
في العقود الأخيرة، رأينا كيف أصبحت إيران مسرحا لكافة أنواع ألعاب القوى بين اللاعبين الدوليين الرئيسيين، بالإضافة إلى كافة أنواع التناقضات والمفارقات. فما زال بعض الشهود الأحياء يتذكرون عندما خضعت إيران للاحتلال البريطاني والروسي في عام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد أكثر من عشر سنوات بقليل، وفي عام 1953 عاد الشاه الذي كان منفيا إلى السلطة عبر انقلاب. وبعدما أطاحت الثورة الإيرانية في عام 1979 بالشاه اندلعت الحرب الإيرانية – العراقية في 1980 واستمر ذلك الصراع المرير حتى 1988.وربما كانت نقطة التحول في الذاكرة الحديثة عندما دخلت إيران دائرة الضوء الدولية في عام 2002 وذلك بعدما وصف الرئيس الأميركي جورج بوش إيران والعراق وكوريا الشمالية بـ«محور الشر». ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا حتى أعلنت الولايات المتحدة في عام 2004 أن برنامج إيران النووي يمثل خطرا متناميا وطالبت بفرض عقوبات دولية عليها.
بينما يرى بعض المحللين أن سياسة إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش المعتمدة على مواجهة التهديدات المعادية لم تؤدِ إلا إلى تعزيز برنامج إيران النووي، أشار البعض الآخر إلى الدور الذي لعبته جماعات الضغط الرافضة لسياسات طهران في الكونغرس الأميركي والضغوط التي مارستها على صناع السياسة الأميركية لكي تصبح أكثر معاداة لإيران.
ولم تكن هناك وحدة صف على الجانب الإيراني أيضا؛ حيث كان المفاوضون دائما ما يتعرضون لضغوط الجمهور الإيراني الذي كان مستاء من ازدواجية المعايير الغربية (في إشارة إلى تزويد الولايات المتحدة إسرائيل والهند وباكستان بطائرات مقاتلة مجهزة لحمل رؤوس نووية) للحد من برنامجهم النووي. وبالفعل، كانت الحكومة الأميركية، في الفترة بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي، تشجع الشركات الأميركية على بيع المفاعلات النووية للحكومة الإيرانية التي كانت وقتذاك خاضعة لحكم الشاه.
ولسنوات طويلة، كان هذا النزاع المستمر يبدو لا نهائيا، حتى عندما انتخب حسن روحاني كرئيس للبلاد في يونيو (حزيران) 2013 بعد فوزه بنسبة تزيد قليلا على 50 في المائة؛ حيث كان ينظر إليه كرجل ذي توجهات دينية معتدلة وكان يحظى بدعم الإصلاحيين. وقد وعد روحاني خلال حملة انتخابه بأن يضع على قمة أولوياته قضية التوصل لصفقة فيما يتعلق بالعقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران نظرا لبرنامجها النووي. وكان لهذه العقوبات أثر سلبي للغاية على الإيرانيين حيث كانت تؤثر على كافة مناحي الحياة الاقتصادية كما تقلل عائدات البترول الإيرانية مما أجبر الحكومة على تخفيض الإنفاق وأدى إلى تقلص حاد للعملة.
الأصول الإيرانية المجمدة
وأخيرا، وفي يوليو (تموز) 2015 وقعت إيران وخمس دول هي الأعضاء الدائمون بالوكالة الدولية للطاقة الذرية بالإضافة إلى ألمانيا «الاتفاقية الشاملة للبرنامج النووي الإيراني» التي وافقت إيران بمقتضاها على الحد من برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات. وفي بداية العام الحالي تم رفع العقوبات بعدما أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران أوفت بوعودها بالحد من أنشطتها النووية.
