
لعل أهم سؤال يمكن أن نطرحه على أنفسنا كمثقفين، في مجالنا الثقافي السعودي، هو: ما هو سؤالنا الثقافي الراهن؟ أعني به السؤال الكلي والجمعي والعام؟
لا شك أن الإجابة عن هذا السؤال بحاجة إلى عصف العقول، ومزيد من إعمال الفكر، وتكثيف التأمل والنظر. فهو السؤال الذي يفترض أن يبلور وجهة الثقافة، ويؤثر على روحها العامة، ويحدد لنا ماذا نريد منها، وكيف ترتبط الثقافة بحاجاتنا الملحة الراهنة والمستقبلية، وهي الحاجات التي تنتهي في حركتها إلى ما يخدم ويعزز التقدم العام، والتطور الشامل.
كما أن هذا السؤال بمثابة اكتشاف بوصلة الثقافة، وهل يمكن للثقافة أن تكون بلا بوصلة ترسم لها الطريق، وتبلور لها المسارات والاتجاهات.
والثقافة بلا سؤال ثقافي، هي ثقافة بلا وعي وبلا بصيرة بذاتها ووجودها، بحركتها وفاعليتها، بحاضرها ومستقبلها. وتصبح الثقافة في مثل هذه الحالة مشتتة، ومعرضة للتفتت والانقسام، وتتنازعها الرغبات والأهواء من كل جانب.
وهذا يعني أن البحث عن سؤالنا الثقافي، هو بحث عن جوهر الثقافة وعمقها، وهو، من جهة أخرى، بحث عن الجانب الوظيفي في الثقافة، بمعنى أنه السؤال الذي يحدد للثقافة وظيفتها، ولكن ليس أي وظيفة، وإنما الوظيفة الواعية، التي تتصل بالمتطلبات الفعلية في نطاق علاقة الثقافة بالمجتمع.
والسؤال اللافت والمحير، هو: كيف يغيب عنا مثل هذا السؤال؟ أو لا يتجدد طرحه باستمرار؟ وهو السؤال الذي يفترض أن لا يغيب عنا، لأن الإجابة عنه أو الاقتراب من هذه الإجابة، ليس فقط لا تتوقف على مجرد إبداع هذا السؤال واكتشافه، وإنما على طرحه المتكرر، وكثرة النظر فيه، لأنه ليس من نمط الأسئلة البسيطة أو السهلة أو العادية، بل هو سؤال الأسئلة في الثقافة، وسؤالها الحيوي، ويمثل محور النقاشات فيها.
ومتى ما غاب هذا السؤال، غابت معه تجليات الثقافة، وتجليات الفعل والحضور الراهن. وكيف للثقافة أن تتطور من دون سؤال ثقافي يحدد لها عنصر الفعل والحركة، ويحدد لها أيضا عنصر الدور والوظيفة، ويربطها بقضية تتصل بها وتتفاعل معها.
يضاف إلى ذلك أن السؤال الثقافي هو الذي يشكل طبيعة العلاقة بين الثقافة والمجتمع، فكل مجتمع يفرض سؤاله الثقافي بحسب طبيعة مكوناته، وكيف ينظر إلى ذاته، وكيف يفكر في مستقبله، وحاجته للتطور والتقدم.
من هنا يختلف السؤال الثقافي من مجتمع إلى آخر، فالسؤال الثقافي في مصر مثلا، يختلف بطبيعة الحال عن السؤال الثقافي في لبنان، وكذا عن السؤال الثقافي في العراق، وهكذا الحال عن السؤال الثقافي في السعودية.
[blockquote] الثقافة كانت إلى عهد قريب في مجالنا الوطني لا يجمعها جامع ولا يربطها رابط.. باعتبار أنها كانت موزعة ومتفرقة بين الجهات والمؤسسات[/blockquote]
كما أن هذا السؤال الثقافي يتغير ويتجدد في داخل المجتمع الواحد، بحسب المراحل والأطوار التاريخية والفكرية التي يمر بها كل مجتمع. لكن هذا التغير والتجدد في السؤال الثقافي لا يكون سريعا أو فوريا، ولا يكون أيضا عفويا أو طارئا، وإنما يحصل بقصد ووعي، ويحدث نتيجة محصلة تراكم الوعي، وتطور التجربة والخبرة الفكرية والتاريخية.
فما سؤالنا الثقافي في حاضرنا الراهن؟
لعلنا اليوم نحن أقدر من أي وقت مضى في اكتشاف هذا السؤال والتعرف عليه، وذلك بعد خوض تجربة الحوار الوطني، التي أتاحت أكبر فرصة لأن يتحاور المجتمع مع كل مكوناته، ويتعارف ويتواصل مع هذه المكونات. وذلك لأن سؤالنا الثقافي بالتأكيد هو سؤال المجتمع بكل فئاته ومكوناته، وهو سؤال المرأة والرجل، وسؤال الشباب والشيوخ، وسؤال باقي مكونات التعدد الأخرى.
وفي تقديري، يتحدد سؤالنا الثقافي الراهن، في بناء هويتنا المشتركة، التي تتجلى وتتخلق فيها الوحدة الوطنية، وتماسك النسيج المجتمعي مع الانطلاق نحو التحديث والتطور الشامل.
