تعثر حكم الإسلاميين في دول الثورات العربية

تعثر حكم الإسلاميين في دول الثورات العربية

[caption id="attachment_55249953" align="aligncenter" width="620"]الرئيس السابق محمد مرسي اثناء محاكمته الرئيس السابق محمد مرسي اثناء محاكمته[/caption]

جاء تعثر حكم الإسلاميين في دول الثورات العربية على نحو ما بدا جليا في غياب التوافق الوطني بتونس، وسقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد أن حال عليه الحول، وما تلا ذلك من صدور قرار قضائي بحظر كافة أنشطة التنظيم وما ينبثق عنه من جماعة أو جمعية أو أية حركات أو مؤسسات تابعة له، والتحفظ على جميع أموالهم السائلة والمنقولة والعقارية، فضلا عن الهزيمة المدوية التي مني بها مرشحو الإخوان في انتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية مؤخرا، مثلما تجلى في انتخابات التجديد النصفي لنقابة الأطباء، والتي جرت تحت إشراف قضائي كامل وتلقى خلالها الإخوان أكبر خسارة انتخابية منذ عشرين عاما، الأمر الذي اعتبره مراقبون مؤشرا مهما على تآكل حضور الإخوان سياسيا وتراجع قدرتهم على الحشد مع اقتراب موعد إجراء الاستفتاء على الدستور وكذا الانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية، والتي أعلنوا نيتهم المشاركة فيها مجتمعة.


تصدعات وانشقاقات بنيوية




وبرؤية مغايرة، ارتأى محللون آخرون في التغيرات والتحولات التي اعترت تيارات الإسلام السياسي على المستويين التنظيمي والفكري خلال الآونة الأخيرة، إرهاصات لما بعد الإسلام السياسي. فتنظيميا، تمخضت التصدعات والانشقاقات البنيوية التي دهمت الهياكل التنظيمية لجماعة الإخوان وعددا من الفصائل الإسلامية الأخرى عن بروز حركات أكثر اعتدالا وانفتاحا وتحررا من الأطر التنظيمية الضيقة والقوالب الفكرية النمطية. فبعدما خرج عضو جماعة الإخوان أبو العلا ماضي وأسس حزب الوسط، انشق نائب المرشد عبد المنعم أبو الفتوح وشكل حزب مصر القوية، كما انفصل عماد عبد الغفور عن حزب النور السلفي لينشئ حزب الوطن، أسفرت الفجوة الجيلية داخل جماعة الإخوان عن الدفع بمجموعات شبابية إخوانية للتمرد على مبدأ السمع والطاعة لمرشد الإخوان وجوقة مكتب الإرشاد التي فقدت القدرة على مواكبة تطورات العصر ومسار التاريخ وتغير الظروف والأحوال، ومن ثم كان الانشقاق وإعلان «إخوان بلا عنف».

وفكريا، جنحت فصائل إسلامية للتحرر من ربقة الأنساق الفكرية المغلقة وتبني خطاب أقرب إلى الأفكار المدنية الليبرالية كالإيمان بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومدنية الدولة واحترام حقوق المرأة والأقليات وغيرها، علاوة على نبذ الخطاب الاستعلائي التكفيري والعدول عن النهج الجهادي العنيف، لا سيما بعد أن تراءى لها أن اعتمادها العنف قد أجهز على موجة التعاطف الشعبي مع مظلوميتهم التي تراكمت على وقع عقود من الإقصاء والقمع، ما وضعها في مواجهة الدولة والمجتمع في آن وأفقدها قسطا هائلا من رصيدها الشعبي وحضورها الفكري والسياسي.