على أي حال، تبدو قضية المفاوضات النووية مثيرة للاهتمام على نحو خاص لأنها تعمل كمرآة تعكس الصراع والتوترات الموجودة لدى كافة الأطراف وداخل إيران نفسها. النزاع بين من يرغبون في حدوث انفراجة في العلاقات مع الغرب ومن يرون داخل إيران أن عزتها القومية وسيادتها أصبحتا على المحك، والنزاع بين من يريدون لإيران أن تسير قدما وتلعب دورا حيويا في المجتمع الدولي ومن يستفيدون من الوضع الراهن، والنزاع بين من يرغبون في الحداثة والتقدم الاقتصادي والمزيد من الحريات ومن يستفيدون من الشبكات الراسخة.
والآن بعدما تم رفع العقوبات وتوقيع الاتفاقية (التي تحد بفعالية من برنامج إيران النووي مقابل الإفراج عن الأصول الإيرانية المجمدة وإعادة فتح الأسواق الإيرانية أمام التجارة الدولية)، من المفترض أن تشهد إيران قدرا من التحسن خاصة فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر والتجارة وارتفاع معدل النمو وهو ما تحتاجه بشدة.
جدير بالذكر أن الاقتصاد الإيراني يعاني من الكثير من نقاط الضعف حيث يعتمد إلى حد كبير على صادرات البترول والغاز رغم أن لديه قطاعات زراعية وصناعية وخدمات قوية. وتمتلك الحكومة الإيرانية وتدير الكثير من القطاعات كما تهيمن على نحو غير مباشر على الكثير من الشركات التابعة للأجهزة الأمنية بالبلاد. ويعاني النمو الاقتصادي المعتمد على القطاع الخاص نظرا للتضخم والتحكم في الأسعار والنظام البنكي الذي لديه مليارات الدولارات من القروض متعثرة السداد.
استنزاف للعقول
وفي ظل هذه الخلفية، ليس مفاجئا أن نجد نشاطا كبيرا للسوق السوداء وفسادا متفشيا ومعدلات بطالة مرتفعة. وقد دفع الافتقار إلى فرص العمل بالتزامن مع القيود الشديدة على الحريات وانتهاك حقوق الإنسان الكثير من الشباب الإيراني المتعلم إلى السعي للعمل بالخارج مما أسفر عن «استنزاف كبير للعقول».
والآن وبعد توقيع اتفاقية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، سوف ينتقل التركيز على قضايا أخرى أكثر إلحاحا، مثل دور إيران كلاعب إقليمي في النزاعات في الدول المجاورة بالإضافة إلى الحياة اليومية في إيران وما يعنيه ذلك للمواطن العادي. مما لا شك فيه أن التحديات كبيرة. وما زالت الحريات المدنية وحرية الصحافة والحريات السياسية على قمة أمنيات الكثير من الأشخاص بالإضافة إلى حقوق أفضل للمرأة (تمنح قوانين الحقوق الشخصية وضعا أقل للمرأة مقارنة بالرجل في الكثير من مناحي الحياة) وتحرير الاقتصاد.
وما زال التعذيب وغيره من أنواع سوء المعاملة سائدين، كما تتعرض المرأة والأقليات العرقية والدينية للتمييز المستمر. وما زالت عقوبة تقطيع الأوصال تنفذ في بعض الأحيان علانية، وذلك وفقا لما تؤكده منظمات حقوق الإنسان، كما أن معدل تنفيذ حكم الإعدام مرتفع للغاية حيث إن لديها أعلى معدلات تنفيذ حكم الإعدام على مستوى العالم. ويطبق الحكم في بعض الأحيان على القصر. ويتعرض الشباب باستمرار للاستهداف وإلقاء القبض عليهم لارتكابهم أخطاء بسيطة. وعادة ما تلاحق شرطة الأخلاق المكروهة للغاية والميليشيات غير الرسمية الناس الذين ترى أنهم غير ملتزمين دينيا. وتدير الوكالات الأمنية والاستخباراتية مؤسسات للاحتجاز خارج نطاق سجون الدولة في انتهاك واضح للقانون الوطني.
