
بعد نشوة الانتصار طفت على السطح حسابات الأحزاب والجمعيات في الفوز بغنيمة السلطة والثروة. وانطلاقا من هذه الفكرة تسابقت مختلف التيارات والتنظيمات لإثبات ثوريتها أولا، ثم أحقيتها في الحكم ثانيا. ولم تكن معايير الكفاءة فقط هي المحرك الرئيس لتولي المناصب في السلطة، في ظل غياب كبير للدولة وتأثيرها وهيبتها. ومن خلال هذا الغياب كان السلاح ينتشر بكثرة لدى العائلات والتيارات والأحزاب، بل أصبحت ترسانة القذافي العسكرية مصدر ثراء كبير لأمراء الحرب وفي مقدمتها التيارات الإسلامية بمختلف تفريعاتها، وهو ما أغرى القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لتحط رحالها في ليبيا بعد طردها من شمال مالي في يناير (كانون الثاني) 2013.
[blockquote]تمكن خليفة حفتر من كسب عدة قبائل لجانبه مثل ورشفانة وورفلة والعبيدات ويمكن القول إن نحو 80 في المائة من سكان بنغازي موالون لحفتر وأكثر من نصف سكان طرابلس (بين 50 و60 في المائة) مؤيدون له[/blockquote]
واستغلت التيارات الجهادية حرب سوريا لتقيم مراكز تدريب جندت فيها بضعة آلاف للتدرب على القتال بدعوى الجهاد في سوريا، لكن جزءا منهم تحول إلى العراق (وقد رأينا ذلك من خلال هجوم داعش وكتائب أخرى على العراق الذي بدأ يوم 09 يونيو/حزيران 2014 وتمكنت من السيطرة على محافظات كثيرة مما ينبئ بتحولات جيو استراتيجية عميقة في المنطقة)، وجزء آخر اتجه نحو تونس والجزائر والساحل الأفريقي وأصبحت ليبيا بذلك مركزا حيويا لتصدير الإرهاب لهذه الدول، في غياب سلطة مركزية قوية، بل إن معظم النخب السياسية في ليبيا تساورها الشكوك في تواطؤ جزء من الحكومات الليبية التي تشكلت بعد انتخابات المؤتمر الوطني (البرلمان) في توفير الغطاء والدعم لهذه التيارات الدينية المتشددة.
ومع تواصل حالة الفوضى الأمنية وتصدير النفط بشكل متقطع، وتلويح بعض التيارات بورقة الانفصال أو الحكم الفيدرالي، وبعد أن خفّت وتيرة الحرب في سوريا، تحولت وظيفة مراكز التدريب لتصبح مهمتها إعداد جهاديين للداخل الليبي (ضد المعارضة الليبرالية والديمقراطية) وللجيران سواء في تونس أو الجزائر أو الساحل الأفريقي.
وفي ظل هذه المتغيرات تتنزل محاولة اللواء المتقاعد خليفة حفتر الأخيرة الذي استطاع أن يحظى في وقت قياسي بدعم قبلي غير مسبوق، وبدعم من كتائب مسلحة ما انفك يتكاثر وبدعم جزئي من داخل الحكومة بعد إعلان بعض أعضائها الانضمام إليه.
فهل سيتم حسم الصراع السياسي القائم حاليا في ليبيا أمنيا؟ أم بالتوافق؟ أم بالاثنين معا؟
المشهد السياسي والقبلي في ليبيا ودوره في العملية السياسية
1) تموقع القبائل والمناطق في الخريطة السياسية بليبيا:
القبيلة معطى هام في ليبيا لكن هناك مدن مبنية على المناطق والعائلات ومدن قائمة على القبائل. وتتوزع القبائل في أرجاء التراب الليبي:
- في الشرق: أهم قبيلة فيه هي «العبيدات» وجزء من قبيلة «ورفلة» (لأن «ورفلة» منتشرة في كل مكان)
- في الغرب: هناك قبيلة «ورفلة» وتتميز بتشتتها السكاني وعاصمتها بني وليد، وهناك قبائل العبيدات والبراعصة والعقورية وكذلك قبيلة ورشفانه وبها تمركز سكاني وعاصمتها العزيزية.
- في الجنوب الشرقي: هناك «التبو» وقبيلة المغاربة.