إعادة الديمقراطية




ومن زاوية أخرى، التمس مراقبون في تبدل المواقف الإقليمية والدولية حيال تيارات الإسلام السياسي مقتربا للتنظير لحقبة ما بعد الإسلام السياسي. فما كادت جماعة الإخوان تدشن إخفاقها السياسي وتشهر إفلاسها الجماهيري في مصر، حتى عمدت واشنطن إلى التبرؤ منها والعزوف عن دعمها بصور شتى، حيث أعلنت واشنطن تأييدها لخارطة المستقبل، بينما أكد وزير الخارجية الأميركي جون كيري أن الإخوان المسلمين «سرقوا الثورة المصرية»، وأن الجيش المصري ما تحرك في الثالث من يوليو (تموز) الماضي إلا بغرض «إعادة الديمقراطية».
وعلى الصعيد النظري، تعددت الاجتهادات الفكرية التي حاولت التنظير لما بعد الإسلام السياسي، فمنها ما أشار إليه المفكر الإيراني آصف بيات في مقالته التي سطرها عام 1996 بعنوان «قدوم مجتمع ما بعد الإسلام السياسي»، والتي تناول فيها إيران ما بعد الخميني، ملوحا بأن «ما بعد الإسلام السياسي، ينصب على التحول في تيار الإسلام السياسي ككل على مستوى الأفكار والتوجهات والممارسات، من التشدد والتطرف إلى المرونة والاعتدال». ومنها أيضا ما لفت إليه المفكر العربي صادق جلال العظم من نبذ الإسلام السياسي الأكثر تعنتا وغلوا وأصولية، والعودة إلى الإسلام الشعبي التلقائي الأكثر اعتدالا وتسامحا.


مراجعات




وإذا كانت «المابعدية» في النظرية النقدية تنصرف إلى نقد المرحلة السابقة والتأسيس لمرحلة جديدة بخيارات مختلفة وسمات مغايرة تقود في نهاية المطاف إلى بديل ملائم، يمكن القول إن «المابعدية» تنطوي على مراجعة ونقد ما قبلها تمهيدا لبناء أو تأسيس مرحلة أفضل، وبناء عليه، فإن «ما بعد الإسلام السياسي» يعني بلوغ تيارات الإسلام السياسي مستوى من الاستنارة والنضج الفكري والتسامح السياسي والعقلية النقدية على النحو الذي يؤهلها للانتقال من التكفير إلى التفكير ومن الاستعلاء على الآخر الديني والفكري والسياسي إلى قبوله واحترامه والتعايش معه والتخلي عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، توطئة للقيام بمراجعة فكرية جادة وشاملة وممارسة النقد الذاتي بما يخولها نبذ العنف والامتثال لقواعد وأسس الدولة المدنية الديمقراطية وفي صدارتها مبدأ المواطنة وقيم الانتماء والولاء للدولة الوطنية القُطرية وطي صفحة المشروع الأممي المبني على أستاذية العالم، وإقامة الخلافة الإسلامية، أو توحيد العالم الإسلامي.. إلخ.

ورغم أن مياها غزيرة جرت في مجرى الجدل بشأن «ما بعد الإسلام السياسي» في مصر بعد انطلاق الحراك الثوري منذ يناير (كانون الثاني) 2011، فإن معطيات ومؤشرات عدة تنذر بتعكير صفو هذا المجرى، حيث ما زالت فصائل الإسلام السياسي تصر على تفضيل المجازفة بالتيه في غياهب السياسة ودروبها الوعرة على مباشرة الواجب الدعوي من دون إقرار فعلي أو قبول حقيقي بالقواعد والأسس المتعارف عليها عالميا لتنظيم العمل السياسي.

فمن جهتهم، لم يتورع السلفيون، على سبيل المثال، عن توخي كافة السبل الكفيلة باستثمار محنة الإخوان المسلمين الحالية لوراثة رصيدهم السياسي والشعبي فيما تلقى فتاوى كبار مشايخهم بمقاطعة الاستفتاء على دستور2014، الذي يرون نصوصه مخالفة للشريعة الإسلامية وتنطوي على عوار كبير، بظلال من الارتباك على مساعي حزب النور السلفي لحشد ملايين الإسلاميين للتصويت لصالح هذا الدستور. صحيح أن الحزب لعب دورا لافتا في هذا الصدد إلى الحد الذي دفع قوى سياسية علمانية عديدة للإشادة به إبان الاستفتاء على الدستور، إلا أن اندلاع خلافات داخل التيار السلفي حول النهج السياسي الأمثل منذ قبول التيار الانخراط في العمل السياسي بعد ثورة يناير 2011، وهي الخلافات التي ازدادت حدتها ووتيرتها بعد الثلاثين من يونيو (حزيران) الماضي، من شأنه أن يطرح تساؤلات شتى بشأن فرص بقاء السلفيين موحدين ومتماسكين، وبتكلفة يمكن احتمالها، في المشهد السياسي المصري مستقبلا، فضلا عن صيرورة تطور هذا التيار إلى مستوى يخوله الإسهام الجاد والدءوب في بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
font change