هل نفرت طائفة حقاً؟

نحن لا نزرع الشوك (3)

هل نفرت طائفة حقاً؟

لم يكن من الممكن أن نمر مرور الكرام على دور الأحاديث في التراث الإسلامي دون أن يمسها رذاذ حجرنا الذي ألقيناه في الماء الراكد، ولأن الكلام في هذا العلم مثله كمثل الحاطب بليل، لذا وجب علينا الخوض فيه بلطف ودون تطاول على الذي روى أو الذي جمع أو الذي صحح، فكلهم اجتهدوا قدر طاقتهم وعلينا نحن الاستيعاب والتصحيح دائما بديناميكية لا تعرف التوقف. وإلا ما فائدة الطائفة التي نفرت لتتعلم كلام الله.  

 

وعلينا أن نلاحظ كلمة النفر، وهي تفيد الهمة والشجاعة والإقدام، وهكذا وصف القرآن علماء الدين، فلا مجال هنا للتقاعس أو تكرار ما مل الناس من سماعه ولو صادفنا حديثا لا يمكن تقبله عقليا لا يجب أن نهاجم الراوي أو الجامع أو المصحح، ولكن نعرضه على أدوات البحث العصرية ونخرج بنتيجة واحدة، هل هذا حديث صحيح أم لا؟ ولا يجوز التحجج بالرواة حتى ولو كانوا من السلسلة الذهبية، فكل يؤخذ منه ويرد. وهنا يأتي دور الشجاعة، فلا تأخذنا فى الحق لومة لائم.

 

وكما كانت السلسلة الذهبية هي إحدى أدوات البحث وقت جمع الأحاديث، فعندنا الآن مناهج كثيرة للبحث. بل هناك علم خاص بمناهج البحث، وكما قلنا من قبل فإن جمع وتبويب الأحاديث عمل بشري بحت يمكن أن يخضع لمناهج البحث دائما وأبدا؛ فنحن نعلم علم اليقين أن هناك أحاديث كثيرة دُست على الصحابة لأسباب سياسية أو دعوية أو بقصد تلويث السنة المطهرة أو نتيجة للعداء العقائدي مثل ما بين السنة والشيعة أو ما بين المذاهب العقائدية السنية وبعضها؛ فالأشاعرة خطّأوا الماتريدية والقدرية والجبرية والمرجئة، ويجب أن لا تستبعد وضع الأحاديث لنصرة مذهب على آخر. ثم هناك الخلاف بين المذاهب الفقهية؛ فالظاهرية خطّأوا الإمام مالك، مع أنهم في الأصل مالكية كعموم الأندلس والمغرب العربي، ناهيك عن خلاف الإمام الشافعي مع أستاذه الإمام مالك الذي كان يكره فقه العراقيين الذي أسسه الإمام أبو حنيفة، لأن مالك كره فقه أبي حنيفة لأنه يعتمد القياس في أحكامه. والإمام مالك يقدم عمل أهل المدينة على بعض الأحاديث لأنه يقول إن أهل المدينة ورثوا العلم كابرا عن كابر، ومع ذلك رفض أن يكون الموطأ هو الفقه المعتمد فقط عندما هم الخليفة هارون الرشيد بأن يجبر جميع الفقهاء على التقيد بالموطأ كدستور جامع شامل للمسلمين.

 ورغم كل هذه الخلافات لا يسعنا إلا إجلال أئمتنا العظام وأن لا نذكرهم بسوء، بل نطلب لهم الرحمة والأجر على ما أسهموا به في توطئة الأحكام الفقهية لمداركنا. ويبقى الإمام أحمد بن حنبل لأنه أثار كثيرا من التساؤلات: هل هو فقيه أم جامع للحديث؟ ونعتقد أن كفته تميل نحو جمع الأحاديث في مسنده وهو أكثر من جمعوا الحديث بكل أنواعه من المتواتر إلى الضعيف، وأعلن أنه حيثما وُجد حديث فهو مذهبه، وهذا مما جعل مذهبة ينمو ويكثر الإخراج  منه حتى بعد وفاة الإمام أحمد ابن حنبل. فقد يكتشف بعض شيوخ مذهبه حديثا جديدا فتتم الفتوى به، وهكذا ليس هناك سقف يقف عنده المذهب.