- والملاحظ أن قبيلة المغاربة تبدأ من أجدابيا إلى غاية الكفرة (التبو) وتدخل أحيانا في معارك مع التبو (المغاربة يشكلون أقلية أما التبو فيشكلون أغلبية).
- في جنوب الوسط: قبيلة «أولاد سليمان» وهناك قبيلة «المقارحة».
- في الجنوب الغربي: هناك الطوارق، وقريب منه جبل نفوسة حيث الأمازيغ. ويتكون جبل نفوسة من مدن عربية ومدن أمازيغية فالمدن العربية نذكر منها غريان والزنتان والرجبان. أما المدن الأمازيغية فمن بينها «كيكلا» ودرعة وكاباو وجادو ويفرن ونالوت.
[blockquote]تضم ليبيا حاليا عشرات الأحزاب، ويضم البرلمان (المؤتمر الوطني الليبي) 200 نائب انخفض إلى 186 بعد إصدار قانون العزل السياسي الصادر في مايو (أيار) 2013 والذي نص على أن يجري العمل به لمدة 10 سنوات[/blockquote]
في ليبيا هناك مدن مبنية على القبائل وأخرى مبنية على المناطق والعائلات فمثلا نجد طرابلس مبنية على المناطق، أما بنغازي وسبها فهي مبنية على القبائل.
بالنسبة إلى طرابلس وعائلاتها نذكر:
- منطقة سوق الجمعة (منطقة عبد الحكيم بلحاج) وتاجوراء وفشلون وعين زارة
- العائلات مثل الكْرَاكشي وقِنّيوة
أما بالنسبة إلى بنغازي وسبها ومصراتة فهي مبنية على القبائل. ففي بنغازي نجد قبائل العبيدات والبراعصة والعقورية وورفلة. أما بالنسبة لسبها عاصمة الجنوب فهي مبنية على القبائل أيضا ومن أبرزها «أولاد سليمان» والمقارحة. وبالنسبة لمصراتة فهي مبنية على القبائل مثل الكورغلية والسويحلي (وهي ثالث مدينة في ليبيا 700 ألف ساكن).
2) تطور التحالفات القبلية بين الحكومة والمعارضة في ليبيا:
تمكن خليفة حفتر من كسب عدة قبائل لجانبه مثل ورشفانة وورفلة والعبيدات ويمكن القول إن نحو 80 في المائة من سكان بنغازي موالون لحفتر وأكثر من نصف سكان طرابلس (بين 50 و60 في المائة) مؤيدون له. ويعتقد أكثر الخبراء أن من يضمن ولاء طرابلس وبنغازي يضمن الحكم في ليبيا. ولا ننسى أن إعلان الفاتح من سبتمبر 1969، كان من بنغازي في حي غار يونس وفي معسكر غار يونس. لكن تجدر الإشارة أيضا أن الغالبية العظمى من سكان طرابلس ونخبها يقفون ضد الإرهاب والميليشيات وكل المبادرات الهادفة إلى مقاومة الإرهاب تجد دعمها من الطرابلسية وهذا ما يفسر الدعم الذي لقيه حفتر في طرابلس في الفترة الأخيرة.
[caption id="attachment_55252038" align="alignleft" width="205"]

لا ننسى رمزية بعض المدن في مساندة الحراك الحالي. فهناك مدينة البيضاء في الشرق التي تبعد 200 كلم عن بنغازي، هذه المدينة التي انطلق منها الملك السنوسي، نجدها اليوم تحتضن مقر الجمعية التأسيسية للدستور، وفيها قبيلة «البراعصة» وهي موالية للحراك الحالي الذي يقوده حفتر (البراعصة هي قبيلة مصطفي عبد الجليل أول رئيس للمجلس الانتقالي بليبيا).
3) تطور المشهد السياسي والحزبي بليبيا بعد الثورة
تضم ليبيا حاليا عشرات الأحزاب، ويضم البرلمان (المؤتمر الوطني الليبي) 200 نائب انخفض إلى 186 بعد إصدار قانون العزل السياسي الصادر في مايو (أيار) 2013 والذي نص على أن يجري العمل به لمدة 10 سنوات.
