الأحساء.. «أم النخيل» وفاتنة الشعراء

الأحساء.. «أم النخيل» وفاتنة الشعراء

[caption id="attachment_55253443" align="aligncenter" width="620"]نخيل الأحساء نخيل الأحساء[/caption]

[blockquote]قبل سنوات، كتب الشاعر السعودي الراحل، الدكتور غازي القصيبي قصيدته «أمّ النخيل»، وعنى بها الأحساء، لكنه عبّر عن عاطفة جياشة تربطه بهذه الواحة الضاربة جذورها في التاريخ، فالقصيبي الذي عاش من دون أمّ، وجد في الأحساء «أمًّا» يهديها أعذب قوافيه، فقال:
أمَّ النخيل!... هبيني نخلة ذَبُلتْ
هل ينبتُ النخلُ غضًّا بعد أن ذَبـُلا؟
يا أمُّ.. رُدّي على قلبي طفولَته
وأرجعي لي شبابًا ناعمًا أفِلا
وطهّري بمياهِ العينِ.. أوردتي
قد ينجلي الهمُّ عن صدري إذا غُسـِلا[/blockquote]


لكل مدينة سحرها، لكن للأحساء سحر الأساطير. فهي عاصمة النخيل التي تأسر قلوب زوارها كما تلف بالشوق أفئدة أبنائها. تفاجئ القادمين إليها بسحر البسمة، وعذوبة الكلمة، وكرم الضيافة، حتى لترخي النخيل أعنتها أمام القادمين.
الأحساء التي يصفها شاعرها جاسم الصحيّح بأنها «تتجاوز خارطتها الجغرافية الضيقة إلى خارطتها الأوسع في قلب إنسانها المرابط على ثغور الذاكرة لتبقى طرية طازجة وقويّة، فأخطر موتٍ في الحياة هو موت الذاكرة الوطنيّة عند الشعوب».
هي واحة النخيل التي يتحد فيها هوى الشعراء مع قامات النخيل الباسقات، التي تنبت الأرض فيها شعراءَ، مثلما تنبت النخيل، وحيث تجري فيها بحور القصيد، كما تجري مياه الساقية، وحيث يرتشف الأطفال في المهد حبّ الأبجدية، وموسيقى بحور الشعر، ووزن القافيات، كما يرضعون حبّ الأرض.
فكل الشعراء الذين أنجبتهم الأحساء أو الشعراء الذين مرّوا بها هاموا بها عشقًا، ولم يكن القصيبي وحده الذي ارتمى في حضن الأرض، واعتبرها أمه، جاسم الصحيح، هو الشاعر الذي قال عن الأحساء:

[blockquote]
أُسَمِيكِ أُمِي كي أوفِـي لَكِ الأسما
فبينكُما في نطفتي وحدة عُظْمَى!
أُسَمِيكِ أُمِي.. والأمومة موطنٌ..
بمقدارِ ما (ننمو) عليهِ لهُ (نُنْمَى)!
أُحِبُكِ يا (أحساء) في كلِ كِسْـَرة
من الطينِ شَعَتْ في يدي قَمَرًا تَـما
أنا ابْنُكِ فَلاَحُ القوافـي، فطالما
طَبَعْتُ بمحراثي على قاعِها خَتْماَ
أُحِبُكِ يا (أحساء) في كلِ نظرة
إلى الحقلِ صَلَتْ بـي إمامًا ومُؤْتَـما
وصدري الذي لو ضَمَ ألفَ جميلة
تَظَلُ جذوعُ النخلِ أجملَ ما ضَما[/blockquote]


