
على خلاف منافسيه، يستند الموقف الانتخابي التنافسي لإردوغان على ركائز قوة كثيرة أبرزها: الإنجازات المتنوعة التي حققها طيلة اثني عشر عاما قضاها في رئاسة الحكومة، ومن قبلها سنوات ثلاث بصفته رئيسا لبلدية إسطنبول، إضافة إلى نتائج الانتخابات البلدية التي أجريت نهاية مارس (آذار) الماضي واستطاع خلالها حزبه انتزاع نسبة 43 في المائة من الأصوات رغم الظروف الصعبة والتحديات الجسام التي أحاطت بالحزب وبإردوغان في حينها، هذا علاوة على استمرار ضعف المعارضة وعجزها عن تقديم مرشح رئاسي يمكنه الإطاحة بأحلام إردوغان.
فرغم أن أحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان قد سبقت الحزبَ الحاكم في تسمية مرشحيها الرئاسيين؛ إذ توافق حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية على ترشيح الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلي، في حين رشح حزب السلام والديمقراطية، الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، رئيسه صلاح الدين ديمرطاش، وتكاد تنحصر أصوات ديمرطاش داخل المناطق الكردية، وبينما أدى تغيير نظام انتخاب الرئيس إلى تعاظم تأثير شخصية المرشح، وما يتمتع به من شعبية على حساب الحزب الذي رشحه، شكل ترشيح حزب الشعب الجمهوري، متعهد الإرث الكمالي، للأكاديمي الإسلامي إحسان أوغلي مفاجأة خلطت الأوراق في الحسابات الانتخابية؛ إذ جاء رد الفعل الأولى لبعض شخصيات الشعب الجمهوري سلبيا، وكذا بعض ممثلي العلويين في قاعدته الاجتماعية الذين استاءوا من وضعهم بين خيارين إسلاميين لا يستسيغونهما.
الجمهورية الثانية
ومع تصاعد أهمية الصوت الكردي في الانتخابات وتهافت المرشحين؛ إحسان أوغلي وإردوغان، على استمالة الناخبين الأكراد، خصوصا خلال الجولة الثانية من السباق، عبر وعود من الأول بتسوية عادلة لقضيتهم ومبادرات تصالحية وحصانات قضائية لمفاوضات إنهاء المسألة الكردية من الأخير، يبقى الصوت الكردي تاريخيا أقرب إلى حزب العدالة والتنمية من حزبي الشعب والحركة القومية؛ مما يعظم من فرص إردوغان، الذي تأخر حسم ترشحه على خلفية حسابات وترتيبات معقدة داخل حزب العدالة، في الفوز بالرئاسة في وقت لا يبدو الأتراك مستعدين للمقامرة بنصيبهم الوافر من الاستقرار السياسي والاقتصادي وسط محيط إقليمي غارق في الاضطراب والفوضى.
[blockquote]تشير استطلاعات الرأي إلى تمتع إردوغان بحظوظ كبيرة للفوز بالانتخابات، وحصوله على 55 في المائة من أصوات 52.6 مليون ناخب[/blockquote]
كذلك، تشير استطلاعات الرأي إلى تمتع إردوغان بحظوظ كبيرة للفوز في هذه الانتخابات، فقد كشفت دراسة أجراها معهد «جينار» الأيام الماضية أن إردوغان سيحصل على 55 في المائة من أصوات 52.6 مليون ناخب تركي، وكشفت دراسة أخرى لمعهد «ماك كونسلتنسي» أنه سيحصل على 56.1 في المائة متقدما على كافة منافسيه، وإذا انتخب إردوغان رئيسا للبلاد حتى 2019 فسيكون الرجل الذي حكم تركيا لأطول فترة زمنية بعد أتاتورك مؤسس الجمهورية.
