منطق المعرفة مفقود في خطابنا الثقافي السعودي

منطق المعرفة مفقود في خطابنا الثقافي السعودي

[caption id="attachment_55247816" align="aligncenter" width="620"]طلاب يتفاعلون مع دورة للتعليم الالكتروني في جامعة الملك سعود من خلال تطبيقات اجهزتهم المحمولة طلاب يتفاعلون مع دورة للتعليم الالكتروني في جامعة الملك سعود من خلال تطبيقات اجهزتهم المحمولة[/caption]

يتفاجأ الكثيرون، من خارج السعودية، حين يعلمون أن التعليم العام والعالي السعودي لا يتضمّن تقديمًا للفلسفة ولا تعليمًا لها. إلا أن المفاجأة تبدأ بالخفوت حين يعلمون أن هذه ليست كل الصورة. لا تكتمل الصورة إلا حين يعلمون أن التعليم العام والعالي أيضًا يتضمن موقفًا ضديًّا للفلسفة. بمعنى أن الطلاب والطالبات يتعلّمون أن الفلسفة باختصار منهج خاطئ للمعرفة. تبدأ المفاجأة بالتلاشي هنا باعتبار أن غياب الفلسفة هو عمل مقصود لأسباب دينية وسياسية، وهذا موقف ليس بالجديد على من يعرف شيئًا ولو بسيطًا عن تاريخ الفلسفة. يبقى شيء من الدهشة متعلّق بالفلسفة الإسلامية. يواجهني هذا الاستفسار كثيرًا مع المشتغلين بالفلسفة هنا في أمريكا. يقولون نفهم أن يكون هناك موقف من الفلسفة اليونانية أو الغربية أو حتى الشرقية، ولكن لماذا يمتد هذا الموقف للفلسفة الإسلامية؟ هنا تحتاج إلى شرح أن الموقف الحالي هو امتداد تاريخي طويل لموقف مشهور في الثقافة السلفية مضاد للفلسفة وخصوصًا الإسلامية منها. الفلسفة الإسلامية هنا أشد خطرًا؛ لأنها تأتي بغطاء ديني يخفي تحته المنهج الذي يمكن الاعتراض عليه، والذي سيكون سمة هذه المقالة. الفلسفة الإسلامية -يقول خصومها- ترتكب ذات الخطيئة وهي "منازعة الوحي والنص بالعقل والتأويل". نحن هنا أمام صراع سُلطات معرفية سأحاول فهم الحالة الثقافية السعودية من خلاله.

المشهد السابق قد يحيل إلى صورة مغلوطة أيضًا، وهي أن المشهد السعودي قديمه وحديثه كان خلوًا من التعاطي مع الفلسفة. هذا غير دقيق فعلاً، وموقف لا أتبناه ولا أحتاجه لإنجاز محاججتي هنا. قديمًا، وأنا أتحدث هنا انطلاقًا من منتصف القرن العشرين، توافر مثقفون ومفكرون كبار على اطلاع عميق بالمنتج الفلسفي، أتحدث هنا عن شخصيات مثل: محمد حسن عوّاد، وحمزة شحاتة، وعبدالله القصيمي وآخرين. هذا الرافد لم يتوقف اليوم، ولا يزال يتسع يومًا بعد يوم. أيضًا اليوم الانفتاح المعلوماتي جعل المنتج الفلسفي متوفرًا في السوق السعودية، وتشهد معارض الكتاب إقبالاً كبيرًا عليه. اليوم أيضًا هناك حلقات فلسفية وتجمعات فكرية في المنتديات الثقافية السعودية على مستوى عالٍ من الحيوية. حجة أخرى ربما تساق على الصورة في المدخل أعلاه تذهب إلى أن لب الفلسفة "المعرفة العقلانية" قد توافر من خلال العلوم الإنسانية الأخرى المتوافرة في الجامعات السعودية، كعلم النفس والاجتماع والنقد الأدبي واللسانيات والتربية والسياسة والأنثروبولوجيا. هذه الحجة وجيهة لكنها تعاني من مشكلتين.



[blockquote]غياب التأسيس الفلسفي أدى إلى تشكل ظاهرة (المثقف المصارع)، وهو الذي يتحرك داخل منطق الصراع لا منطق الحوار، قلق على وجوده وهويته الثقافية المهددة باستمرار.[/blockquote]



أولاً: العلوم الإنسانية تقدم لدينا مفرغة من أصولها الفلسفية.
ثانيًا: أن هذه العلوم ذات حضور ضيق أصلاً في الجامعات المحلية.
ثالثًا: وهو برأيي الأهم أن هذه العلوم كانت محلّا للصراع بين نمط المعرفة الراسخ القائم على الإيمان والاتباع وبين المناهج التشككيّة الجديدة، وغالبًا كانت المناهج الحديثة أقلّ حظّا وأضعف تأثيرًا.