- من أبرز الأحزاب والكتل نذكر:
* التحالف الوطني بقيادة محمود جبريل، وهو ليبرالي التوجه ويضم 35 مقعدا من 186 مقعدا والمعلوم أن جبريل لم يترشح للبرلمان نظرا للحملة الموجهة ضد كل من تقلد منصبا في عهد القذافي لكن حزبه كان موجودا بكثافة في المؤتمر الوطني.
* حزب العدالة والبناء بقيادة محمد صوان، ويضم 18 مقعدا، ومرجعيته الأساسية إخوانية لكنه يضم في صفوفه أيضا 40 في المائة من السلفيين و20 في المائة من الشباب و15 في المائة من النساء.
* حزب الإنقاذ الوطني يضم نحو 15 مقعدا بقيادة الرئيس السابق للبرلمان المقريف الذي جرى عزله.
* الاتحاد من أجل الوطن ورئيسه عبد الرحمان السويحلي وهذا الحزب له طابع جهوي أكثر منه مركزي.
* حزب «الوطن» لعبد الحكيم بلحاج له ميليشيا وليس له نواب، إلا من انضم إليه بشكل مستقل.
* أما الكتل البرلمانية بالبرلمان الحالي (المؤتمر الوطني) فأبرزها:
كتلة الوفاء لدماء الشهداء وتضم 35 نائبا من الإخوان والسلفيين والجماعة المقاتلة لبلحاج والسعدي.
كتلة تحالف القوى الوطنية وتضم ليبراليين ومستقلين.
وبالنسبة للعمل الحزبي لا يوجد قانون أحزاب في ليبيا، وهذا القانون المنظم للأحزاب مدرج في مشروع الدستور الجديد الذي ستتم مناقشته لاحقا.
يغلب على المشهد السياسي الحالي بليبيا (2014) استقطاب ثنائي يكاد ينحصر بين التيار الإسلامي بتفريعاته الإخوانية والسلفية والمدعوم ضمنيا من التيارات الدينية المتشددة القريبة من القاعدة، مقابل ذلك نجد التيار الليبرالي والديمقراطي المدعوم من التحالف الوطني والمستقلين وبعض التيارات الإسلامية المعتدلة.
الصراع بين حفتر والتيار الإسلامي
1. مشهد سياسي متحرك: يرى الكثير من الباحثين أن من يحكم ليبيا هو الذي يمسك بـ5 عناصر أساسية يمكن أن نسميها خماسية القوة:
- أولا: من يملك السلاح.
- ثانيا: من يملك المال.
- ثالثا: من يملك مقاربة وتوجها محددا مهما كان لونه.
- رابعا: من يملك الإعلام.
- خامسا: من يملك الدعم الخارجي.
وهذه العناصر الخمسة هي التي تمكن الفاعلين السياسيين من توجيه جزء من الرأي العام لفائدة أطروحاتهم. وإذا أردنا أن نطبق هذه القاعدة على القوى السياسية الليبية نجد أن قطب الإسلاميين الممثل في الحكومة مدعوم من قطر وتركيا. ولا ننسى أن حجم التبادل التجاري بين ليبيا وتركيا لا يقل عن 5 مليارات دولار في 2013. أما قطب الليبراليين وحلفاؤه الملتف حول حفتر فهو مدعوم من مصر وبعض دول الخليج وأميركا والغرب عموما.
وبخصوص توزع الكتائب المسلحة على هذين القطبين نلاحظ:
أن الكتائب المساندة للحكومة هي كتيبة 17 فبراير وكتيبة درع الوسطى (المعلوم أن الدروع تعود أساسا إلى التيارات الإسلامية)
أما الكتائب الموالية لحفتر فهي تضم:
- القعقاع: الزنتان.
- الصواعق: من الزنتان.
- كتيبة الشهيد محمد مدني: من الزنتان.
- الصاعقة: يرأسها ونيس أبو خمادة: بنغازي.
- بخصوص مصراتة نجدها منقسمة بين الفريقين فالمجلس المدني مساند لحفتر في حين ما يزال المجلس العسكري مواليا للحكومة. ويرى كثير من المحللين أنه في صورة انضمام المجلس العسكري لحفتر فبإمكانه أن يحسم المعركة لصالح هذا الأخير. وتتحدث بعض الأنباء عن بوادر انقسام داخل المجلس العسكري وعن بداية تفاوض بين عناصر من المجلس العسكري لمصراتة والمجموعة الموالية لحفتر. والمعلوم أن مصراتة قبل الحراك الأخير معروفة بموالاتها للإخوان، أما المجلس المدني بمصراتة حاليا فقد عُرف عنه أنه ضد الإرهاب ومع المصالحة الوطنية.
