* وزير المالية السوداني: تعويم العملة الوطنية، يهدف إلى القضاء على التشوهات في الاقتصاد السوداني بردم الهوة الكبيرة بين السعرين الرسمي (55 جنيها للدولار)، والموازي (نحو 370 جنيهاً) قبل القرار
* الخطوة خليط بين اقتصاديات السوق الحرة واقتصاديات السيطرة الحكومية على الاقتصاد، ويساند هذا الاتجاه البنك الدولي الذي يقود رؤية عالمية لإحداث شراكة بين الحكومة والقطاع الخاص
* سياسة الحكومة حاليا هي تحرير الأسعار، وهي محاولة للخروج كليا من عمليات التسعير ورفع الدعم كلياً عن أي خدمة أو سلعة على أن يتم دعم الشرائح الضعيفة عبر الدعم النقدي المباشر
الخرطوم: بدأت الحكومة السودانية عمليا الأسبوع الماضي تعويم العملة المحلية، في محاولة لكبح جماح الارتفاع الهائل لأسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني، ما عدها محللون الخطوة الأولى لما يمكن تشبيهه بـ«بريستوريكا»تُعيد بناء الاقتصاد السوداني بشكل جديد عبر سلسلة إصلاحات بدأت بالتعويم وتشمل بشكل حذر تقليص دور الدولة في الاقتصاد، برفع الدعم السلعي، والتخلي عن سياسات الاحتكار، وفتح المجال واسعا للاستثمار الأجنبي، والاعتماد أكثر على تمويل الوكالات الدولية، بينما يرى اقتصاديون أن السياسات الجديدة تحول تصحبه آثار اجتماعية وسياسية عميقة وتتسبب في زيادة رقعة الفقر المنتشر أصلا، وتضع مستقبلا البلاد في إطار التبعية، لكن البعض يرى في التوجه الجديد شكلا من المواءمة بين مدرسة الاقتصاد الحر والاقتصاد الاشتراكي أو ما بات يصفه محللون بـ«الخلطة السحرية».
وكان رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك عبر في مقابلة تلفزيونية عن رؤيته لكيفية إنقاذ الاقتصاد، بالقول إن السودان سيتبع ما يعرف بـ«الاقتصاد البراغماتي»الذي يعني عدم الاستمرار في أي نهج به اصطفاف آيديولوجي، وأن المدرسة الاقتصادية التي سيتبعها السودان اقتصاديا ستكون مفصلة على احتياجاته وقدراته المحلية بالاتفاق مع الجهات الدولية مثل صندوق النقد الدولي.
واشار في خضم تقديمه هذه الرؤية إلى تجربة فيتنام الاقتصادية حيث نجحت في ربع قرن من تحديد «معجزات»على حد قوله.
والأسبوع الماضي أعلن وزير المالية السوداني الدكتور جبريل إبراهيم قرارا بتعويم العملة الوطنية، وأكد خلال مؤتمر صحافي رصدته «المجلة»أن القرار يهدف إلى القضاء على التشوهات الحالية في الاقتصاد السوداني من خلال ردم الهوة الكبيرة بين السعرين الرسمي البالغ 55 جنيها للدولار، والموازي البالغ نحو 370 جنيها قبل القرار.
وأكد أن للقرار فوائد كبيرة، حيث يساعد في جلب المنح والاستثمارات الأجنبية ويساعد في إعفاء ديون البلاد الخارجية المقدرة بنحو 70 مليار دولار.
وردا على المخاوف المتعلقة بالتداعيات السلبية للقرار، أوضح وزير المالية أن البنك المركزي يمتلك احتياطيات كافية من النقد الأجنبي للتدخل متى ما دعت الضرورة.
كما أشار إلى عدة إجراءات من بينها فرض ضرائب عالية على استيراد السلع الكمالية ووضع قوانين جديدة للتجارة والاستثمار وتسهيلات للمصدرين، وإنشاء بورصة للذهب والسلع الاستراتيجية للحد من التهريب.
كما تشمل الإجراءات دعم الأسر الفقيرة بمبلغ شهري لتخفيف وطأة القرار عليها ودعم المزارعين والمنتجين والمصدرين وتوفير السلع الضرورية للمواطن عن طريق برنامج سلعي بأسعار غير مرهقة للمواطن.
ومنذ سنوات، والاقتصاد السوداني يشهد تراجعا مخيفا، واعتبر السياسيون أن هذا التراجع هو أحد أبرز الأسباب في الثورة الشبابية التي أطاحت بنظام الرئيس عمر البشير في ديسمبر (كانون الأول) 2019، لكن الخبراء يعتقدون أن اقتصاد البلاد يعاني من اختلالات هيكلية تتطلب إصلاحا جذريا واتباع منهج اقتصادي واحد أو رؤية اقتصادية محددة للإصلاح، مشيرين إلى تجربة السودان في سبعينات القرن الماضي، حيث انتحى النظام السياسي في بداية عهد الرئيس الراحل جعفر نميري (1969-1985) الطريق الاشتراكي في السياسات الاقتصادية لكنه تحول سريعا إلى مدرسة الاقتصاد الحر، لكن دون الإيفاء باشتراطاتها الكاملة، وظل الوضع متذبذبا ولم تتم إدارة الاقتصاد السوداني برؤية واضحة منذ استقلاله عن الاستعمار عام 1956م.