ومن جانبه، أكد إردوغان فرص حزبه لحصد المنصب قائلا: «بنا ستكبر تركيا، التي ستدخل عهدا جديدا من خلال انتخابات الرئاسة»، مشددا على أن حزب العدالة والتنمية الحاكم سيُظهر خلال الاقتراع الرئاسي حجم الفارق بينه وبين الأحزاب الأخرى، كما أثبت ذلك في الانتخابات المحلية الأخيرة، وعد أن انتخابات الرئاسة ستكون مؤشرا قويا لما يمكن أن يحققه الحزب في الانتخابات النيابية المقررة عام 2015.
نظام حكم رئاسي أو شبه رئاسي
يخوض إردوغان السباق الرئاسي متطلعا إلى أن يغدو الرئيس الثاني عشر لتركيا والبقاء في الرئاسة لمدتين رئاسيتين حتى يدرك العام 2023 وهو رئيس واسع الصلاحيات والسلطات للجمهورية التركية، في اطار نظام حكم رئاسي أو شبه رئاسي حسبما اكد قبل نهاية يوليو ،بما يعينه على إتمام مشروعه الهادف إلى بناء الجمهورية الثانية التي ينتوي الإعلان عن نشأتها في العام ذاته بالتزامن مع إعلان أفول جمهورية أتاتورك الأولى التي تأسست عام 1923 بعد مئوية حفلت بالتقلبات والانعطافات.
[caption id="attachment_55251914" align="alignleft" width="300"]

وقد دشن إردوغان حملته الرئاسية بشعار براق هو «تركيا جديدة 2023» طوى بين ثناياه ملامح جمهوريته الجديدة، التي يسعى إلى إرساء دعائمها بعد تعظيم صلاحيات رئيس الدولة، كما لن يبقى لمدة رئاسية واحدة تمتد لسبع سنوات، وإنما سيحق له الاستمرار لمدتين كل منهما خمس سنوات، بموجب تعديلات طالت الدستور الحالي في العام 2008. وقد حدد إردوغان أبرز معالم جمهوريته الجديدة كالتالي:
أولا: التخفيف من غلواء العلمانية الفرانكفونية الأصولية المتطرفة المعادية للدين والقوميات غير التركية، التي تبناها أتاتورك ومن والاه، وتحويلها إلى علمانية أنجلوساكسونية غير معادية للدين أو القوميات غير التركية في سياق ما اصطلحت النخب الفكرية المغاربية على تسميته «العلمانية المؤمنة»، الأمر الذي يستوجب مصالحة الأتراك مع تاريخهم ومع الإسلام الذي همشه أتاتورك، ومن سار على خطاه من الكماليين، ومن ثم تضمن شعار حملة الانتخابات الرئاسية لإردوغان اسم النبي محمد (ص) بالعربية ما أثار جدلا واسعا في تركيا، لم يخل من احتجاج على مزجه السياسة بالدين، كما غذى مخاوف أتراك كثر من نيات إردوغان الخفية لاستغلال إنجازاته وشعبيته ومنصبه الجديد من أجل أسلمة الدولة وإرساء دعائم «العثمانية الجديدة».
وثانيا: إبقاء الجيش بمنأى عن السياسة، وتطوير التجربة الديمقراطية، والتقدم في تطبيع الحياة السياسية والاجتماعية، ورفع مستوى الرفاهية، ووضع تركيا بين قائمة الدول الرائدة في العالم.
وبعدما تعهد إردوغان بأن يكون شعب تركيا الجديدة أهم وأكبر من الدولة وإنهاء كل مشكلاتها ، وفى القلب منها القضية الكردية والإرهاب، لم يفوت الفرصة للتعريض بجماعة الداعية فتح الله غولن، مكررا رفضه تغلغل المنظمات التي تستغل الدين داخل الدولة، وتشكيلها دولة موازية، كما لم يتورع عن اتهام أحزاب المعارضة باللجوء إلى أساليب ملتوية، بالتعاون مع الدولة الموازية، لانتزاع منصب الرئاسة بطرق غير شريفة أبعد ما تكون عن السياسة.