[blockquote]أصبحت ليبيا بعد الثورة ملجأ للكثير من التنظيمات الدينية المتشددة ومن أبرزها أنصار الشريعة، كما استقرت بالبلاد الكثير من الكتائب المسلحة التابعة للقاعدة والمتكونة من عناصر مغاربية وأفريقية
[/blockquote]
وبالنسبة لطرابلس، وبحكم تنوعها وتعدد مشاربها الفكرية والسياسية فإن معظم سكانها ونخبها ضد الإرهاب وضد ممارسات بعض التيارات السلفية التي اعتدت على أضرحة الأولياء. كما أن تيار التصوف وخاصة السنوسية مناهض بشدة لبعض التيارات التكفيرية التي حطمت الكثير من أضرحة الأولياء. والمعلوم أن السنوسية تشكل مخزونا تاريخيا وتراثيا هاما للشعب الليبي.
2 - المشهد الديني في ليبيا
أصبحت ليبيا بعد الثورة ملجأ للكثير من التنظيمات الدينية المتشددة ومن أبرزها أنصار الشريعة، كما استقرت بالبلاد الكثير من الكتائب المسلحة التابعة للقاعدة والمتكونة من عناصر مغاربية وأفريقية. واستغلت هذه الجماعات المسلحة ظرفية الحرب في سوريا وأقامت معسكرات للتدريب من بينها:
- العجيلات وتقع على بُعْد 60 كلم عن طرابلس.
- درنة وهي منطقة جبلية في الشرق لا يوجد بها انتماء قبلي كبير. وتسيطر عليها القاعدة وأنصار الشريعة.
- صبراتة بها معسكر متوسط
- سرت يسيطر عليها أنصار الشريعة
- «معسكر 27» ويقع قرب مدينة الزاوية بين الزاوية وطرابلس وتسيطر عليه القاعدة.
- أما بالنسبة لأنصار الشريعة فهناك تنظيمان: واحد في درنة والثاني في بنغازي وقد تأسست في 2012 ويُنسب إليها اغتيال السفير الأميركي في بنغازي. ويتكون تنظيم أنصار الشريعة من ليبيين وعناصر من جنسيات مغاربية. وقد أصدر تنظيم أنصار الشريعة في تونس في بداية مايو 2014 بيانا يُعلن فيه توحيد نشاطه وهياكله مع تنظيم أنصار الشريعة بليبيا، وتتردد كثير من الأنباء عن وجود أبو عياض مؤسس أنصار الشريعة في تونس الموجود في ليبيا في حماية سفيان بن قمو زعيم أنصار الشريعة بليبيا. والمعلوم أن الاشتباكات المسلحة التي تجري حاليا في ليبيا والتي يقودها حفتر موجهة بالأساس ضد جماعة أنصار الشريعة وخلايا القاعدة.
[caption id="attachment_55252039" align="alignright" width="216"]

لا بد من الإشارة إلى أن التيارات الجهادية بليبيا كانت موجودة قبل ثورة 17 فبراير 2011 إذ تأسست أول مجموعة جهادية في 2008 في عهد القذافي وتسمى كتيبة الشهداء بقيادة الشيخ البرغثي وقد قتل معظم أنصار هذا التنظيم في بنغازي في عهد القذافي. وهناك أيضا الجماعة الإسلامية المقاتلة ومن أبرز رموزها عبد الحكيم بلحاج الذي ركز نشاطه خارج ليبيا.