إشراك القطاع الخاص
ويقول مطلعون على مناقشات طاقم الحكومة الانتقالية لـ«المجلة»إن المسؤولين السودانيين يفكرون الآن في التخلص نهائيا من أسلوب الاحتكار، ومشاركة القطاع الخاص، رغم المخاوف من أن المدرسة الجديدة قد تضع موارد البلاد في جيوب «عائلات»، وهي أيضا تُثير أسئلة حول ضمانات منع عودة الحكومة من «الشباك»بعد أن تخرج من «الباب»على حد قول المصادر.
ويُعتقد أن الخطوة تعتبر خليطا بين اقتصاديات السوق الحرة واقتصاديات السيطرة الحكومية على الأنشطة الاقتصادية، ويساند هذا الاتجاه البنك الدولي الذي يقود رؤية عالمية لإحداث شراكة بين الحكومة والقطاع الخاص، بما يضمن إشراك رجال المال والأعمال في مشاريع التنمية الكبرى والاستراتيجية وإعطاءهم الأولوية في برامج الدولة الاقتصادية.
بيد أن مشروع القانون، لا يزال يُنظر إليه بكثير من الشكوك والتساؤلات، إذ يخشى أن يؤدي خروج الدولة كاملا من النشاط الاقتصادي إلى سيطرة القطاع الخاص على موارد البلاد، خصوصا وأن القطاع الخاص في السودان لا يزال ناميا ويعتمد في إدارته على «عائلات»محدودة، وأن قدراته التمويلية لا تناسب مشروعات التنمية الكبرى التي تحتاجها البلاد، فضلا عن أن هنالك كثيرا من السلع لا تستطيع الحكومة الخروج من إدراة نشاطها لعدم قدرتها على تحمل «التكلفة السياسية»في حال عجز القطاع الخاص عن إدارتها بكفاءة.
إلا أن المؤكد هو أن الحكومة باتت على يقين بفشل نتائج مدرسة احتكار الاقتصاد، فقد شكلت النتائج الكارثية لهذا الاتجاه في الإدارة، حافزا رئيسيا لأن يُعاد النظر من جديد في الرؤية الاقتصادية الملتبسة التي ظلت الحكومات السودانية في انتهاجها منذ الاستقلال.
وعلى الرغم من أن النظام السابق المعزول ظل يزعم طيلة السنوات الماضية بأن سياسة السوق الحرة و«التحرير الاقتصادي»هي الرؤية المعتمدة، بيد أن واقع التجربة أظهر أن الدولة ظلت هي المُسيطر الخفي على كافة الأنشطة الاقتصادية، خصوصا في جانب استغلال الموارد الكبيرة ذات الربحية العالية، بل حتى الخدمات التي يُعتقد أن القطاع الخاص هو صاحب اليد الطولى فيه، يتعرض لمنافسة غير عادلة عبر شركات شبه حكومية ما بات يعرف علميا بـ«الاقتصاد الرمادي».
ويثار في هذا الخصوص حيازة المؤسسات العسكرية والأمنية على نصيب وافر من حجم الاقتصاد السوداني، بيد أن الخبير الاقتصادي عادل عبد العزيز الفكي رأى أن هذا التصنيف غير حقيقي، وهو يجري مقارنات توضح أن مجموعة الصناعات الدفاعية هي الشكل المؤسسي الذي تم تحت مظلته تجميع عدد من الشركات الفرعية التابعة للجيش، تقدر أصول وموجودات هذه المجموعة بحوالي 750 مليون دولار، يضاف اليها أصول وموجودات بنك أم درمان الوطني بحوالي 250 مليون دولار، لتكون القيمة التقديرية لكل استثمارات الجيش في حدود مليار دولار أميركي.
ويرى الفكي من خلال هذه المقارنة التي تعتمد بعض البيانات المالية الواردة في تقارير وزارة المالية، وسوق الخرطوم للأوراق المالية، والمراجع القومي، أن قيمة استثمارات الجيش هي أقل كثيراً من العديد من مؤسسات الحكومة الأخرى الاقتصادية.
واعتبر أن من شأن ذلك أن يؤدي إلى رفع القيمة السوقية للشركات المدرجة في سوق الأوراق المالية من 1.2 مليار دولار وهي القيمة الحالية، إلى حوالي 40 مليار دولار. ويمثل هذا بالطبع تحريك هائل لجمود الاقتصاد.