غياب من وحضور من؟




تكمن قيمة الخطاب الفلسفي في تصوري في سمتين أساسيتين تشكل طبيعته الجدلية: الأولى أنه خطاب تأسيسي لكل معرفة عقلية، والثانية أنه خطاب نقدي لكل أنماط المعرفة العقلانية وغير العقلانية. بمعنى أنه خطاب هدم وبناء، أو لنقل خطاب يقوم على استمرارية "معمار المعرفة". تأسيسية هذا الخطاب تكمن في كون الفلسفة ذاتها بحث في إمكانية المعرفة وشروطها وقدرة العقل على إنتاجها. ومن هنا تحديدًا جاءت تسميتها بأم العلوم. باعتبار أن كل علم عقلي يتأسس تحديدًا على مقولات أولية تنشغل الفلسفة تحديدًا في البحث فيها من جهة إمكانها العقلي أولاً وفي مضمونها تاليًا. ومن هنا تحديدًا تكمن أهمية فلسفة كل مجال، ففلسفة العلم هي الأساس النظري للعلم، ومهمتها وضع هذا الأساس ونقد الأسس المتوفرة، وفلسفة السياسة هي التي تضع المبادئ الأولى للفكر السياسي، وهكذا في بقية المعارف العلمية العقلية، وهنا أستبعد المعارف غير العقلانية على الأقل من جهة استنادها على مصادر غير بشرية كالدينية، وتلك القائمة على الانطباع والذوق كالفنية والتي لا تأسس لها الفلسفة بقدر ما تمارس النقد تجاهها. الفلسفة بهذا المعنى تعني عملية تشييد وهدم مستمر للمعرفة. أي معرفة متحركّة ومتغيّرة ومتحوّلة. شهادة ميلاد الفيلسوف تتحقق تحديدًا مع نشره للقلق والتوتر في المعرفة المحيطة به، هذا ما تفعله الفلسفة ولكن ماذا عن ما يفعله غياب الفلسفة؟ وهو سؤالنا المركزي هنا.



فعل الغياب





ما هو الأثر الذي أحدثه غياب الخطاب الفلسفي على الخطابات الاجتماعية والدينية والاقتصادية والإعلامية والسياسية وغيرها من الخطابات؟ برأيي أن أكبر أثر لهذا الغياب هو فقداننا لضرورة التأسيس المعرفي. فالخطابات السائدة لا تستند على قوّة معرفية عقلية مقنعة في داخلها، ولا تأخذ من السند المعرفي مشروعيتها ولا معناها. باعتبار أن المقياس والحكم الذي هو منطق المعرفة غير حاضر، والمساحة خالية للمشروعيات الأخرى للاشتغال، مشروعيات التقليد والتراث وغيرها من المرجعيات. إنها مرجعيات الغلبة والقوة لا مرجعيات الإقناع والبرهان والدليل. غياب منطق العقل، أي غياب الفلسفة، جعل من خطابات المعرفة خطابات تتمظهر بمعرفيتها، ولكنها في عمقها ضد المعرفة وضد المنطق. ومع الوقت واستمرار التخلف الحضاري أصبحت المشروعية المعرفية ليست ضرورية، بل ضارة لمن أراد الحصول على جزء من السلطة، فالرأي والقول والموقف لا تأخذ قيمتها ولا تتحدد فعاليتها ولا فرصتها في النجاح استنادًا على أساسها المعرفي بقدر ما هو حصولها على مشروعية سلطوية أو غير معرفية، تاريخية أو رمزية. ومن هنا يمكن لنا القول أنه في ظل غياب الخطاب الفلسفي تغيب خطابات المعرفة الأخرى. لدينا أقسام جامعية لعلوم الاجتماع والنفس والاقتصاد والسياسة والعلوم الطبيعية، ولكنها بدون فاعلية على أرض الواقع، فالفاعلية لها شروط لا تمتلكها هذه التخصصات. فمنطق المعرفة والعقل ليس هو الحاكم. نحن في نظام معرفي آخر لا تشتغل فيه هذه الأدوات.