فكرة بناء الأمة الإسلامية
بعد الثورة أصبح تنظيم أنصار الشريعة الفصيل الأهم بقيادة محمد الزهاوي ويساعده في ذلك سفيان بن قمو ويُنسب لهذا التنظيم قتل السفير الأميركي في بنغازي. ويعود تأسيسه إلى 2012 ويتمركز بالخصوص في بنغازي ودرنة حيث الجبال الوعرة، كما يوجد أيضا في طرابلس وأجدابيا وسرت. ويضم هذا التنظيم عناصر ليبية وهي الأهم، يضاف إليها عناصر مغاربية وأفريقية. وينطلق هذا التنظيم من فكرة بناء الأمة الإسلامية التي تحكمها الشريعة، وتحتاج هذه الأمة في رأيهم إلى أرض يجري الانطلاق منها ويُؤمّلون على أن تكون ليبيا بأراضيها الشاسعة وثرواتها النفطية وسكانها القليلين مكانا خصبا لمشروعهم السياسي والديني والمجتمعي. وقد ساعد تفكك الدولة في ليبيا وضعف حضورها، نتيجة سيطرة تيار الإسلام السياسي الإخواني على المؤتمر الوطني (البرلمان) وعلى الحكومة، في إنشاء هذا التنظيم وتمركزه لا بالمؤسسات المدنية فحسب بل وكذلك بالمؤسسات العسكرية حيث اندمج عدد هام من أتباع أنصار الشريعة في مؤسسة الجيش الليبي الذي أنشأته حكومة ما بعد الثورة. كما أن تنظيم أنصار الشريعة يحظى كذلك بدعم المؤسسة الدينية الرسمية حيث عد المفتي العام للديار الليبية الصادق الغرياني أن أنصار الشريعة ليسوا تنظيما إرهابيا مثلما صنفته أميركا، ودعا أنصار هذا التنظيم إلى المساهمة في العملية السياسية بليبيا والإعلان عن تبرئه من الخط التكفيري. والملاحظ أنه منذ تشديد اللواء المتقاعد خليفة حفتر الخناق على التيارات الدينية المتشددة أي منذ محاولته الثالثة في 17 مايو 2014 بمطاردتهم وقصف معسكراتهم قرر تنظيم أنصار الشريعة المرور إلى المواجهة المفتوحة، مستعينا بدعم لوبيات هامة من الحكومة الحالية والمؤتمر الوطني عبر تيار الإخوان والفصائل الإسلامية السلفية وخاصة الجهادية منها، وعلى الرغم من محاولة أحمد معيتيق تشكيل حكومة بدعم من كتلة «وفاء» بالبرلمان الليبي المتكونة من الإخوان والسلفيين فإن هذه الحكومة لم تستمر سوى بضعة أيام بعد إعلان المحكمة العليا في ليبيا بطلان شرعية حكومة معيتيق وعودة عبد الله الثني إلى وظيفته كرئيس للحكومة. وقد حاول الثني في الفترة الأخيرة الاقتراب أكثر من مجموعة حفتر.
والملاحظ أن أنصار الشريعة هددوا في شهر يونيو 2014 بخوض حرب مقدسة ضد أميركا وحكام المنطقة خاصة بعد إلقاء كومندوس أميركي القبض في 16 يونيو 2014 على أحمد أبو ختالة أحد المطلوبين الرئيسين في قتل السفير الأميركي ببنغازي سنة 2012 وتوعد الزهاوي، زعيم التنظيم، بأن ليبيا ستكون مقبرة لكل من يتجرأ على محاربتهم.
