باريس تنظر لـ 5 مليون مواطن مسلم بعين الريبة

باريس تنظر لـ 5 مليون مواطن مسلم بعين الريبة

[caption id="attachment_55252795" align="aligncenter" width="620"]احد عناصر اليمين المتطرف يصعد فوق إشارة مرور ضوئية وسط برلين ضمن احتاجات نظمتها مجموعة من أقصى اليمين برو دويتشلاند تحت شعار "الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا" في شهر رمضان الماضي (غيتي) احد عناصر اليمين المتطرف يصعد فوق إشارة مرور ضوئية وسط برلين ضمن احتاجات نظمتها مجموعة من أقصى اليمين برو دويتشلاند تحت شعار "الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا" في شهر رمضان الماضي (غيتي)[/caption]

المسيرات «المليونية» التي عرفتها باريس والمدن والقرى الفرنسية جاءت «تاريخية» إن لجهة وجود 50 رئيس دولة وحكومة وعشرات الوزراء وممثلي الدول، أو لجهة نزول جحافل المواطنين الجرارة إلى الشوارع مع رسالة واحدة: «أنا شارلي»، ومضمون مزدوج: الدفاع عن حرية الكلمة والحرية بشكل عام من جهة، وإبراز إرادة الوقوف بوجه الإرهاب من جهة أخرى. لكن كل الضجيج الإعلامي والسياسي الذي رافقها اضمحل كفقاعات الصابون، لأنه لم يجب عن السؤال الأساسي أو أجاب جزئيا. مشكلته أنه بقي عند القشور ولم يغص إلى الجذور. ثم كرت سبحة الترهات وعادت الحسابات السياسية إلى واجهة الأحداث: شعبية الرئيس فرنسوا هولاند ارتفعت، فهل يعني أن أسهمه للبقاء في قصر الإليزيه عقب الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2017 قد ارتفعت أيضا؟ من الرابح ومن الخاسر؟ كيف سيتموضع اليمين الكلاسيكي بين الاشتراكيين واليسار من جهة واليمين المتطرف من جهة أخرى؟ هل ستتأثر سياسة فرنسا الخارجية بما حدث؟ وكيف ستتعامل مستقبلا مع البلدان التي يقال إنها تدعم التشدد؟
ما بين القشور والجذور، وقف رجل لم تعرف عنه طراوة العود أو ضعف الشكيمة. ومنذ أقل من 3 أعوام، التصقت به، رغم انتمائه إلى الحزب الاشتراكي، صورة الرجل الأقرب إلى اليمين منه إلى اليسار لأنه حمل دائما راية القانون والنظام ودافع عن ضرورة وجود الدولة بكل أجهزتها ومقوماتها على كل سنتيمتر من أراضي الجمهورية الفرنسية. لقد كان هذا الرجل، رئيس الحكومة الفرنسية الحالي ووزير الداخلية السابق الأكثر جرأة في وضع الأصبع على الجرح الدامي والجهر بحقيقة يريد كثيرون إخفاءها وعدم الاعتراف بوجودها والتستر عليها.. مانويل فالس كان يعي أن كلامه الفج سيحدث صدمة لدى كثيرين يمينا ويسارا، لكنه لم يتردد ولم يراوغ؛ إذ قال فالس لدى استقباله الصحافيين ظهر 19 يناير: «إن أحداث الأيام الأخيرة بينت الكثير من الأوجاع التي تضرب بلدنا والتحديات التي يتعين علينا مواجهتها. وإلى جانب كل ما نعرفه، علينا أن نضيف الانقسامات والتوترات الكامنة منذ زمن طويل، التي لا نأتي على ذكرها إلا نادرا؛ ومنها دفع بعض الفئات إلى خارج المدن وقيام غيتوات وممارسات التمييز الاجتماعي والعرقي والإقليمي التي تصيب من لا يحمل اسم العائلة المرغوب فيه أو ليست له السحنة (المطلوبة) أو لكون الشخص المعني امرأة».