لذا فإنك تجد أكثر المتطرفين في العصر الحديث يتباهون بأنهم حنابلة كما كره العامة ما عُرف تاريخياً بأرزال الحنابلة الذين كانوا في أوج مجدهم يكبسون الدور ويفتشون المنازل ويضربون المخالفين لهم في الشوارع مع أن الإمام أحمد بن حنبل كان مثالا لدماثة الخلق والتواضع، ولكنه منهج أينما وجد حديث فهو مذهبي، جعل صبيان الكتاتيب يخرجون علينا بفقه جديد اسمه فقه الموت لأقل هفوة، وفقه التكفير لأقل الأفعال، حتى وإن كانت من اللمم التي يغفرها الله، أو من منطقة العفو التي لا يؤاخذنا الله بها.

 فهل بعد هذه المقدمات هناك من يشك في أننا نحتاج إلى فحص وتمحيص للأحاديث التي هي عماد السنة المطهرة سواء كانت إقرارا أو فعلا أتى به سيد الأنام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحاديث قدسية تفيدنا في آخر بحثنا عما يجب أن نفعله، للولوج إلى خارطة طريق تُخرج أمة المسلمين من الضعف إلى القوة السلمية التي توفر الرخاء لأبنائها ويسلم الجيران من أذاها.

وعلينا الآن بحث الفقه الإسلامي الذي هو التطبيق العملي لسلوك وآداب الإسلام ثم الحدود، لأن الإسلام تربية ومنهج حياة وضع لإنشاء حياة صحية وسليمة للإنسانية جمعاء والحدود هي آخر الدواء، مثل كي الجروح وزواجر لتقويم الفروع المائلة حتى تثمر الشجرة. ولا معنى لها إلا إذا تربى الإنسان على قيم الخير والجمال وهذه هي وظيفة الدين الحقيقية، فلم يهبنا الله الإسلام لكي نقطع يد السارق بل لنمنع احتياج الإنسان للسرقة، ولو فشلنا فلا حدود، ولدينا عام الرمادة كمنهج لذلك.

لهذا كله كان واجب الفقهاء هو ترشيد إطلاق الأحكام والتيسير على المسلمين أينما وجد السبيل لذلك دون الارتباط بفقه معين. فلو وُجد فقه مناسب عند المذهب الجعفرى فأهلاً وسهلاُ كما أخذنا الوصية الواجبة من المذهب الأباضي وهي الطائفة الوحيدة الباقية من الخوارج، وتتميز بالاعتدال والتعايش مع مخالفيهم، ولا تكفر أحدا وقد صدر قانون الوصية الواجبة فى المحاكم الشرعية المصرية تحت رقم 71 لسنة 1946.

ونظراً لأهمية هذا القانون لإبراز عظمة الفقة الإسلامي فى إيجاد علاج لما يستجد من مشاكل، فسنعرض موضوع الوصية الواجبة بعجالة؛ والمسألة تتلخص فى أن المذاهب الفقهية الأربعة تحرم ميراث الأحفاد من الجد إذا مات الأب فى حال حياة الجد، مما ينتج عنه فرع فقير فى العائلة الواحدة وشعور بالحقد داخل االأسرة الواحدة دون ذنب فكان الحل هو المذهب الأباضى الذي افترض وجود وصية من الجد لأحفاده الذين غيب الموت أبيهم، وهكذا يكون الفقة أداة لإسعاد المجتمع المسلم، ويكون منهجهم هو منطقة العفو التى ذكرت فى القرآن الكريم، وهي الأفعال التي لم تمنع أو تجرم بنص، وهو مبدأ قانوني أخذت به أوروبا حديثاً تحت قاعدة قانونية لا عقوبة بلا نص، وقد عمل الفقة الإسلامي بذلك منذ 14 قرناً وأن الأصل فى الأشياء هو الإباحة ما لم تقيد بنص يبقى الآن محاولة بعض معالم لخارطة طريق.. حتى لا نزرع الشوك.

يتبع

font change
مقالات ذات صلة