قراءة في الهويَّة والاختلاف.. تحوُّلات المثقفين اللبنانيين

قراءة في الهويَّة والاختلاف.. تحوُّلات المثقفين اللبنانيين

[caption id="attachment_55249707" align="aligncenter" width="620"]الرئيس نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة خلال افتتاح معرض بيروت الدولي للكتاب الرئيس نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة خلال افتتاح معرض بيروت الدولي للكتاب[/caption]

هذا الكتاب عبارة عن "قراءة في فكر الاختلاف، وفي تبدّل الخطاب، وفي الدوافع التي أحالت المثقف اللبناني إلى تقديس الرموز الثورية والسياسية والدينية"، اختارت فيه الكاتبة عددا من الشخصيات اللبنانية البارزة في المجال الثقافي والسياسي لبحثها.
عن محتوى هذا الكتاب، تقول المؤلفة ثناء عطوي: "يفتح الكتاب النقاش واسعًا مع المثقفين اللبنانيين، نقاش فيه تجاوز للتقليدي وما قيل دائمًا، مع نخب اختبروا تجارب السياسة والحرب والأحزاب والإيديولوجيات والثورات، مثقفين لم يبقوا في مكانهم. تنقّلوا من موقع إلى آخر، وراهنوا على خيارات انقلبوا عليها لاحقًا، وافترقوا عن انتماءاتهم بشكل تدريجي، عشوائي وغير متوقع أحيانًا، الأمر الذي أحدث صدمة ثقافية لكثيرين ممن ارتبطوا بأفكار المثقف ومواقفه. هو كتاب يضم تجارب مثقفين جدليين، خاضوا في زمن التحوّلات الكبرى، التي مرّت بها المنطقة في النصف الأخير من القرن الماضي. إنه قراءة في فكر الاختلاف، وفي المتغيّرات التي حدّدت تموضعات المثقف السابقة والراهنة".

[caption id="attachment_55249708" align="alignleft" width="200"]غلاف الكتاب غلاف الكتاب[/caption]

تطلعنا عطوي عن سبب اختيارها البحث في هذه القضية تحديدًا، فتقول: "ليس ثمّة مكان للثبات في مسارات المثقفين اللبنانيين، الواقع دائمًا مؤقّت، والخيارات الأخرى دائمًا جاهزة. أصبح معظم المثقفين اللبنانيين في مكان آخر، ولفتتني هذه الديناميكية في حركتهم، بصرف النظر عن تقييمها، وعن الأسئلة الجوهرية التي تثيرها، وانعكاساها على المثقف من جهة، وعلى أشخاص راهنوا على هذا المثقف الذي رصَد جُهده للقضايا الكبرى، خصوصًا المثقف العضوي والعقائدي والملتزم، الذي تغيّر وأصبح أكثر ارتباطًا بمراكز السياسة والسلطة والنفوذ.



[blockquote]ليس ثمّة مكان للثبات في مسارات المثقفين اللبنانيين، الواقع دائمًا مؤقّت، والخيارات الأخرى دائمًا جاهزة[/blockquote]



وعن ما إذا جاء هذا الكتاب من باب النقد للمثقف بسبب تغيير آرائه تقول: ليس نقدًا بقدر ما هو محاولة في قراءة الظروف التاريخية التي تأثّرت بها بُنية المجتمع اللبناني نفسه، وقراءة في فكر الاختلاف، وفي تبدّل الخطاب، وفي الدوافع التي أحالت المثقف إلى تقديس الرموز الثورية والسياسية والدينية. لدى المثقف اللبناني علامات ثابتة، ومسارات مغايرة عن المثقفين في الوطن العربي، وإن كانت قد جمعتهم أحلام وأوهام، وحّدت أحلامهم بالتغيير ومجتمعات أفضل، كالقومية واليسارية وغيرها. لكن يبقى للمثقف اللبناني خاصّية، ترتبط بتركيبة المجتمع وتعدّده، والظروف التي مرّ بها البلد من حروب وجبهات، وتحوّل البلد إلى أرض للعنف والثورات وحركات المقاومة. عوامل كلّها، دفعت المثقف إلى النزوح من مواقعه في اليمين واليسار وغيره، إلى أشكال مختلفة من الليبرالية.