«الارتخاء» الأمني في تونس
وتجدر الإشارة إلى أن قوة انتشار أنصار الشريعة في ليبيا تعود إلى فترة 2012 التي صادفت فترة «الارتخاء» الأمني في تونس في عهد حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة التي كانت تشجع رموز هذا التنظيم على المشاركة في العملية السياسية بدعوى تطويعهم ونزع راديكاليتهم (14). كما استفاد أنصار الشريعة في ليبيا من فترة حكومة مرسي قبل سقوطه. لكن بعد التحولات الإقليمية الأخيرة بدءا بسقوط مرسي وخروج حكومة الترويكا من الحكم في تونس، أصبح الخناق أكثر تشديدا على أنصار الشريعة بليبيا التي تواجه أساسا نقمة متصاعدة من الداخل الليبي وتنديدا من الخارج الذي يرى في تواصل نشاط هذا التنظيم تعطيلا لاستكمال استحقاقات المرحلة الانتقالية في ليبيا. والملاحظ أن تحول طبيعة الحرب في سوريا من الخيار العسكري إلى الخيار التفاوضي سحب من أنصار الشريعة بليبيا ورقة هامة كانت تستعملها لإيهام الرأي العام في الداخل والخارج بأنها رقم صعب في الحرب ضد نظام بشار الأسد، وأن معسكرات تدريبها التي ضمت ليبيين ومغاربيين وأفارقة وحتى أوروبيين تقوم بحرب استفادت منها كثير الأطراف. لكن التنظيم كان يسعى في نفس الوقت إلى تسليح أكثر التنظيمات الدينية تشددا مثل داعش وجبهة النصرة في إطار تعزيز منظومة الجهاد العالمي. ولا يمكن التغافل عن أن الشعبية التي لقيتها جماعة أنصار الشريعة في ليبيا منذ 2012 - 2013 في داخل ليبيا تعود كذلك إلى الحرفية لدى التنظيم في كل ما يتعلق بالنشاط الخيري (تنظيف الشوارع ومساعدة الفقراء وإرسال المساعدات الطبية إلى الخارج في السودان وسوريا) هذا النشاط الخيري المشفوع بالنشاط الدعوي والمعزز بالحضور العسكري والدعم المتأتي من عناصر مؤثرة في الحكومة والمؤتمر الوطني (البرلمان) ومؤسسة الإفتاء الرسمية أعطى لتنظيم أنصار الشريعة حجما هاما. لكن منذ 2014 بدأ العد التنازلي لهذا التنظيم يتعزز بعد فشل تيار الإسلام السياسي في الحكم في البلدان المجاورة، وبعد التجاوزات الكثيرة المنسوبة لهذا التيار ضد شخصيات وجمعيات وتنظيمات ليبية، وكذلك بعد سلسلة من الاغتيالات في الداخل اتهم فيها أنصار هذا التيار حيث أصبح رموزه مطلوبين من أكثر من طرف في الداخل والخارج. من المرجح أن تحصل تصفيات دموية في صفوف هذا التيار نتيجة المواجهة المفتوحة بينه وبين المعارضة التي يقودها حفتر والتي تعززت بصعود عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مصر، وتشديد الجزائر لحربها على الإرهاب ومنع الإرهابيين في ليبيا من التسلل عبر أراضيها. أما في تونس فإن تصنيف أنصار الشريعة كتنظيم إرهابي في أغسطس (آب) 2013 في عهد حكومة الترويكا التي تترأسها حركة النهضة حرم أنصار الشريعة من غطاء وتسهيلات كان يحظى بها خلال فترة 2012 - 2013. وبالتالي فإن هذا التيار دخل في أزمة هيكلية ستكون تداعياتها مباشرة على الجناح المحافظ في تيار الإسلام السياسي في ليبيا وتونس وسائر المنطقة العربية.
التصوف وتيار الإسلام المعتدل
من المتوقع أن تعود ليبيا بعد تقليص نفوذ التيارات الدينية المتشددة، إلى دعم تيار الإسلام المحلي المتأثر بتراث التصوف وتيار الإسلام المعتدل غير الإخواني. والمعلوم أن الطابع المحافظ للمجتمع الليبي أمر بديهي لذا يبقى التنصيص على الشريعة كمصدر أساسي في التشريع في الدستور المقبل أمرا متوقعا ويحظى بالتوافق بين كل التيارات السياسية تقريبا، لكن هذا لم يمنع من بروز تيار فكري يدعو إلى عدم توظيف الدين في السياسة كأحد المداخل الأساسية في مقاومة الإرهاب والتطرف.
[blockquote]بعد أن خفّت وتيرة الحرب في سوريا، تحولت وظيفة مراكز التدريب لتصبح مهمتها إعداد جهاديين للداخل الليبي (ضد المعارضة الليبرالية والديمقراطية) وللجيران سواء في تونس أو الجزائر أو الساحل الأفريقي
[/blockquote]
يرى حفتر أن سيطرته على ليبيا وانتصاره على التيارات المتشددة تستوجب فترة بين 3 أشهر وسنة كاملة، لكن بعض المراقبين يرون أن هذه الفترة يمكن أن تُختصر أقل مما هو مصرح به أو تطول أكثر بحسب تفاعل المعطيات الإقليمية والدولية في مسألة مقاومة الإرهاب.