[blockquote]خارطة السباق الرئاسي التركي تنحصر بين إردوغان، وأوغلي، مرشح المعارضة اليسارية والقومية، وديمرطاش، مرشح حزب السلام والديمقراطية الكردي[/blockquote]
ورغم إعلانه التمسك بموقف بلاده الرافض لاستقلال إقليم كردستان العراق، لم يبد إردوغان ممانعة قوية هذه المرة للإجراءات التي شرع في اتخاذها مؤخرا مسعود بارزاني رئيس الإقليم توخيا لهذا المقصد، وفى العاشر من يوليو وقبل شهر من إجراء انتخابات الرئاسة، وافق البرلمان التركي على مقترح لحزب العدالة بوضع إطار قانوني لمحادثات السلام مع النشطاء الأكراد، عرف بمشروع قانون «إنهاء الإرهاب وتمتين الوحدة المجتمعية» كحلقة في سلسلة الإجراءات الرامية إلى حل القضية الكردية بالطرق السلمية، وإنهاء تمرد مضى عليه ثلاثة عقود أودى خلالها بحياة 40 ألف شخص. وقد لجأ إردوغان إلى استصدار هذا القانون لتوفير الحماية القانونية ومنح الحصانة القضائية لفريقه الذي يتفاوض مع حزب العمال الكردستاني المحظور وزعيمه عبد الله أوجلان منذ العام 2012 بغرض حقن الدماء وإنهاء العنف عبر نزع سلاح الحزب وإعادة إدماج مسلحيه.
قانون «التسوية السلمية»
وبينما سعى ساسة مؤيدون للأكراد طويلا إلى إصدار مثل هذا القانون الذي يزيل خطر محاكمة من يشاركون في المحادثات إذا تحول المناخ السياسي في تركيا ضد عملية السلام في المستقبل، لم يتم التوصل إلا إلى بنود قانونية محدودة تعطي مشروعية لهذا التفاوض، بينما جرى تخفيف مسودة سابقة كانت تعرض حصانة أوسع لمسؤولي الحكومة الذين يشاركون في عملية السلام مع الأكراد، وذلك بعد تشكيك نواب المعارضة في دستوريتها كونها تسمح لمسؤولين أتراك بالتفاوض مع كيان تعتبره السلطات التركية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منظمة إرهابية.
[caption id="attachment_55251915" align="alignright" width="213"]

وفى حين شكر عبد الله أوجلان كل من ساعد على إصدار قانون «التسوية السلمية» الذي أقره البرلمان بأصوات نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم والنواب الأكراد، في مقابل مقاطعة اليسار وتصويت القوميين ضده، معتبرا القانون الذي يمنح الحكومة الحق في التفاوض مع حزبه من أجل نزع سلاحه وتأمين عودة مسلحيه إلى تركيا واندماجهم في الحياة السياسية والاجتماعية بها، خطوة على الطريق الصحيح وطالب بمزيد من القوانين التي من شأنها أن تساهم في تسوية القضية الكردية، شكك زعيم الجناح العسكري في الحزب الكردستاني، جميل بايك، في نيات حكومة إردوغان، التي اعتبر أن القانون سيتيح لها متابعة سياسة المماطلة والتسويف التي تتبعها في التفاوض مع الأكراد، مشددا على أن الحزب لن يلقي سلاحه قبل نيل الأكراد حقوقهم كاملة وفي شكل دستوري. ومن جانبه، اعتبر رئيس حزب الحركة القومية، دولت باهشلي، القانون خيانة عظمى للحكومة في حق الشعب والجمهورية التركيين، متهما الحكومة بالسعي إلى تقسيم تركيا والتفاوض مع الإرهابيين، وحذر من نتائج تفعيل القانون على الأرض.