قد يتساءل البعض ما إذا كان بالإمكان اعتبار هذا الكتاب مرجعًا لمن يريد البحث في الحالة الثقافية اللبنانية منذ ستينيات القرن العشرين، تقول: "المنهج الذي بنيت عليه، يصلح لتسمية الكتاب مرجعًا؛ إذ ارتكز العمل على ثلاث مراحل رئيسة هي: البحث في مراكز المعلومات وأرشيفات الصحف اللبنانية عن كل ما يتّصل بموقف المثقف الذي أحاوره، التنقيب في آرائه قبل الحرب الأهلية سنة 1975 وخلالها وبعدها، وفي المراحل المتزامنة أيضًا، التي شهدت صعود القومية العربية والناصرية، ومن ثم ازدهار اليسار، مرورًا بالثورة الإسلامية في إيران، ثم مرحلة السلم الأهلي في التسعينيات، وصولاً إلى الثورات التي يشهدها العالم العربي اليوم.
[caption id="attachment_55249712" align="alignleft" width="230"]المؤلفة ثناء عطوي المؤلفة ثناء عطوي[/caption]
المرحلة الثانية كانت مباشرة وعملية، امتدّ فيها النقاش مع المثقف لجلستين أو أكثر، وشملت الحديث عن التجارب الصعبة والمُكلفة، التي بدأت من الطموحات المُبكرة في خوض معارك الإصلاحات العمالية والاجتماعية، ومن ثم المسؤوليات التي تحمّلها كل مثقف خلال الحرب، ودخول السلاح الفلسطيني كعنصر حاسم في الصراع الأهلي اللبناني، وتفشّي ظاهرة الميليشيات الطائفية، والتدخّل السوري لاحقًا، الذي عقّد الواقع السياسي أكثر، بعد أن سيطر النظام على مفاصل الدولة، وأنتج فوضى وفساد وقمع، أسّست لممارسة ثقافية وسياسية مختلفة. أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة المعالجة والصياغة التقنية للحوارات، ومن بعدها المراجعة المشتركة مع كل مثقف على حدة؛ لإضافة أو تعديل أي معلومات قد تفيد القارئ.

اختارت الكاتبة كلاًّ من حازم صاغية، روجيه عساف، فواز طرابلسي، دلال البزري، عباس بيضون، السيد هاني فحص، الفضل شلق، توفيق هندي، محمد عبدالحميد بيضون، ليكونوا مادة البحث، وعن أسباب اختيارها لهذه الأسماء ليكونوا مادة لبحثها تقول: أعتقد أنه من خلال النبش في مخزونات ذاكراتهم، تتبّعنا المراحل التي مرّ بها البلد، وتمكنَّا من الإحاطة بالواقع الثقافي والفكري والسياسي، في أحوال لبنان كافة. أقول ذلك لأن من حاورتهم هم نخب متنوّعة الانتماءات، بينهم المثقف الديني والسياسي والإيديولوجي. استطعنا أن نفهم أكثر الروابط ما بين هذه المسارات، من خلال الحديث عن القضايا التي ناضل المثقفون من أجلها، وشكّلت قاسمًا مشتركًا ما بين مكوّنات اليسار عمومًا. لقد تقاسم المثقفون الأحداث نفسها، وتقاسموا الحلفاء والأعداء أيضًا. كانت التطلّعات واحدة: العدالة الاجتماعية والوحدة العربية وتحرير فلسطين. وكانت الأهداف واحدة: مناهضة الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية. اختبروا زمن الناصرية وانهزامها، والقومية وتراجعها، وذلك بعد فشل تجربتين عربيتين للوحدة. عاشوا مرحلة ازدهار اليسار، وانتصروا للقضية الفلسطينية، واصطفّوا إلى جانب الفدائيين. تبنّوا الثورة الإسلامية الإيرانية، وبحثوا عن خلاصهم في الحرب الأهلية، ثم انقلبوا على حساباتهم وتمركزوا في أحزابهم، ليعودوا ويتفرّقوا عنها يمينًا ويسارًا، دينًا ومالاً، نفطًا وجهادًا.

وعن حواراتها معهم تقول: تميّزت الحوارات بالوضوح والجرأة، كانت بمثابة مكاشفة ونقد ذاتي، ولم يتسام أيّ مثقف بتجربته، وإن قدّم بعضهم المحطات الملتبسة في مسيرته بأسلوب أقرب إلى التبرير، والتأكيد على الثبات لا التحوّل، إلاّ لمصلحة "القضية" التي التزموا في الدفاع عنها، علمًا أن تنقّلاتهم تشي بالعكس، وتخبرنا أن مساراتهم عرفت انعطافات عميقة.

ومن خلال بحثها وتعمقها في تحولات المثقف اللبناني طرحنا عليها سؤالاً عن ما الذي يميّز المثقف اللبناني عن غيره من المثقفين العرب، وعن ذلك تجيب: هناك فرق بين مثقف وآخر، وعمل ثقافي وآخر، وموقع وآخر. لكن خاصية المثقف اللبناني أنه نقدي، مُنفلت من المكان، قادر على تعرية نفسه، يقرّ بهزيمته الفكرية، وهو بالتالي لا يشبه المثقفين العرب، لا في سلوكه ولا حتى في مساراته.

أما عن سؤالي لها حول تقييمها للحالة الثقافية في لبنان اليوم ترد: "المزاج الثقافي اللبناني عموماً متأثّر بواقع الثورات التي يشهدها الوطن العربي. وإذا ما أردنا أن نُحدّد أكثر، فإن حركة إصدارات الكتب عندنا ليست مرضية، وأسواقها ليست مزدهرة، أما مهرجانات السينما فلم تستطع أن تكرّس نفسها؛ لأسباب تتعلق بغياب الدعم، وتحوّل دول عربية أخرى مثل دبي والدوحة إلى مركز استقطاب لهذا النوع من المهرجانات، فضلاً عن غياب التنظيم الجيد للمهرجان السينمائي اللبناني. أما المسرح فهو على وشك أن يلفظ أنفاسه، ويبقى شيء أساسي نعوّل عليه، هو أننا "نحترف" الغناء، ونُصدّر إلى العالم فنانات بلا عدد.


font change