وحين نسأل الشاعر الصحيّح عن الأحساء، يجيب: «دائمًا ما تبدو لي الأحساء في حالة من الخشوع واقفة في حَرَمِ الجذور تمارسُ طقوسَ الحُلْمِ بالعودة إلى الحقل، وتنتظر عودة الفلاَّحين الذين ترتفع قاماتُهم بطول الأشجار.. وتمتدُّ أذرعتهم بطول أذرعة الينابيع.. وتعبق أنفاسهم برائحة العشب والندى والمطر. أمَّا أنا فلا بدُّ أن أعترف أنَّني حينما أكتب عن الأحساء، لا أستطيع الانفلات من أحاسيسي القرويَّة، فالأحساء بالنسبة لي ليست سوى سربٍ من القُرى مسافرٍ باتجاه المدنيَّة وآمَلُ له ألاَّ يَصِلَ أبدا».
تمتد الأحساء بين قوافي الشعراء ومهجهم، وتتبادل معهم العاطفة، تلهمهم تارة وتستوفي منهم القوافي تارة أخرى، لذلك فالباحث عن الأحساء يجدها أول ما يجدها في بحور الشعر، وقصائد الشعراء كتعبير عن علاقة الإنسان بالأرض التي يحبها ويعشقها.
نقرأ ما يقوله الشاعر جاسم عساكر، مخاطبا الأحساء:


[blockquote]
مازلتِ ساهرة على الميثاقِ
تتصيّدينَ خواطرَ العُشَّاقِ
وتُحلِّقينَ على ارتفاعِ كرامة
من روحهمْ، عُلوية الآفاقِ
وتهرّبينَ رسائلَ العشبِ التي
كُتبتْ بماءِ الفضة الرقراقِ
التمرُ قافية القلوبِ ووزنُها
والشعرُ بعضُ مواهبِ الأعذاقِ[/blockquote]


أما الشاعر الشاب حيدر العبد الله الذي حاز لقب «أمير الشعراء»، فيقول:

[blockquote]
الشعرُ والتمرُ يا أحساء عيناكِ
وثغرُكِ الماءُ والدنيا حكاياكِ
لمّا نظرتِ إلينا وابتسمتِ جرى
نهرا قصيدٍ ونخلٍ من مُحيّاكِ
[/blockquote]

عراقة الأحساء لا حدّ لها، حيث تبدو كقطعة نفيسة من تراث. ففي كل زاوية تاريخٌ ينبض، وعند كل مفرق تراثٌ يتكلم. وبين بساتينها تكتنزُ الحكايات. زائر الأحساء لا يملّ ولا يسأم، فحيثما توجه ثمة تاريخ وتراث، وأينما جلس ثمة شعر وأدب. وكلما شعر الإنسان بالحنين للعودة لحضن الماضي الجميل، وكلما حنّ للسفر إلى حيث الأصالة والجزالة والتراث العريق، كانت الأحساء تفتح ذراعيها لتروي غليل المحبين.
زائر الأحساء الذي يقصد الطريق الزراعي المسمى طريق القرى يدخل وسط واحة زراعية متناهية الجمال، ويمر عبر قنوات المياه التي تشق طريقها، وفي كل زاوية يقف شباب محليون يسوقون منتجات البساتين من الرطب والتين والرمان والليمون، وكانت الأحساء تزخر بالعيون الطبيعية التي تجاوزت ستة آلاف عين.

وعبر الأفق ينتصب جبل القارة أبرز المعالم السياحية الطبيعية في الأحساء، وأكثر المواقع التاريخية شهرة، بالإضافة لوادي صبصب الأخضر، وبحيرة الأصفر، وجبل الأربع، وجبل الملح الكبير، ومسجد جواثا التاريخي، وسجن البارون العثماني، وقصر إبراهيم الشهير، ومسجد القبة الذي يقع في الركن الجنوبي الغربي للقصر، وقصر المجصة جنوب بلدة الطرف، وقصر «صاهود» في مدينة المبرز، وقصر «خزام» الذي كان أول الحصون التي سقطت في يد الملك عبد العزيز ليلة الخامس من جمادى الأولى سنة 1331هـ (1910). بالإضافة لسوق القيصرية التراثي التاريخي الشهير.
font change