والمرجح أن محاولة حفتر لها حظوظ هامة للنجاح ويُتوقع أن تكون عملية الحسم في هذه الصائفة أو قبلها بقليل. إن التلويح بالحل الفيدرالي في ليبيا يبقى قائما لكن حظوظ تحقيقه ضعيفة. كما أن قرار المحكمة العليا في ليبيا بعدم شرعية حكومة أحمد معيتيق المقرب من الإسلاميين ساهم في إبعاد شبح الحرب الأهلية خاصة بعد انصياع معيتيق لقرار المحكمة، وهو مؤشر على إمكانية تحول عميق في الفترة المقبلة في اتجاه تيسير الحسم في التيارات الدينية المتشددة. لكن كثير من المحللين يعدون انصياع معيتيق للقرار يترجم تغيّر ميزان القوى على الأرض، إذ لو كان معيتيق متيقنا من تواصل قوة الإخوان والسلفيين الجهاديين في ليبيا، لقام بمناورات أخرى للحفاظ على موقعه لكنه بدأ يدرك أن شعبية الإسلاميين إخوانا وجهاديين تقلصت بشكل متواصل في ليبيا وأن الدعم الذي لقيه عبد الفتاح السيسي في الداخل والخارج ستكون له تداعيات سلبية على مستقبل الإخوان والتيارات الدينية المتشددة في ليبيا.
لا شك أن تداعيات الوضع الأمني في ليبيا على تونس هامة خاصة أن هناك محاولة لإعادة رسكلة الجهاديين في سوريا، وهم بالمئات وإحياء الخلايا النائمة وهي بالمئات أيضا لكي يشكلوا نواة كتائب مسلحة تزرع الرعب في ربوع ليبيا وتونس مثلما تفعل داعش في العراق بعد 09 يونيو 2014 لذلك فإن كثيرا من المحللين يرون أن من أوكد إجراءات الحكومة التونسية الحالية:
أولا: تكثيف الرقابة على الحدود التي ما تزال هشة رغم إحداث المنطقة العازلة على الحدود بين تونس وليبيا.
ثانيا: الإسراع باستكمال استحقاقات المرحلة الانتقالية وفي مقدمتها الانتخابات والعمل على أن تجرى الانتخابات التونسية في ظروف شفافة بعد أن جرى الاتفاق نهائيا على عقدها في نهاية 2014. (26 أكتوبر/تشرين الأول 2014 بالنسبة للانتخابات التشريعية و23 نوفمبر/تشرين الثاني بالنسبة للانتخابات الرئاسية).
ثالثا: الإبقاء على استراتيجية التوافق لمرحلة ما بعد الانتخابات كخيار ثابت استراتيجي لا تكتيكي.
رابعا: العمل على تقليص بؤر التوتر الاجتماعي واتخاذ إجراءات مستعجلة على صعيد التنمية الجهوية وخاصة بالمناطق المهمشة بتونس لغلق الباب أمام محاولات تجنيد الجهاديين الذي ينتمي معظمهم للفئات الاجتماعية الهشة.
خامسا: تمثل ليبيا مزودا هاما لعدة بلدان بالنفط وتشكل هي والجزائر مزودا رئيسا لأوروبا. لذا فاهتمام الغرب بهذه المنطقة هام بالإضافة إلى تخوفه من ارتفاع وتيرة الهجرة السرية نحو أوروبا في صورة استمرار الانفلات الأمني بليبيا. وهذا ما يجعلنا نتحدث عن التداعيات الدولية للوضع الأمني في ليبيا.
أهم التداعيات داخليا وإقليميا
لا ننسى أن تفاعل تونس مع مجريات السياسة في ليبيا يعود إلى عاملين أساسين:
- وجود جالية تَعُدُ قرابة المليون ليبي على الأراضي التونسية.
- تطور حجم المبادلات التجارية وارتفاع مداخيل العملة الصعبة نتيجة الحضور الليبي على الساحة التونسية والمقدر بنحو 4 مليارات دولار سنويا.
