حروب الخاسرين

حروب الخاسرين

استمع إلى المقال دقيقة

باغتت حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 إسرائيل، كذلك فعل "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، خمسون عاما بين الحربين، وكل حرب منهما، كانت نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، ويمكن القول إن كلتا الحربين هما آخر الحروب. الحرب الأولى كانت آخر الحروب، التي تخوضها الدول العربية ضد إسرائيل، وانتهت باتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، وإن كان من المبكر الحديث عن النتائج النهائية للحرب الثانية أو "الطوفان" فإن المعطيات والأحداث كلها، تشير إلا أنها كانت بداية نهاية عصر الميليشيات التي حلت محل الكثير من الدول، وبداية نهاية سيطرة إيران على دول عربية، بذريعة القضية الفلسطينية، وآخر حرب تشنها الميليشيات الموالية لإيران.

في الحرب الأولى أو حرب أكتوبر، خرج رجل شجاع انتصر في الحرب، فلم يخش السلم، وإن كانت الآراء حتى هذه اللحظات، تختلف في تقييم ما فعله الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وتتراوح هذه الآراء بين من يتهمه بالخيانة، ومن يرى فيه رجلا سبق عصره، وقرأ المرحلة بدهاء، وجنب بلاده المزيد من الحروب دون أن يتنازل عن أرضه.

هل كان بإمكان حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة أن تجنح للسلم، بعدما باغتت عدوها الإسرائيلي في السابع من أكتوبر؟ الجواب من وجهة نظري ليس بهذه البساطة، فالسادات كان مصريا خالصا، بينما لـ"حماس" ارتباطات وأجندات إقليمية، أبعد من فلسطين والأرض والشعب، وهو ما دلت عليه تصريحات قادتها مرات ومرات، رئيس الحكومة الإسرائيلي أيضا ما كان ليرضى بأقل من استسلام "حماس" بعد الصفعة القوية التي تلقاها، "حماس" نفسها كانت تكابر وتعلن أن معركتها هي معركة بقاء الحركة، لا معركة حياة الفلسطينيين أو قيام دولتهم، هذا إن اكتفينا بقراءة المشهد بعد "طوفان الأقصى" بأسابيع قليلة، أما اليوم فالمشهد مختلف.

قبل عامين صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك نفتالي بينيت أن إسرائيل ستستهدف رأس الأخطبوط، أي إيران، ولن تكتفي بمخالب إيران وأذرعها

قبل عامين صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك نفتالي بينيت، بأن إسرائيل ستستهدف رأس الأخطبوط، أي إيران، ولن تكتفي بمخالب إيران وأذرعها. لقد أعطى السابع من أكتوبر لإسرائيل كل ما ترغب فيه، لتتمكن من تنفيذ رؤيتها، شلت أذرع إيران، من "حماس" إلى "حزب الله" الذي قرر دخول المعركة لإسناد غزة، فانتهت المعركة بإصابته بشلل شبه تام، سقط نظام بشار الأسد في سوريا بعد 14 عاما، شن خلالها الأسد مع إيران وأذرعها حربا شرسة على السوريين، واليوم انتقلت المعركة إلى الداخل الإيراني.

وإن كانت إسرائيل قد تفاجأت بعملية "طوفان الأقصى" فإن الأحداث جميعها تدل على أن استعداد تل أبيب للمعركة، قد بدأ قبل سنوات طويلة، هذا الخرق الأمني الهائل، اغتيال فايز شكر، وإسماعيل هنية، وحسن نصرالله، وعملية البيجر، واستهداف اجتماع القنصلية الإيرانية في دمشق، واليوم العملية التي شنت ضد إيران من داخل إيران، وغير ذلك الكثير، يدل على أن إسرائيل كانت تتحضر منذ سنوات، ولولا أن الأحداث دلت على أن الخرق الأقل كان في الساحة الفلسطينية، لكان بالإمكان القول كما يقول المؤمنون بنظرية المؤامرة إن إسرائيل كانت على علم بالعملية قبل حصولها ولم تمنعها.

ربما ما يحدث الآن يمكننا تسميته بنهاية عصر حروب الأيديولوجيات

اليوم إن انتهت المعركة بعودة إيران إلى طاولة المفاوضات، ويصح تسميتها- بالشروط المسربة- "استسلاما"، أم أصرت على استمرار الحرب، بكلتا الحالتين هو موت لمشروع الجمهورية الإسلامية في المنطقة، والذي اتخذ فلسطين ذريعة، هو موت وإن كان برصاصة الرحمة أو بتجرع السم.

ربما ما يحدث الآن يمكننا تسميته بنهاية عصر حروب الأيديولوجيات، فـ"حماس" خسرت، لأنها فضلت الأيديولوجيا على الوطن، والنظام الإيراني الآن أمام اختبار قاس، سيضعه في لحظة الحقيقة، ليختار هل يحمي الدولة أم سيرتكب نفس خطأ "حماس" و"حزب الله" ويفكر فقط في استمراره كأيديولوجيا ويسلك سلوك الميليشيات؟

وفي الطرف الآخر فإن إسرائيل أيضا تقودها الآن أيديولوجيا متطرفة، وستقف في نهاية هذه الحرب أمام السؤال الحقيقي وهو أين ستذهب، هل سترضخ للمتطرفين، وتفضل أوهامهم العقدية والأيديولوجية على مصالح الدولة أم إنها ستبدأ في التفكير بعقلانية، والسير بسلوك الدولة التي تحترم القوانين والشرائع الدولية؟

كل هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها الآن، لكن المؤكد أنه خلافا لكل الحروب، فإن هناك نوعا منها يخرج فيه الطرفان خاسرين، وهذه الحرب من هذا النوع، بغض النظر عن الشكل الذي ستنتهي به هذه الحرب.

font change