في البحث عن صورتنا الثقافية؟
عندما نريد أن نبحث عن صورتنا السياسية نحن كدولة ومجتمع، الصورة التي تميزنا بقدر ما عن باقي الدول والمجتمعات الأخرى، أو تعرفنا عند هذه الدول والمجتمعات، أو التي تعطينا قدرا من الفرادة أو الاختلاف عن غيرنا، فإن من السهولة التعرف على هذه الصورة في المجال السياسي، إذ تكشف عنها مجموع السياسات القائمة والمتراكمة منذ ما يزيد على نصف قرن، كما تكشف عنها أيضا المواقف السياسية المتحركة والمتفاعلة مع الأحداث الجارية، وطبيعة العلاقات السياسية مع الدول والمؤسسات الدولية.
وعندما نتحدث عن صورتنا الاقتصادية، فإن من السهولة كذلك اكتشاف هذه الصورة، والتعرف عليها، وعلى ملامحها ومعالمها ومكوناتها، لكونها صورة ظاهرة ومتجلية لنا وإلى العالم الذي نتفاعل معه ويتفاعل معنا.
ويكشف عن هذه الصورة مجموع النشاطات والخطط والعلاقات والاستراتيجيات ذات الطابع الاقتصادي، فالجميع يعلم أننا نمثل دولة نفطية مؤثرة في اقتصادات العالم، ولدينا مخزون نفطي كبير، الوضع الذي فرض على الجميع في أن يتعرفوا على صورتنا الاقتصادية.
[blockquote] نحن بحاجة إلى بلورة وصياغة صورتنا الثقافية التي يرى الجميع نفسه فيها وتكون معبرة عن جميع مكونات تعدد النسيج المجتمعي السعودي[/blockquote]
وهكذا عندما نتحدث عن صورتنا الدينية، فإن هذه الصورة تكشف عن نفسها من خلال مجموع النشاطات والمؤسسات والعلاقات ذات الطابع الديني، وبحكم التفاعل والتواصل النشط والواسع مع العالم الإسلامي، ومع جميع المسلمين في مختلف أنحاء العالم الذين يأتون سنويا إلى الحج من كل فج عميق.
لكن عندما نتحدث عن صورتنا الثقافية، ونحاول أن نتعرف على هذه الصورة في أبعادها وملامحها، حدها ورسمها، فإن الوضع في هذه الحالة سوف يختلف، وقد يتعثر.
لا أعلم حقيقة طبيعة رؤية المثقفين الآخرين لهذه الصورة الثقافية وكيف يفهمونها؟ وأين يتفقون فيها؟ وأين يختلفون؟ وما درجة الوضوح عندهم في تشخيص هذه الصورة وتحديدها؟ وما درجة الغموض عندهم أيضا؟
لكن الذي أراه من دون أن أكون قاطعا، ولست راغبا في القطع أو الجزم، أن هذه الصورة ليست واضحة عندي بالقدر الكافي، وأظن أنها ليست واضحة عند كثير من المثقفين كذلك. أو لا أقل أحتمل أن هناك من المثقفين من يشاطرني ويوافقني على مثل هذا الرأي. أقول هذا الكلام والثقافة هي أقرب المجالات إلى نفسي، وهي الحقل الذي أوليه كل اهتمامي، مع ذلك عندما أحاول البحث عن صورتنا الثقافية أجد صعوبة في تحديد وتشخيص هذه الصورة.
فهل نحن من دون صورة ثقافية فعلا؟ أم أنها صورة موجودة لكنها غير واضحة بقدر كافٍ، أو أنها غير مكتملة، أو أنها في طريقها إلى الوضوح والاكتمال؟
يجب أن نعلم ابتداء، أن الثقافة هي المجال الذي لا ينبغي التستر فيه، أو كتمان الحق فيه، وذلك باعتبار أن الثقافة من طبيعتها الشفافية، وهكذا ينبغي أن ننظر إليها.
فما الذي جعل هذه الصورة الثقافية ليست بذلك القدر من الوضوح، أو الاكتمال؟ هل لأن الثقافة كانت إلى عهد قريب في مجالنا الوطني لا يجمعها جامع، ولا يربطها رابط، باعتبار أنها كانت موزعة ومتفرقة بين الأجهزة والمؤسسات والوزارات، قبل أن تجتمع عند جهة محددة هي وزارة الثقافة؟
أم لأن مجموع النشاطات ذات الطابع الثقافي لم يكن بالقدر الكافي الذي يكون بإمكانه بلورة صورة ثقافية ناضجة ومحددة الملامح؟ أو أن هذه النشاطات أقل بكثير مقارنة بمجموع النشاطات المرتبطة بالمجالات الأخرى السياسية والاقتصادية والدينية؟ أم لأنه لم تكن لنا سياسة واستراتيجية واضحة ومحددة في مجال الثقافة، على صورة الاستراتيجية التي أقرها حديثا مؤتمر المثقفين السعوديين الأول؟ أم لأن الصورة الدينية غطت على الصورة الثقافية، أو إننا اكتفينا بالصورة الدينية، أو إننا لم نرد مزاحمة الثقافة للصورة الدينية؟
سواء اتفقنا أو اختلفنا كمثقفين على هذه التصورات والتحليلات، مع ذلك يبقى أننا بحاجة لأن نسهم في بلورة وصياغة صورتنا الثقافية، الصورة التي يرى الجميع نفسه فيها، وبكل ألوان الطيف، لتكتسب جمالية هذه الألوان، وتكون معبرة عن جميع مكونات النسيج المجتمعي السعودي، وعندئذ ستكون هذه صورتنا الثقافية، وهذا هو مصدر الثراء والتخلق في كل صورة ثقافية!
ويبقى السؤال مفتوحا أمام المثقفين السعوديين، في البحث عن صورتنا الثقافية، فما هذه الصورة؟ وفي البحث عن سؤالنا الثقافي، ما هذا السؤال؟