بما يضمن إلغاء الندب الكلي والجزئي لغير الجهات القضائية أو اللجان ذات الاختصاص القضائي أو لإدارة شؤون العدالة أو الإشراف على الانتخابات، وذلك كله خلال خمس سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور. وهنا يبرز التساؤل: أليست عضوية رئيس إدارة الفتوى المختص بمجلس الدولة في هذا المجلس تعني ندبا كليا أو جزئيا؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل ينطبق على المجلس الأعلى للشرطة الحالات التي استثناها النص الدستوري؟ وإذا لم تكن ضمن هذه الحالات، فمعنى ذلك تعطيل هذا النص بعد خمس سنوات على أقصى تقدير. ولذا، كان من الأوجب أن يضم المجلس الأعلى للشرطة عناصر من المعنيين بقضايا حقوق الإنسان سواء أكانوا يمثلون هيئات حكومية كما هو الحال في المجلس القومي لحقوق الإنسان أم يمثلون المجتمع المدني، ترسيخا لثقافة حقوق الإنسان وتعميقها لدى جهاز الشرطة خلال المرحلة المقبلة.
2- رغم ما قد يراه البعض من نجاح في إلزام الدستور للمشرع العادي عند إعداده لمشروع الموازنة العامة للدولة بأن تخصص نسبة من الإنفاق الحكومي على قطاعات معينة كما ورد في النص بأن تخصص للصحة ثلاثة في المائة، وللتعليم قبل الجامعي أربعة في المائة، واثنان في المائة للتعليم الجامعي، وواحد في المائة للبحث العلمي على أن يتم التحرك نحو هذه الأهداف تدريجيا بحيث تكتمل في موازنة 16/2017 طبقا لنص المادة (238)، إلا أنه بنظرة سريعة إلى مجموع هذه النسب وهو 10 في المائة من الناتج القومي الإجمالي. مع إضافة بندين ثابتين وهما بند فوائد الدين العام (25 في المائة) وبند الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية (32 في المائة) طبقا لتقديرات العام الحالي (2014)، فلن يبقى لتمويل باقي الوزارات والهيئات سوى 13 في المائة، فهل هذا يكفي؟ أضف إلى ذلك أن تحديد هذه الحصص سيضع الحكومة أمام خيارين: إما الهبوط بمعدل الإنفاق على غير هذه البنود بما يشكل بدوره تأثيرا سلبيا على الدولة واقتصادها وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وإما تتجاهل هذا الالتزام الدستوري بما يُعرض مشروع الموازنة العامة لعدم الدستورية. فضلا عن ذلك، فقد توسع مشروع الدستور في النص على التزامات الدولة مقارنة بالدساتير السابقة، حيث جاءت جملة «تلتزم الدولة» 61 مرة، إضافة إلى 9 مرات «تلتزم» وهي عائدة أيضا على الدولة أي أن إجمالي الالتزامات على الدولة (70) التزاما مقارنة بـ(18) التزاما في دستور 2012 المعطل. إلى جانب ذلك، ذكرت جملة «تكفل الدولة» 35 مرة مقابل 21 مرة في دستور 2012. وإن كان مفهوم «تكفل» أقل أثرا من «تلتزم» من الناحية القانونية، فالكفالة كما يراها القانونيون هي تهيئة المناخ الملائم ووضع أطر عامة دون إلزام للدولة. أما الالتزام فيوجب على الدولة منفردة تنظيم وإنجاز هذا الأمر. ولا شك أن هذا مأزق اقتصادي وتنموي واجتماعي لم تراعيه لجنة الخمسين حينما غَلبَتَ الطموحات القدرات، وسَبقَتَ التطلعات الإمكانيات.
3- تظل قضية محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري واحدة من القضايا الخلافية في المجتمع المصري، صحيح أن الدستور قرر في مادته (97) أنه: «لا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي»، إلا أنه من الصحيح أيضا أن نص المادة (204) أجاز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وهو بلا شك ليس القاضي الطبيعي للمدنيين. وإذا كان من المقبول في ظل حالات محددة كما نص عليها الدستور يجوز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري على سبيل الحصر، إلا أن ما ورد في هذا النص كان متسعا بصورة تحتاج إلى إعادة نظر، فمفهوم المنشآت العسكرية التي قد يتعرض من يمسها أو يمس العاملين بها للمحاكمة العسكرية، هو مفهوم واسع يشمل دور القوات المسلحة ونواديها ويشمل كذلك المتاجر والشركات التابعة للقوات المسلحة. كما يظل إضافة المخابرات العامة إلى النص محل تساؤل حول تحديد طبيعة هذا الجهاز الخاضع لرئيس الجمهورية هل هو ذات طبيعة مدنية أم عسكرية؟
الوثيقة الدستورية والصمت المعيب
يظل الموقف الذي فشلت فيه لجنة الخمسين بخروج مسودة الوثيقة الدستورية دون حسم الخلاف حول ثلاث قضايا ذات علاقة مباشرة باستكمال خارطة الطريق وتركها لرئيس الجمهورية لحسمها معيبا، وتشمل هذه القضايا ما يلي:
1- طريقة انتخاب البرلمان، هل تكون بالنظام الفردي أم بالقوائم النسبية؟
2- تحديد كوتة لتمثيل العمال والفلاحين والمرأة والشباب والمسيحيين وذوي الاحتياجات الخاصة، بما يضمن تمثيلهم تمثيلا ملائما.
