ماكرون بين الشعبوية والطموحات الإيرانية

ماكرون بين الشعبوية والطموحات الإيرانية

* مرة جديدة، تستهوي الجماهير الشعارات الشعبوية والمطالبات المستحيلة، لكن السواد الأعظم من اللبنانيين باتوا يعانون ليتمكنوا من شراء ربطة خبز لأطفالهم أو تأمين علبة حليب... ورفض كل ما هو مطروح دون تقديم بديل، هو لعبة عبثية وشعبوية، يستطيع أن يلعبها من لا يحمل مسؤولية بلد وشعب.

عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت كما وعد، جاءت زيارته الثانية في خلال أقل من شهر بعيد زيارته الأولى عقب انفجار مرفأ بيروت، وكما زيارته الأولى كذلك الثانية، حاول ماكرون لعب دور المنقذ بأسلوب شعبوي يدرك الفرنسيون أنه يدغدغ مشاعر سكان المنطقة.
في المرة الأولى استهل زيارته بتفقد المناطق المتضررة جراء الانفجار، وبمواساة الأهالي ومصافحتهم ومعانقتهم بعدما انتزع كمامته، خطوة لاقت ترحيبا كبيرا في زمن كورونا، أما زيارته الثانية فاختار أن تكون أولى محطاتها منزل فيروز التي يجمع غالبية اللبنانيين والعرب على أنها أجمل صورة بقيت من لبنان، وإن كان عدد لا بأس به من اللبنانيين طالبوه بعودة الانتداب الفرنسي خلال زيارته الأولى، إلا أن الحماسة خمدت قليلا خلال زيارته الثانية، دون أن تنطفئ.
لم يأت ماكرون بجديد جدي، أراد استغلال الفراغ الكبير الذي تعيشه المنطقة كما لبنان، منذ انكفاء الدور العربي والانسحاب الأميركي من ملفات المنطقة ومشكلاتها، ليبرز كأحد زعماء العالم الذين لا يزالون مهتمين بمشكلاتنا اللامتناهية في دول الشرق الأوسط.
اهتم ماكرون بصورة الزيارة وصورته أكثر بكثير من اهتمامه بالمضمون، لم يطرح أي شيء من خارج صندوق الحلول المكررة والمجربة، فأتت مبادرته لتعيد تثبيت قواعد اللعبة السياسية في لبنان من دون تحقيق خرق جدي والاكتفاء بالإصلاحات التي نص عليها مؤتمر سيدر، وبعض التغييرات الشكلية، فالإصلاحات التي طرحها ماكرون اليوم هي نفسها الإصلاحات التي طالب بها مؤتمر سيدر ورفضها البعض، وتحديدا التيار الوطني الحر، خصوصا تلك المتعلقة بملف الطاقة والكهرباء الذي يشكل جزءا كبيرا من أسباب الهدر والفساد، بينما التغييرات في شكل الحكومة فهي نفسها التي طالب بها عدد من الأحزاب والمجموعات المنتمية لحراك «17 تشرين»بعد انطلاق حراكهم واستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري؛ حكومة اختصاصيين خالية من السياسيين لا حكومة محاصصة بين الأحزاب والطوائف. وللتذكير، فإن حكومة الرئيس السابق حسان دياب اعتبرت بداية أنها حكومة مستقلين وتكنوقراط، لتثبت خلافات الأفرقاء المشاركين بها بعد أسابيع مدى ارتباطها بالسلطة الحاكمة، بعدما كانت أحزاب ومجموعات من الحراك طالبت بإعطائها فرصة.
إذن رمى ماكرون طوق النجاة للسلطة، والأسوأ أنه تعاطى مع سلاح حزب الله، كما تتعاطى الأحزاب والشخصيات اللبنانية معه منذ أشهر سلاحه بوجههم واغتال قياداتهم، «أمر واقع ولا قدرة لنا إلا على التعاطي معه كما هو».
ولكن في الحقيقة، ماكرون لم يرم طوق النجاة للسلطة فحسب، بل أيضا للبنان، وإن كانت مبادرته سيئة جدا، إلا أن الأسوأ أن لا مبادرة جدية أخرى مطروحة في الوقت الحالي، والتجارب أثبتت أن اللبنانيين دوما يحتاجون إلى طرف خارجي يبادر ليجمعهم؛ فلبنان وصل إلى أفق مسدود، وقبل أسابيع تسربت أنباء عن أن حاكم مصرف لبنان أبلغ حكومة دياب أن احتياط مصرف لبنان يكفي لثلاثة أشهر فقط، وبعدها لا قدرة لدى المصرف لدعم الوقود والدواء والقمح، في الوقت نفسه لم تقدم مجموعات الحراك المتنوعة أي رؤية لشكل الحل الذي ترغب فيه، بل إنها في كل مرة تتهم السلطة بأنها تعيد إنتاج نفسها من خلال الاستشارات النيابية الملزمة، وكأن ثمة طريقة أخرى دستورية لتسمية رئيس حكومة.
قد تكون حكومة الرئيس المكلف مصطفى أديب إن شُكلت أسوأ من سابقاتها، إلا أن الضغط الفرنسي مدعوما بضغط دولي قد يضطرها إلى القيام ببعض الإصلاحات الجدية والضرورية.
وإن كان لفرنسا ورئيسها مصالح بالتهدئة والتسوية مع إيران انطلاقا من بيروت ومرورا ببغداد، ظنا منه، أي ماكرون، أن إيران لن تنسى المعروف في حال فشل ترامب بالانتخابات، ونجاح الديمقراطيين، وإعادة إحياء اتفاق نووي ولو كان معدلا، فهذا لا يلغي أن ماكرون قد يكون نجح بأحسن الأحوال بتأجيل الانهيار التام في لبنان. ولكن ماذا عن اللبنانيين، معارضين من داخل الأحزاب التقليدية أم من الحراك، ما الذي يمنع التقاءهم على الحد الأدنى، وكيف للحراك أن يطالب بحكومة من خارج السلطة إن كان لم يضغط إلى الآن من أجل إعادة تشكيل السلطة من خلال انتخابات أهم ما فيها القانون الذي ستتم على أساسه؟ وكيف لبلد الطوائف المتعددة أن تتوحد مطالبة بالتغيير إن كان بعض رجال الدين مصرين على رسم خطوط حمراء حول زعماء طوائفهم؟ إن لم يكن بإمكان اللبنانيين وحدهم إيجاد حل لأصل الفساد، أي حزب الله وسلاحه الذي تحول إلى مسألة إقليمية ودولية، ولكن بالتأكيد بإمكانهم إن هم أرادوا إنتاج سلطة لا تتماهى بغالبيتها مع الميليشيات.
مرة جديدة، تستهوي الجماهير الشعارات الشعبوية والمطالبات المستحيلة، لكن السواد الأعظم من اللبنانيين باتوا يعانون ليتمكنوا من شراء ربطة خبز لأطفالهم أو تأمين علبة حليب... ورفض كل ما هو مطروح دون تقديم بديل، هو لعبة عبثية وشعبوية، يستطيع أن يلعبها من لا يحمل مسؤولية بلد وشعب.

font change