ورأى أن التوجه الصائب بالدفع نحو إدراج كل المؤسسات الاقتصادية الكبرى في السودان، بما فيها المملوكة للجيش وللقوات النظامية الأخرى، لأن تكون مسجلة في سوق الخرطوم للأوراق المالية مفتوحة لمساهمات المواطنين والمستثمرين، ومعروضة حساباتها في شفافية حسب قانون السوق.
إعادة هيكلة الاقتصاد
بالنسبة للمتخصص في الاقتصاد الدكتور أبو بكر التجاني الذي تحدث لـ«المجلة»فإن المدرسة التي تتبعها حكومة حمدوك الآن هي المدرسة النقدية بقيادة ميلتون فريدمان، التي تدعو لتحرير سعر صرف العملة وتحرير أسعار السلع والأجور... إلخ.
وتعتبر هذه السياسة مرحلة أولى في إعادة هيكلة الاقتصاد الذي يعاني من خلل هيكلي وتشوهات في الأسعار(Price distortions) وهو ما يعانيه الاقتصاد السوداني بالفعل.. ولهذه السياسة آثار جانبية سلبية مثل تاثيرها علي ارتفاع الأسعار وزيادة العبء علي الطبقات الفقيرة في المجتمع. لذلك، تسعي الدول لمعالجة هذه الآثار من خلال تقديم دعم نقدي لهذه الطبقات الفقيرة وحتي المتوسطة.. إلى أن يصل الاقتصاد إلى حالة ثبات في الأسعار وزيادة الإنتاج في القطاعات الاقتصادية المختلفة وتبدأ أسعار السلع في الانخفاض. وهي سياسة معمول بها في كثير من دول العالم.. لكن يبقي المهم فيها الرصد وسلامة التنفيذ والمتابعة الدقيقة لآثارها من خلال الدراسات الميدانية والمسوحات ومعالجة الآثار السالبة في أي قطاع إنتاجي أولا بأول.
ويعتبر الدكتور التجاني أن السياسة التي تتبعها حكومة بلاده الآن هي برنامج إصلاحي شامل لأن اقتصادنا فات المرحلة المؤقتة أو الجزئية لأن التدهور شامل؛ إنتاجا وتصديرا واستهلاكا... إلخ. وهناك حزمة من المعالجات جاهزة وسوف يتم تطبيقها تدريجيا.
وأكد على أن لدى السودان القدرة على استيعاب هذا البرنامج الذي يهدف إلى إعادة البناء الاقتصادي، مؤكدا أن للبرنامج آثار سلبية لكن لأن ما يتحمله المواطن الآن أكبر مما يمكن أن يحدث له من تحرير سعر الصرف لأن التحرير سوف يمكن الحكومة من توفير السلع الأساسية والأدوية والمحروقات... إلخ. وتكون هناك فرصة لاستعادة القطاعات الإنتاجية لقدرتها الكاملة على الإنتاج وبالتالي تبدأ الأسعار في الانخفاص التدريجي، موضحا أن هذه النظرية تطبق وفقا لكل بلد وظروفها الداخلية، وليس هناك تجربة تطبق بشكل كامل في دولة أخرى.
بيد أن المتخصص في الاقتصاد السوداني، الدكتور هيثم فتحي، يرى أن مهمة إعادة هيكلة الاقتصاد صعبة ولكن ليست مستحيلة، غير أن الفترة الانتقالية في السودان ليست كافية لإعادة الهيكلة لذا نستطيع أن نطلق عليها خطة إصلاح.
ويعتقد أن عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية هي مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى التحول من نمط اقتصادي إلى آخر، حسب المتغيرات والوضع الاقتصادي الذي يفرضه الواقع.
ورأى أن الإصلاح يعني تغيير التشريعات والسياسات والإجراءات لبناء نظام اقتصادي جديد بدرجة عالية من التحرر الاقتصادي بما يمكنه من تحقيق النمو والاستقرار والقدرة على الاندماج في الاقتصاد الإقليمي والعالمي.
ووصف فتحي أهمية هذه الخطوات التي تتبعها الآن الحكومة الانتقالية بأنها عملية، ولكن لا تتضمن رؤية اقتصادية لمستقبل الاقتصاد السوداني، واعتبرها إصلاحا مؤقتا لمشاكل آنيه لا تتوافق مع تعهدات الحكومة الانتقالية تجاة المجتمع الدولي خاصة المؤسسات المالية الدولية ومنها صندوق النقد الدّولي.
وأضح أن صندوق النقد الدولي ليس مؤسسة خيرية، بل إنه مؤسسة إصلاحية تعمل على ضمان استرجاع القروض من الدول التي تدينها من خلال إجراءات وإصلاحات تطلبها من الحكومات، وتختلف هذه الإجراءات من دولة إلى أخرى.
وقال إن السياسة العامة في المرحلة الحالية لدى الحكومة تهدف لتحرير الأسعار خاصة للخدمات الحكومية، وهي محاولة للخروج كليا من عمليات التسعير للسلع ورفع الدعم كلياً عن أي خدمة أو سلعة على أن يتم دعم الشرائح الضعيفة عبر الدعم النقدي المباشر.