وتأتي هذه الصورة المتشائمة في تناقض واضح مع التفاؤل الذي ساد في يونيو 2013 عندما تم انتخاب حسن روحاني. فقد كانت هناك آمال كبرى تنعقد على أن تقدم إدارته إصلاحات لحقوق الإنسان ولكن حتى الآن لا يوجد أي تقدم ملحوظ. فحتى التغييرات البسيطة مثل جهود الإدارة لتخفيف قبضتها على الحرية الأكاديمية على سبيل المثال سرعان ما قضى عليها المحافظون داخل البرلمان.
[blockquote]الافتقار إلى فرص العمل والقيود على الحريات وانتهاك حقوق الإنسان دفع الشباب الإيراني المتعلم للعمل بالخارج [/blockquote]
ومن جهة أخرى تمثل وسائل الإعلام ساحة معركة أخرى لحروب الرأي؛ وذلك حيث يخضع البث التلفزيوني في إيران لهيمنة الحكومة ولا يعكس إلا الموقف الرسمي للدولة. وبالنسبة للصحافة ووسائل الإعلام الاجتماعي، فإنهما تشهدان قدرا أكبر قليلا من التنوع في الآراء. ومع ذلك، ينتهي الحال بالكثير من الكتاب والمحررين في السجن إذا ما بدا أنهم يطالبون بقدر كبير من التغيير أو يغردون خارج السرب. وقد وصف مراقبو وسائل الإعلام إيران بأنها «من بين أكبر خمسة سجون في العالم بالنسبة للصحافيين» (بي بي سي).
وتعد الأحزاب السياسية الرسمية ظاهرة حديثة نسبيا في إيران، حيث لا يزال معظم المحافظين يفضلون أن يعملوا من خلال جماعات الضغط السياسي وليس عبر الأحزاب السياسية.
ويعد تشكيل مجلس الوزراء الذي يتم اختياره مرة واحدة كل ثماني سنوات على نفس الدرجة من الأهمية بالنسبة للمستقبل السياسي لإيران؛ حيث يمنح الدستور الإيراني هذه الهيئة مهمة اتخاذ القرار بشأن الجيل الجديد من القادة السياسيين والدينيين للبلاد. ومن المرجح أن يكون المجلس الجديد مسؤولا عن اختيار خليفة الزعيم الثوري السابع أي علي خامنئي الذي يبلغ 77 عاما.
مما لا شك فيه أن نتائج هذه الانتخابات سيكون لها أهمية بالغة بالنسبة للسياسة الداخلية والخارجية لإيران. فقد شهدنا خلال الشهور الأخيرة السياسة الخارجية الإيرانية وهي تعمل بحرية بعدما أطلقت يدها الحرب في سوريا. وذلك حيث تعمل كل من روسيا والأسد بالإضافة إلى إيران على تشكيل الأجندة في سوريا مكونين تحالفا غير رسمي للحفاظ على «سوريا القديمة» كما يطلق عليها بعض المعلقين في تجاهل كامل لاتفاقية وقف إطلاق النيران التي تم توقيعها مؤخرا في ميونيخ.
وقد أسفر انهيار أسعار البترول عن اتفاقية غير متوقعة مع المملكة العربية السعودية ويمكن النظر إلى الموافقة الإيرانية على خطة سعودية لاستقرار أسعار البترول العالمية كنصر دبلوماسي للمملكة العربية السعودية. جدير بالذكر أن الدولتين على طرفي نقيض من الساحة الجيوسياسية.
ومع ذلك فإن أحد أكثر الأشياء التي يمكن التنبؤ بها في هذه المنطقة هو أنها غير متوقعة إلى حد بعيد. وسواء اعتقدنا بذلك أم لا، لا يمكن إنكار أن إيران برزت مرة أخرى كقوة إقليمية في المنطقة. والسؤال هو إلى أين ستذهب من هذه النقطة وهل سيتمكن صناع القرار الجدد من اتخاذ الإجراءات الصحيحة لتوجيه البلاد في الاتجاه الذي تصبح عبره قادرة على أن تتخذ مكانها الصحيح في القرن الحادي والعشرين؟ وهل ستستغل نفوذها الاستراتيجي في الخير؟ ما زالت تلك الأسئلة تنتظر الأجوبة.