[blockquote]غياب منطق العقل،-أي غياب الفلسفة-، جعل من خطابات المعرفة خطابات تتمظهر بمعرفيتها، ولكنها في عمقها ضد المعرفة وضد المنطق.[/blockquote]



ومن هنا نفهم تكلّس وجمود كل المجالات المعرفية وعجزها عن التطور. فالمعرفة لا تتطور إلا حين تشتغل وتخضع للاختبار والفعل ما يجعلها ترتد باستمرار لنفسها مراجعة ومتطورة وحيّة. وحين يتساءل الطالب عن جدوى ما يتعلمه في المدارس والجامعات من علوم طبيعية واجتماعية نفسية وغيرها فهو يعبّر بدقة عن الواقع الذي يعيشه، فهو لا يرى أي أثر لهذه العلوم على أرض الواقع، استيراد التقنية يحل كل هذا الإشكال. وما إجابات المعلمين والمعلمات عن أهمية العلوم إلى إجابات افتراضية صحيحة ولكنها لا تستند على الواقع الذي نعيشه، وهكذا تفقد معناها وقيمتها فسندها الأساسي، الذي هو منطق العقل، في غياب طويل.



المثقفـ/ـة في المعادلة !





ماذا يعني تواجد المثقفـ/ـة في سوق لا مجال آمن ومحفّز فيه لإقلاق المعرفة السائدة وتحريك مياهها الراكدة؟ أيضًا ماذا يعني تواجد المثقفـ/ـة في بيئة لم يتأسس الحجاج فيها على منطق المعرفة بل على منطقة السلطة والقوّة بكافة تمظهراتها؟ برأيي أن هذا يعني الكثير من السمات والسلوكيات والمواقف التي تبدو واضحة في شخصية المثقف السعودي والثقافة السعودية والتي سأختم بها مداخلتي هنا.

أولها: الشعور بالتهميش، فالقرارات التي تتّخذ على الأرض ويفترض بها أن تمس حياة الناس، أي الرابط الأساسي بين الفكر والفعل، يبدو فيها دوره الأضعف والأقل فاعلية. غياب التأسيس العقلاني للمعارف كثقافة عامة تتشكل في مؤسسات لها كلمتها في صناعة القرار جعل رأس مال المثقف رخيصًا وهامشيًّا.

ثانيًا: أن المثقف الناشئ في هذه البيئة أصبح أيضًا مشتغلاً داخل خطاب المعرفة بمنطق اللامعرفة. أي أنه بشعار وغطاء الثقافة استمر في العمل ضمن منطق الصراع اللافكري داخل وخارج مجتمع المعرفة. الأستاذ الجامعي -على سبيل المثال- يستسلم لمنطق المؤسسة ليبتعد قدر الإمكان عن إقلاق المعرفة السائدة، وفتح المجال لمعرفة المستقبل ليتحول لمجرد موظف روتيني يؤدي دورًا روتينيًّا يعمل بشكل بطيء ومستمر على إخراج منطق المعرفة من آفاق تفكير الأفراد والجماعات.
ثالثًا: ظهور وانتشار ظاهرة المثقف المصارع. هذا النمط من المثقفين يتحرك داخل منطق الصراع لا منطق الحوار. بمعنى، تحت تأثير قلقه على وجوده وهويته الثقافية المهددة باستمرار، يدخل في علاقات متوترة مع الشخصيات التي كان من الممكن أن تتشارك معه في تأسيس مجتمع معرفة قادر على توفير علاقات يمكن أن يدخل داخلها حوار معرفي يمثل رحم المعرفة وشرط استمرارها ونموها. المثقف المصارع مشغول بإطلاق الأحكام على خصومه أكثر من اشتغاله بالنظر فيما يكتبون، وهو بهذا يقوم بإفراغ الساحة المحتملة للحوار من احتمالاتها القادمة. المثقف المصارع هو نتيجة لاستبداد الخطابات اللامعرفية على ساحة المعرفة. في تلك الخطابات القول ليس للحجة بقدر ما هو للمكانة المتوارثة وللانخراط في وراثة معيّنة للسلطة وأدواتها.

رابعًا: غياب التأسيس الفلسفي جعل من الحوار كثقافة عامة غير محتمل الحدوث. الحوار قائم على مسلّمة جوهرية وهي ضرورة سيادة منطق الإقناع والإفهام لا منطق الإخضاع والجبر، وهذا برأيي متعذر بدون انتشار المعرفة العقلانية الفلسفية وامتداداتها من علوم الاجتماع والنفس والسياسة والجمال.
font change