وإلى جانب حرصه على اجتذاب الصوت الكردي إذا ما اضطر لخوض جولة إعادة يوم 24 أغسطس، التي لن يتسنى للمرشح الكردي ديمرطاش المشاركة فيها، لأنه سيكون قد خرج من الجولة الأولى للاستحقاق الرئاسي.
ربما استند إردوغان في موقفه الجديد بهذا الصدد إلى اعتبارات شتى، فإلى جانب المغانم الاقتصادية الهائلة المتوقع لتركيا أن تجنيها من التعاون مع كردستان العراق والمتمثلة في عوائد تصدير نفط الإقليم عبر ميناء جيهان التركي، علاوة على الاستثمارات الضخمة لرجال الأعمال الأتراك في الإقليم، تأمل تركيا في أن تكون دولة كردستان العراق حائط صد في مواجهة تمرد حزب العمال الكردستاني؛ حيث أكدت حكومة أربيل مرارا أنها تحترم السيادة التركية، وأنها لن تتدخل في العلاقة بين حكومة أنقرة ومواطنيها الأكراد، كما لم يتورع مسعود برزاني عن طمأنة تركيا وإيران، أنه لا يمكن أن يعتبر أكراد البلدين جزءًا من إقليمه أو دولته الجديدة حالة إعلانها. وقد يريد الأتراك دولة كردستان العراق فاصلا بين بلادهم والفوضى العارمة التي تجتاح المنطقة، الأمر الذي بدا جليا في تصريح المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم حسين جيليك، لصحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية، الذي قال فيه: «استعدوا لقبول دولة كردية مستقلة في شمال العراق، فالتقسيم أمر حتمي والأكراد أشقاؤنا».
وفى إطار مساعيه الحثيثة لتعزيز موقفه التنافسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة واستمالة أطياف تركية كثيرة للتصويت لصالحه، هرع إردوغان لإطلاق بعض المبادرات ذات السمت الانفتاحي التصالحي حيال الداخل والخارج، فتزامنا مع اقتراب موعد الاقتراع، أصدر أمرا بفتح المنفذ الحدودي لبلاده مع أرمينيا، ما دفع المعارضة القومية ممثلة في رئيس حزب الحركة القومية المعارض دولت بهشلي لاتهامه بالتضحية بالثوابت القومية، في سبيل طموحاته الرئاسية.
تحديات دستورية
رغم أن التحول من رئاسة الوزراء إلى رئاسة الدولة ليس بالأمر المستحدث في تركيا، وإنما سبق إردوغان إليه كل من عصمت إينونو، وتورجوت أوزال، وسليمان ديميريل. برأسها تطل تحديات دستورية كثيرة أمام إردوغان، فوفقا للمادة 76 من الدستور التركي، يتعين على أي شخص يشغل منصبا حكوميا أن يستقيل من مهام عمله بعد أن يتم الإعلان رسميا عن ترشحه لخوض الانتخابات الرئاسية، كما سيتوجب على إردوغان الذي يترأس الحكومة منذ العام 2003 أن يتخلى عن منصبه قبيل إجراء الانتخابات التشريعية عام 2015 بموجب اللائحة الداخلية لحزب العدالة والتنمية التي تحظر على أعضائه تمثيل الحزب بالبرلمان أو رئاسة الحكومة لأكثر من ثلاث فترات متتالية.
وبينما رفضت لجنة الانتخابات العليا التركية بالإجماع يوم 13 يوليو، 15 مطلبا رسميا باستقالة رئيس الوزراء إردوغان من منصبه ومن رئاسة حزب العدالة، عقب تأكيد ترشحه للرئاسة، يشكل إصرار إردوغان على الجمع بين رئاسة الحزب ورئاسة الدولة تناقضا مع الدستور الذي يؤكد منذ العام 1961 ضرورة حياد الرئيس والفصل بين المنصبين، فلقد أكد نعمان كورتلموش نائب رئيس حزب العدالة أن إردوغان رئيس الحزب سينتقل من رئاسة الوزراء إلى رئاسة الجمهورية، وسيصبح القائد الأعلى للقوات المسلحة، منهيا بذلك الحياد الحزبي للرئيس باعتباره رمزا للوحدة وعصر التوازن بين القوى السياسية.