تمييز عنصري




كان لهذا الكلام الأول من نوعه الصادر عن الشخص الثاني في هرم السلطة التنفيذية وقع القنبلة، لأنه يعني أن فرنسا تعيش حالة تمييز عنصري وحكوماتها تمارس سياسة الفصل العنصري بين من هو قادم إليها من الخارج وبين مواطنيها بناء على الدين واللون والموقع الاجتماعي. وبالطبع ثارت ثائرة من لم «يهضم» كلاما من هذا النوع. لكن فائدة قوله أكبر من الضرر المترتب على إعلانه؛ إذ إنه يبين وبشكل صارخ مكامن الخلل في المجتمع الفرنسي وبعض الأسباب التي أفضت إلى ارتكاب أعمال إرهابية همجية في وضح النهار وفي عاصمة الأنوار.
مهما أراد المحللون أن ينحوا باللائمة على الأفكار والنزعات المتطرفة القادمة من وراء الحدود، إلا أنهم لن يستطيعوا طمس حقيقة أولية قوامها أن انجرار بعض الشباب إلى الحركات المتطرفة والتحاقهم بها في سوريا والعراق واليمن أو في بلدان الساحل الأفريقي، لا يمكن فصله عن فشل الدولة في دمجهم في المجتمع وتلقينهم القيم والقواعد التي يقوم عليها. والسبب الرئيسي لذلك ما أشار إليه رئيس الحكومة، أي السياسات المتبعة للحكومات المتعاقبة في فرنسا يمينا ويسارا التي تخلت عن مسؤولياتها وسمحت بقيام «غيتوات» منغلقة على نفسها شكلت «بيئة حاضنة» لنوع جديد من المتشددين أو الإرهابيين الذين يتجلببون برداء الدين الذي لا يعرفون عنه الكثير.



[inset_left]يقول المسؤولون الفرنسيون إنه يتعين عليهم مراقبة ما لا يقل عن 3 آلاف شخص يمكن لأي منهم أن يتحول إلى مشروع إرهابي[/inset_left]



المعلومات الوافية التي توافرت عن الأخوين كواشي المنحدرين من عائلة جزائرية واللذين ارتكبا مقتلة مجلة «شارلي إيبدو»، وعن أحمدي كوليبالي، المالي الأصل، الذي قتل شرطية و4 أشخاص في المتجر اليهودي، تبين أن جميعهم من الهامشيين وصغار الرعاع الذين مروا في السجون. وما يصح عليهم يصح على مهدي نموش الذي ارتكب في الربيع الماضي مقتلة المتحف اليهودي في بروكسل وقبض عليه في مدينة مرسيليا، أو على محمد مراح الذي اغتال قبل عامين 4 عسكرية وهاجم مدرسة يهودية في مدينة تولوز. كل هؤلاء وكثيرون غيرهم من الذين التحقوا بالتنظيمات المتطرفة في سوريا كانوا يعيشون على هامش المجتمع الذي لم يساعدهم على الانخراط. وما دفعهم إلى اختيار طريق العنف الأعمى كرههم لمجتمعهم وشعورهم أنهم «غرباء» عنه؛ الأمر الذي استغله دعاة التطرف على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك بالسجون وفي بعض الأحيان المساجد التي يشرف عليها متشددون يحملون أفكارا متطرفة.
بالطبع، هذا التوصيف غرضه فقط تشخيص الداء وليس البحث عن «أسباب تخفيفية» لعمليات إرهابية يراد إلصاقها بالديانة الإسلامية. لكن وجه الخطورة، إلى جانب ميل بعض الأوساط إلى الخلط عمدا أو جهلا بين الدين الإسلامي والأعمال الإرهابية، أن هذا النوع من التطرف يصعب احتواؤه والتغلب عليه، فالحرب القائمة بين المتطرفين والمجتمعات الغربية هي من نوع جديد لم تتعود عليه المجتمعات الغربية المنفتحة ولا تتوافق معه القوانين المرعية الإجراء. ولذا، لا يمكن حسمها لا سريعا ولا أمنيا؛ بل تحتاج إلى وقت طويل وإلى خطط تربوية واجتماعية واقتصادية فضلا عن إجراءات وتدابير أمنية وتشريعات جديدة تحافظ على نقطة التوازن بين الضرورة الأمنية والحاجة للمحافظة على الحريات والحياة الخاصة للمواطنين.
في الأسابيع الأخيرة، وعى الغرب أنه دخل «مرحلة جديدة» شعارها «الحرب غير المتوازنة». وتقوم هذه الحرب بين الدولة وأجهزتها «الكلاسيكية» من جهة، و«عدو» غير محدد من جهة أخرى.
إذن هي ليست حربا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، ولا هي نزاع يتواجه فيه طرفان؛ بل إن الطرف المقابل يمكن أن يكون أي أحد. ولذا، المخاوف كبيرة من تكرار العمليات الإرهابية، ومن أن تكون المجتمعات الغربية قد «فرخت» كثيرين من أمثال الأخوين كواشي أو أحمدي كوليبالي.