وبقدر ما تسعى تونس إلى تشديد رقابتها على الحدود بقدر ما تتمكن من تقليص مخاطر تسرب الأسلحة والإرهابيين على حدودها، ولذلك فهي ترفض غلق الحدود لما لذلك من انعكاس على عدد الليبيين الفارين من جحيم المعارك، وحفاظا على الحركية الاقتصادية التي استفاد منها الاقتصاد التونسي الذي ما يزال يعاني شحا في الاستثمار. وتعد غالبية النخب السياسية في تونس أن اصطفاف رئيس الجمهورية منصف المرزوقي إلى جانب الحكومة بدعوى مساندة الشرعية خطأ استراتيجي يُخشى أن تدفع تونس ثمنه مستقبلا (لا ننسى كذلك أن حركة النهضة انتقدت في بيان لها عملية الكرامة التي يقودها خليفة حفتر وشددت على احترام شرعية الحكومة المدعومة من الإسلاميين والسلفيين).
وإجمالا فإن التحولات الإقليمية وتسارع وتيرة المظاهرات الليبية المنتقدة للحكومة والمؤتمر الوطني وعقد الانتخابات البرلمانية في 25 يونيو 2014 رغم الإقبال الضعيف عليها (كانت نسبة المشاركة 27 في المائة) تصب في بناء نظام سياسي تبقى مكوناته القبلية عنصرا أساسيا، لكن الفاعلين السياسيين الجدد سيكون معظمهم من التيار الليبرالي والديمقراطي والتيار الإسلامي غير الجهادي وغير التكفيري.
إن تيار الإسلام السياسي المتمثل في حزب العدالة والبناء سيدخل في أزمة عميقة في علاقة بالأزمة الهيكلية لهذا التيار بالعالم العربي ويصعب أن يكون رقما فاعلا في الحياة السياسية بليبيا مستقبلا. أما تيار أنصار الشريعة وبقايا الخلايا النائمة للقاعدة فستبقى في إطار السرية وستستفيد من بعض الولاءات القبلية لكن من الصعب أن تعود إلى حجم تأثيرها السابق.
وبقدر ما تتعزز عملية التنسيق الأمني بين دول شمال أفريقيا والساحل الأفريقي، وتتحسن مؤشرات التنمية الاقتصادية في المنطقة، والحكم الرشيد والعدالة الاجتماعية ودولة المواطنة بقدر ما تصبح الظاهرة الإرهابية بشمال أفريقيا والساحل الأفريقي في أدنى درجاتها، وسيؤثر ذلك حتما وبشكل متدرج على تقليص الظاهرة الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط في ظل ترتيبات جديدة يجري إعدادها في الشرق الأوسط حيث سارعت تركيا إلى إنعاش تحالفها مع إيران، كما أن قطر أصبحت تصرح بضرورة مقاومة التيارات التكفيرية المتطرفة ليس لإدراكها بأن ورقة الإسلام السياسي والإسلام الراديكالي عموما قد استنفدت أغراضها بل لأن المنطقة العربية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط مقبلة على تشكل جيو استراتيجي جديد يشمل:
- مصر ومعظم دول الخليج.
- إيران وسوريا وبدرجة أقل العراق الذي ما زال يعيش ظروفا صعبة منذ اجتياح داعش للموصل في 09 يونيو 2014.
وتحاول تركيا لعب دور أساسي كقوة إقليمية مستفيدة من عضويتها بالحلف الأطلسي ومن علاقاتها التجارية مع الدول العربية وخاصة مع العراق وليبيا. ومن الطبيعي أن يواجه قطبا السعودية وإيران مستقبلا تداعيات نشاط التيارات الإرهابية التي لن تنسحب بسهولة من مسرح الأحداث فما يحدث في سوريا وخاصة في العراق من تعاظم نفوذ داعش في الأنبار والموصل وما يحدث في الساحل الأفريقي من عودة القاعدة إلى شمال مالي، وما يحدث في أوروبا من نمو ظاهرة التطرف الديني يفرض أولا على هذين القطبين إيجاد توافقات حول أمهات القضايا ويفرض على المجتمع الدولي إعادة النظر في استراتيجية مقاومة الإرهاب لأن تمدد نفوذ التيارات الدينية المتشددة جغرافيا في وقت قياسي يجعل استئصالها يجري بشكل بطيء ومكلف. لذا يصبح من الحتمي الإسراع بإيجاد توافقات دولية في القضايا التي يحاول الإرهابيون توظيفها لإطالة أمد نفوذهم وسيطرتهم.