ويبدو أن إردوغان وبعض خلصائه يرون في انتخاب الرئيس للمرة الأولى بالاقتراع العام السري المباشر، وليس من خلال البرلمان كما كان في السابق مسوغا سياسيا كافيا لتحرره من هذا القيد الدستوري، وأن ما سيحدث سيكون إخضاع مؤسسة الرئاسة، بعد مؤسسات سبقتها على هذا الطريق، لحكم الحزب وهو ما عبّر عنه إردوغان نفسه بالقول: «إرادة الشعب ستنصهر مع إرادة الدولة لتصبحا شيئا واحدا مع الرئيس الجديد الذي لن يكون رئيسا بروتوكوليا»، مؤكدا عزمه على تحويل تركيا إلى نظام رئاسي، سواء من خلال تغيير الدستور أو من خلال أمر واقع بفعل علاقته التي لن تنقطع مع الحزب المتفرد بالسلطة، وإن في شكل غير رسمي؛ حيث أكد مجددا دمج مؤسسة الرئاسة في الحياة السياسية، وهو الأمر الذي أجج مخاوف المعارضة من تداعيات شروع إردوغان في تجاهل الدستور وفرض سياسة الأمر الواقع عبر المضي قدما في فرض النظام الرئاسي والجمع بين رئاسة الدولة والحزب.
وإذا نجح إردوغان في الفوز برئاسة تركيا فسيحتاج إلى برلمان أليف ورئيس وزراء موالٍ له أو متوافق معه حتى يضمن صلاحيات أوسع، وكي يمرر سياساته وبرامجه من دون عقبات أو ممانعة، وهو ما لن يتأتى من دون حصول حزبه على الأغلبية البرلمانية في انتخابات العام المقبل وتوفر مستوى عال من التنسيق والتناغم بين رئيس الدولة وكل من رئيسي البرلمان والحكومة.
ارتباك حزب العدالة
رغم حصول إردوغان على تأييد واسع لترشحه للرئاسة داخل حزب العدالة؛ حيث صوت أغلب أعضاء الحزب لصالحه خلال اقتراع سري، قد لا يسلم الحزب الحاكم من تداعيات إصرار إردوغان على خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة بنية الجمع بين رئاسة الحزب ورئاسة الدولة مع توسيع صلاحيات الرئيس، فهناك أصوات لا تبدو راضية عن هذه الصيغة الاحتكارية لمستقبل الحزب، خصوصا أن إردوغان تفرد أيضا بتسمية خليفة له في زعامة الحزب لم يعلن اسمه بعد، ويرجح ألا يكون من القيادات المؤسسة القديمة، فالشائعات تحيط ببعض رجال إردوغان الذين يثق بهم من مستشاريه ووزير خارجيته داود أوغلو ورئيس جهاز الاستخبارات، هاكان فيدان الذي بات اسمه مطروحا لتولي حقيبة الخارجية، أو النائب نعمان كورطولموش، أو وزير الاتصالات السابق بن علي يلدرم، الملقب بكاتم أسرار إردوغان، باعتبار أن الأخير سيحتاج إلى أمين سر ينفذ له سياساته الداخلية والمالية بصمت وثقة، وهو ما دفع بقيادات مؤسسة للحزب مثل بولنت أرينش، وبشير أطالاي، ومحمد علي شاهين إلى التلويح بضرورة عودة عبد الله غل لقيادة الحزب، وإعادة النظر في هيكله ومجمل سياساته.