3- أيهما الأسبق الانتخابات الرئاسية أم البرلمانية؟
ولا شك أن ترك هذه القضايا دون حسم وإحالتها إلى رئيس الجمهورية تثير كثيرا من المشكلات في المستقبل، خاصة أنها قد تُدخل المرحلة المقبلة برمتها في مخالفة دستورية قد يترتب عليها إفشال الخطوات التالية، فحينما صدر الإعلان الدستوري من الرئيس المؤقت في الثامن من يوليو أوكل سلطة تعديل دستور 2012 إلى اللجنتين سالفتي الذكر، ولم يعط لرئيس الجمهورية أية سلطة في هذا الخصوص. ولا شك أن هذه القضايا التي لم يتم حسمها كان لها تنظيم محدد في دستور 2012 وأن تعديل أي منها يعني تعديلا دستوريا غير مخول به لرئيس الجمهورية، بما يعني إخلالا بأحكام الإعلان الدستوري الصادر في 8 يوليو، وأن هناك افتئات من رئيس الجمهورية على سلطة اللجنة المشكلة لتعديل الدستور. وأن القول بأن اللجنة قد توافقت على تفويض رئيس الجمهورية لحسم هذه القضايا، يثير إشكالية دستورية أخرى، فهل تملك اللجنة سلطة في التفويض من عدمه؟ وهو ما يعني أننا ربما نعود بالمسيرة الدستورية إلى نقطة البداية. بما يستوجب أن تكون هناك معالجة سريعة لمثل هذه الإشكالية الدستورية، ومن أبرز المقترحات في هذا الصدد، قيام رئيس الجمهورية بإصدار إعلان دستوري مكمل بمقتضى السلطة المخولة له، يمنح اللجنة وقتا إضافيا تستطيع أن تحسم فيه هذه القضايا، وذلك تفاديا لأية إشكاليات أو مخالفات دستورية قد تظهر في المستقبل.
نهاية القول إن ما جاء في الوثيقة الدستورية رغم تحفظاتنا على بعض موادها وصياغة كثير من بنودها، يظل مقبولا إلى درجة تدفعنا كما سبق الإشارة إلى القول بنعم على الدستور في محاولة للخروج من المفترق التاريخي الخطير الذي تمر به مصر اليوم، حتى تبدأ خطوات الاستقرار طبقا لما هو مرسوم في خارطة الطريق التي توافق عليها الشعب في الثلاثين من يونيو، ولتبدأ عجلة الاستثمار والبناء في الدوران. مع الأخذ في الحسبان أن هذه الموافقة لا تعني تسليم الراية، بل تعني السعي الحثيث بكل الوسائل السلمية من أجل تحقيق أهداف الثورة وتعديل المواد الخلافية أو تلك التي تحتاج إلى إعادة نظر. ولكن، بهذه الموافقة نكون قد وضعنا أسس وقواعد بناء الدولة المصرية ثم نستكمل سويا عملية البناء في انتخاب برلمان وطني يجمع تحت قبته طوائف المجتمع المصري وأطيافه ومختلف تكويناته الاجتماعية وتشكيلاته السياسية، فكما نعلم جميعا أن النص الدستوري يظل جامدا إلى أن تترجم مبادؤه وأحكامه إلى تشريعات وقوانين قابلة للتنفيذ. وانتخابات رئاسية لتستكمل الدولة المصرية بناء مؤسساتها على أسس ديمقراطية تحقق شعارات ثورة يناير وطموحات أبنائها وتطلعاتهم في غد أفضل يسمح للجميع بالمشاركة، ويفسح الطريق لاستحقاقات متتالية، تبني الأجيال القادرة على تحمل المسؤولية بكل كفاءة واقتدار.