3 آلاف مشروع ارهابي




يقول المسؤولون الفرنسيون إنه يتعين عليهم مراقبة ما لا يقل عن 3 آلاف شخص يمكن لأي منهم أن يتحول غدا إلى مشروع إرهابي. ومن بين هؤلاء 1400 فرنسي أو مقيم على الأراضي الفرنسية على علاقة بشكل أو بآخر بالتنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق وبعضهم شارك في ذبح غربيين أو حاول القيام بعمليات انتحارية فضلا عن المشاركة في المعارك. ولذا، فإن أولوية الأولويات متابعة هؤلاء ووضع اليد على كل من يعود منهم إلى فرنسا بالتعاون مع بلدان الاتحاد الأوروبي وتركيا وغيرها، إضافة إلى منع المزيد من التوجه إلى ميادين المعارك، سواء أكانوا كبارا أم أحداثا.

لكن المشكلة أن التعاون الأمني ما زال قاصرا، وأن الوسائل المادية والإنسانية غير كافية لمواجهة هذا الكم الكبير جدا من الأشخاص «الخطيرين». لذا، ثمة إجماع اليوم على أن أعمالا إرهابية ممكنة غدا أو بعد غد، وأن هناك صعوبة بالغة لتحديد المكان الذي سيضرب فيه الإرهاب.
أبعد من العمليات الإرهابية الأخيرة، يطرح سؤال أهم وأشمل ويتناول موقع الإسلام والجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية، خصوصا في أزمنة الأزمات الاقتصادية. وليس من باب الصدفة أن كاتبين فرنسيين (أريك زمور وميشال هولبيك) أصدرا أخيرا كتابين محور كل منهما الأساسي يدور حول الإسلام وتلاؤمه مع القواعد الديمقراطية وقدرة المسلمين على التأقلم وتقبل القيم الغربية ومنها العلمانية والحريات الشخصية وعلى رأسها حرية المرأة. الأول، عنون كتابه «الانتحار الفرنسي» والثاني «الخضوع». الأول، يبكي سلفا على ضياع «الهوية» الفرنسية، والثاني يتصور بلاده وقد أصبح على رأسها رئيس مسلم يطبق فيها الشريعة الإسلامية.



[inset_right]المسيرات «المليونية» في باريس خرجت للدفاع عن حرية التعبير، وإبراز إرادة الوقوف بوجه ال تطرف[/inset_right]


من نافلة القول إن العمليات الإرهابية توفر الوقود لكل أصحاب النظريات العنصرية الذين ينظرون للإسلام والمسلمين من فوق، كما تغذيها الانطواءات الطائفية والبؤس الاجتماعي الذي يصيب المهاجرين أو المنحدرين من أصول أجنبية أفريقية أو عربية.. لكن المسؤولية ليست في جانب واحد؛ بل إنها تقع على الطرفين، وفي نظرنا على النخب المثقفة، وعلى الأوساط الاجتماعية الميسورة داخل الجاليات المسلمة أو المهاجرة. ذلك أن مسؤولية هؤلاء مزدوجة؛ إذ إن عليهم أن يلعبوا دورا تثقيفيا تجاه الجاليات التي ينحدرون منها، ومن جانب آخر، تقع على كاهلهم مهمة أن يكونوا همزة الوصل بين المجتمعات التي يعيشون فيها والتي يعرفون حساسياتها ورموزها لأن أكثريتهم الساحقة من الجيل الثاني أو الثالث، وبين بيئتهم الأولى. والحال، أن هذا الدور غائب ومغيب.

لن يستهجن أحد أن يشعر المسلمون أنهم مستهدفون بالتشريعات والقوانين والإجراءات التي ستتخذها العواصم الغربية في الأسابيع المقبلة لدرء تكرار الأعمال الإرهابية. وما جرى في الولايات المتحدة الأميركية عقب عمليات سبتمبر (أيلول) 2001 أبلغ دليل على ذلك، رغم أن المجتمعات الأوروبية «غير جاهزة» للتخلي عن نمط عيشها والقبول بـ«أي شيء». بيد أن المخاوف، رغم ذلك، تكمن في أن تكون للإجراءات الجديدة نتائج معكوسة؛ بحيث إنها ستغذي عقدة الشعور بالاضطهاد وتدفع مزيدا من المهمشين إلى الانطواء أكثر فأكثر، وربما إلى التماهي مع الذين التحقوا أو يلتحقون بالتنظيمات المتطرفة.
لذا، من واجب الحكومات أن تكون أكثر حذرا، وأن تحارب بالقوة نفسها، حملة الفكر العنصري كما تحارب حملة الفكر المتطرف.
font change