[caption id="attachment_55251916" align="alignleft" width="300"]

ويدور حديث عن نية إردوغان تصفية جميع القادة القدامى خلال الانتخابات البرلمانية المرتقبة العام المقبل، لسببين: أولهما، أنهم لم يقفوا معه وقفة قوية، كما يرى، في أزمة اتهامات بالفساد طالته وعددا من أفراد عائلته ووزرائه. وثانيهما، أن غالبيتهم قد استنفدت المدد الثلاث كنواب في البرلمان، ومن ثم سيكون من الصعب عليهم تقلد مناصب قيادية وفقا للائحة حزب العدالة، وإذا ما بقى عبد الله جول وعدد من القادة المؤسسين للحزب خارج دائرة المناصب القيادية في الحزب أو الرئاسة أو الحكومة، فستتعاظم احتمالات حدوث انشقاقات أو تصدعات داخل حزب العدالة.
وليس من المستبعد تكرار سيناريو تورجوت أوزال وحزب الوطن الأم مطلع تسعينات القرن الماضي بعد انتقال أوزال من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الدولة، مع إردوغان وحزبه هذه الأيام، فقد جرى تشكيل حزب الوطن الأم في 20 مايو (أيار) 1983 بزعامة أوزال، وفاز في انتخابات 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1983 بأغلبية ساحقة وانفرد بالسلطة؛ حيث حصل على نسبة 45.14 في المائة من الأصوات، وفي انتخابات 29 نوفمبر 1987 حصل مرة أخرى على أغلبية أصوات الناخبين بنسبة 36.31 في المائة وانفرد بالسلطة.
وبعد أن جرى انتخاب أوزال رئيسا للجمهورية في التاسع من نوفمبر 1989 تسلم زعامة الحزب شخص آخر هو يلدرم أق بولوط، ومنذ ذلك التوقيت بدأ رصيد الحزب شعبيا يتراجع، وبينما كان حزب الوطن الأم يعتبر في وسط اليمين، لينجح أيام ازدهاره بزعامة أوزال في جمع فئات مختلفة يمينية ويسارية ومتدينة تحت مظلته ويتمكن من كسب شعبية واسعة خولته لاكتساح الانتخابات البرلمانية مرتين متتاليتين، وبعد زعامة مسعود يلماظ له بدأ الحزب يفقد تلك الروح تماما، الأمر الذي تسبب في انفصال قادته البارزين منه وانضمامهم إلى أحزاب أخرى. وأخذ الحزب ينزف شعبية؛ حيث انخفضت نسبة الأصوات المؤيدة له إلى 24 في المائة في انتخابات 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1991، ليحل ثانيا في البرلمان بعد حزب الطريق القويم، وخلال انتخابات 24 ديسمبر (كانون الأول) 1995 خاض حزب الوطن الأم السباق بزعامة مسعود يلماظ وحل ثانيا في البرلمان حاصلا على نسبة 19.66 في المائة، وجرى تشكيل حكومة ائتلافية بمشاركة حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيلر وكان يلماظ رئيسا للوزراء، وفي انتخابات 18 أبريل (نيسان) 1999 انخفضت نسبة أصوات المؤيدين إلى الحد الأدنى؛ حيث حصل على 13.2 في المائة وحل رابعا في البرلمان، لكنه شارك في الائتلاف الحاكم الذي جرى تشكيله بين أحزاب ثلاثة؛ هي: حزب اليسار الديمقراطي، وحزب العمل القومي، وحزب الوطن الأم، وهي الحكومة التي أدارت شؤون البلاد منذ ذلك الوقت، وفي خمسة مايو 2005 اندمج حزب الوطن الأم مع حزب الطريق القويم ليشكلا سويا الحزب الديمقراطي التركي.
وبناء عليه، ليس من المستبعد بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، إذا ما لم يتمكن من تجاوز مشكلاته وصراعاته الجيلية الداخلية، أن يشهد انقساما قد يسفر عن ظهور حزب جديد من داخله، أو أن يندمج مع حزب آخر كما جرى مع حزب الوطن الأم.